للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

امرأة وموقف

أم حبيبة.. رضي الله عنها

مؤمنة الشلبي

مؤمنة قانتة، مهاجرة صابرة، عرف الإيمان طريقه إلى قلبها فعاشت له

وتحملت في سبيله العذاب والتنكيل.. هي أم المؤمنين رملة بنت أبي سفيان صخر

بن حرب.

جمعت - رضي الله عنها - إلى رفعة النسب والحسب، الغنى الوافر،

والعقل الراجح، تزوجها عبيد الله بن جحش؛ فأسلمت معه وهاجرت إلى الحبشة

واعتصمت بدينها حين ارتد، فقضت أيامها في ديار الهجرة بين عذابين: عذاب

الغربة، وعذاب الترمل.. ولكنها - وبإيمانها الذي سكن جوارحها فأضاءها -

استطاعت أن تصمد في وجه المحنة بكل صبر وعزيمة.. إلى أن خطبها رسول

الله - صلى الله عليه وسلم - من النجاشي (ملك الحبشة) الذي أكمل هذا الزواج

المبارك بين سيد البشر وبين المرأة المؤمنة الصابرة، التي عوضها الله بصبرها

عن زوجها الهالك برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأقامت في بيته زوجة

مخلصة، تقدر مسؤوليتها، وتحرص على إسعاد زوجها الكريم وطاعته.

ولأم المؤمنين أم حبيبة - رضي الله عنها - مواقف كثيرة مشرقة في حياتها

تعتبر أمثلة ونماذج حية لكل الدعاة إلى الله، نختار من بينها ذلك الموقف الجريء

العظيم، الذي تتجلى فيه مظاهر الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين، والبراء من

الطواغيت، ومن كل مشرك لا يؤمن بالله، وإن كان أقرب قريب.

الموقف:

ذكر ابن سعد - في كتابه (الطبقات) - أنه لما قدم أبو سفيان بن حرب

المدينة جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يريد غزو مكة، فكلمه

أن يزيد في هدنة الحديبية، فلم يقبل عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقام

ودخل على ابنته أم حبيبة، فلما ذهب ليجلس على فراش النبي - صلى الله عليه

وسلم - طوته دونه فقال: يا بنية أرغبتِ بهذا الفراش عني أم بي عنه؟ فقالت:

بل هو فراش رسول الله، وأنت امرؤ نجس ومشرك، ولم أحب أن تجلس على

فراش رسول الله.

فقال: (يا بنية، لقد أصابك بعدي شر) ! ، ثم خرج.

تحليل الموقف:

وهكذا قُدر لأم حبيبة - رضي الله عنها - أن تواجه والدها بعد فراق دام

سنوات منذ أن أسلمت وفرّت بدينها إلى الحبشة، وأذهلتها المفاجأة ... حتى أنها لم

تدرِ ما تقول ... بل كيف تستقبل والدها سيد قريش وزعيمها المطاع ... ولعل أبا

سفيان قدر الموقف والتمس لابنته العذر، إذ لم تستقبله، ولم تدْعُه للجلوس، فتقدم

بنفسه ليجلس على البساط المفروش في ركن الحجرة ... وفجأة تعود المؤمنة إلى

هدوئها لتتصرف أمام هذا الحدث بكل رباطة جأش وعقيدة راسخة، لا مجاملة فيها

ولا محاباة، لتطوي البساط المتواضع، قبل أن تدوس عليه أقدام الشرك والطغيان

المتمثلة في أبيها آنذاك، ووقف أبو سفيان حائراً إزاء ما فعلته ابنته، فسألها: هل

كان طيك للفراش لأنك لا ترغبين أن أجلس عليه لسبب ما؟ ! أم أنك طويته لأنك

ترين أنه فراش لا يليق بمكانة أبيك؟ ؟

وأجابت أم المؤمنين بثبات، وثقة، واستعلاء إيمان، غير جازعة من سلطان

سيد قريش وجبروته، قائلة: بل هو فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

وأنت رجل مشرك ونجس، ولم أحب أن تجلس على فراش رسول الله.

ولم يكن من أبي سفيان - وهو يسمع هذه الكلمات القاسية التي لم يكن يتصور

على الإطلاق أن تتفوه بها ابنته - إلا أن كبح جماح غضبه فقد تذكر المهمة التي

جاء من أجلها، وقال لها - وهو يتميز من الغيظ -: (لقد أصابك يا بنية بعدي شر) ، ثم خرج غاضباً؛ ليبحث عن شفيع آخر ليتابع مهمته ... ولكن أنَّى للكفر أن يجد له شفيعاً بين هؤلاء المؤمنين الذين تغلغل حب الله ورسوله في نفوسهم ... فلم تعد تخدعهم المظاهر الجوفاء ولا القوى والاعتبارات التي تتعبد الناس في الجاهلية.

وكم نحن بحاجة ماسة - ونحن في غمرات الفتن العظيمة والأحداث السريعة

المتلاحقة - لترسيخ عقيدة

الولاء والبراء في النفوس؛ حتى لا يتكالب أعداء هذا الدين عليه من كل

حدب وصوب، طامعين في إطفاء نور الله بكل الوسائل المتاحة لهم ... هدفهم

الأول والأخير تشويه صورة الولاء والبراء، وفسخ ولاء المسلم لدينه وإخوانه

المؤمنين وزعزعة برائه وعداوته للكفار، عن طريق نشر الدعوات الهدامة بأسماء

براقة من قومية، ووطنية، وعالمية ...

وأفلح الاستعمار في تكوين جيل يرفض العمل تحت لواء الإسلام ويستحي من

الانتساب إليه وأصبح عوناً لأعداء هذا الدين وقدم ولاءه وتبعيته لهؤلاء.

وهنا نتساءل.. أين فتيات عصرنا - المبهورات بفتنة الغرب المتمردات على

حياة الزوجية - من أم حبيبة التي لم تعرف صلة إلا صلة الإسلام، ولم تعرف

ولاءً إلا لله ورسوله، ولم تعلم براءً إلا من الكفر والشرك؟ ! !

أين فتياتنا ونساؤنا اللاتي انخدعن بالحياة الدنيا وزينتها وشهواتها؛ فغمر

قلوبهن وران عليها حب المال والشهوات.. من تلك المؤمنة التي غمر قلبها حب

الله وحب رسوله فلم يبقَ فيه إلا تلك المحبة الطاهرة؟ !

أين أنتن يا مَن ترتعد فرائصكن خوفاً وذعراً من البوح بكلمة الحق ... من

تلك التي ضنت بفراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أبيها، وقالت له

تلك الكلمة القاسية وهو الذي لم تسمع منه إلا طيب الكلام وأحسنه؟ !

شتان ما بين حال فتياتنا الضائعات المشغولات بالتافه من الأمور، وحال تلك

الصفوة المباركة من أمهات

المؤمنين، والصحابيات الجليلات، والمؤمنات اللاتي أشرقت قلوبهن بنور

الله؛ فلم يتلكأن في طاعة الله ورسوله، والبراء من كل معصية لهما..... ...

أما آن الأوان لنسائنا وفتياتنا أن يتحلين بتلك الصفات ويمددن أياديهن ...

للمساهمة في بناء صرح الإيمان؟ ، ألم يأنِ لقلوبهن أن تصبح عامرة بحب

الله وحب رسوله؟ .

إن هذا لن يكون إلا بالبراءة من كل منهج وتشريع غير منهج الإسلام،

والبراءة من كل فكر يناقض هذه العقيدة التي كانت سبب ظهور الرعيل الأول من

النساء المؤمنات.