للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المسلمون والعالم

[هل سوريا بعد العراق؟!]

مواجهة الهجمة الأمريكية بمنظورها الاستراتيجي

نبيل شبيب [*]

www.midadulqalam.net

إلى جانب الأخطاء الكبرى الكامنة في سياسات التبعية خارجياً، والاستبداد

داخلياً، والنزاعات عربياً وإسلامياً؛ كانت سياسة مواجهة الأزمات على الطريقة

العربية وما تزال حافلة بالأخطاء جملة وتفصيلاً؛ بدءاً بانعدام استشراف وقوعها أو

تجاهل مؤشراتها، مروراً بأسلوب البيانات والتصريحات الانفرادية أو الجماعية بعد

وقوعها في لقاءات القمم وسواها، ولكن دون مضمون أو بمضمون ضعيف لا

ترافقه خطوات عملية، وانتهاءً بالتنازلات والتراجع أمام مختلف درجات الضغوط

والتهديدات الخارجية، التي تزداد بذلك التراجع، وقد باتت دول عربية تشارك في

ممارسة الضغوط، ناهيك عن المشاركة في العدوان نفسه، لدفع دول عربية أخرى

إلى التراجع إذا ما أظهرت بعض أشكال الرفض والممانعة، ولو بحدودها الدنيا.

* تزييف مضمون «الأزمة» :

الحرب ضدّ العراق بعد سنوات الحصار كانت «حصيلة» السياسة العدوانية

الأمريكية، وحصيلة هذه السياسات العربية في وقت واحد، وبقي تسويغ ممارسة

تلك السياسات حتى اللحظة الأخيرة قبل نشوب الحرب هو أنّ «التراجع» يمكن

أن يمنع إعطاء «المسوغات» للعدوان.. ولكن وقع العدوان رغم التراجع إلى

أقصى الحدود الممكنة. ولا تنقطع الشواهد على مثل ذلك في مجرى أحداث قضية

فلسطين وتطوّراتها.

والآن.. تبدو «الحرب ضدّ سورية» لجهات عديدة احتمالاً بعيداً؛ وهذه

وفق ما سبق نظرة قاصرة؛ إذ يمكن أن تقع أيضاً، أمريكياً أو إسرائيلياً أو بصورة

مشتركة علناً، إذا ما استمرّت الأخطاء الكبيرة، وأخطاء مواجهة الأزمات؛ هي

العلامة المميّزة للسياسات العربية.

الآن وبعد أن تحول «القبول العربي الجماعي» لمسألة نزع أسلحة العراق

كسبب للحرب، إلى «سابقة» قابلة للتكرار في التعامل مع الدول العربية؛ بدأ

طرح هذه «الذريعة» نفسها على شكل تهديدات موجّهة إلى سورية بعد العراق.

ولسوف تتحوّل إلى سبب مزعوم للحرب ضدّ سورية آجلاً أو عاجلاً، ثمّ ضدّ

سواها لاحقاً:

- ما دامت الدول العربية لا تعلن «جماعياً» ، وبكل وضوح، أنّ من حقّها

التسلّح بكل وسيلة للدفاع عن نفسها، ولا ترفض «جماعياً» وبكل وضوح كل

طلب من طلبات نزع السلاح؛ بينما توجد دول كبرى وصغرى تتسلّح دون حساب

ولا رقابة، وتستخدم السلاح في حروب عدوانية كالدولة الأمريكية ناهيك عن الكيان

الإسرائيلي في قلب الأرض العربية الإسلامية، أو دول أخرى تتسلّح للدفاع

المشروع عن نفسها.. وناهيك أيضاً عن عدم وجود أيّ نص في مواثيق الأمم

المتحدة يحظر «التسلّح» عن أيّ دولة من الدول ذات سيادة..

- وما دامت الدول العربية بما في ذلك سورية، تستخدم اللغة الأمريكية نفسها

في تحويل «التسلّح» إلى تهمة.. فتدفعها عن نفسها، وسيّان بعد ذلك هل صدقت

أم لم تصدق؛ فالأهمّ من ذلك هو أنّها تعطي من خلال سياسة «دفع التهمة»

للدولة العدوانية فرصة لتصعيد طرح القضية على شكل «اتهام» وتحويله إلى

مسوّغ للعدوان..

- وما دامت الدول العربية تتصرّف أمام التهديدات الخارجية، بصورة

انفرادية، بل وبما يشمل مواقف وممارسات عدائية تجاه بعضها بعضاً..

ويمكن رؤية المشهد نفسه من خلال تحويل قضية احتمال لجوء بعض القادة

السياسيين العراقيين إلى الأرض السورية بغض النظر عن رفض استبدادهم

وسياساتهم من قبل إلى «تهمة، يوجهها الأمريكيون، ويدفعها السوريون عن

أنفسهم» .. وكأنّ حق «اللجوء السياسي» ليس حقاً مضموناً في المواثيق الدولية،

ويشمل أن يحصل عليه السياسيون في حالة العراق، كما يشمل أن يمنحه

السياسيون في دولة مستقلة كما في حالة سورية.. حتى إنّ منظمات حقوق الإنسان

أعلنت من جانبها مطالبة سورية بمنح حق اللجوء السياسي لمن يصل إليها من

الساسة العراقيين، لا سيما وهي ترصد كيف تتخلّى الولايات المتحدة الأمريكية عن

أي مرجعية دولية في شنّ الحرب ضدّ العراق، وعن أي التزام بمواثيق دولية لحالة

الحرب والاحتلال، فتلاحق الساسة العراقيين كمجرمين وليس كأعداء أو أسرى

حرب..

* العدوان مرجّح «استراتيجياً» :

وتلتقي جملة أخطاء سياسة مواجهة الأزمة عربياً من خلال حصر متابعتها في

نطاق التفاصيل التي تطرحها «السياسات اليومية» . فإطلاق واشنطن اتهاماً أو

تهديداً لسورية أثناء المرحلة الأخيرة من عملياتها الحربية ضدّ العراق، لتحقيق

سلسلة من الأهداف الآنية، ربّما كان منها سدّ أبواب لجوء من بقي حيّاً من الساسة

العراقيين إلى دول أخرى، أو من قبيل انتزاع تنازلات ما من سورية في المرحلة

الراهنة من قضية فلسطين أو الترتيبات الأمريكية لاحتكار منابع النفط وأنابيبه

وأسواقه..

ولا يهمّ كثيراً وجود أكثر من تيار داخل الإدارة الأمريكية، ووجود خلافات

بشأن «الأسلوب» المتبع في التعامل مع هذه الدولة أو تلك، وهذه الأزمة أو تلك

.. ولكنّ المعروف عن السياسات الأمريكية أنّها كانت وما تزال لا تخرج عن الخطّ

الأساسي الذي انتهجته لنفسها وجعلت الهيمنة العالمية هدفاً له، رغم تبدّل الحكومات

والأشخاص، إذ لم يتبدّل في الماضي ولن يتبدّل في المستقبل المنظور جوهر

العناصر الرئيسية المتحكمة في صناعة القرار الأمريكي.. وهذا على امتداد عدّة

عقود، وليس في فترة ما بعد تفجيرات نيويورك وواشنطن الماضية، أو ما بعد

الحرب ضد العراق.

إنّ لسورية - كما هو الحال - مع بلدان أخرى ولا سيما العربية والإسلامية

موقعاً محدّداً في الصيغة «الاستراتيجية» البعيدة المدى للدولة الأمريكية، المؤلفة

من قوى تصنع القرار، سواء كان اسم الرئيس الأمريكي كلينتون أو بوش،

وكارتر أو ريجان.. وهذه الصيغة هي التي تصنع الحدث أمريكياً في نهاية

المطاف.

هذه الصيغة تتبدّل من حقبة إلى أخرى على أساس التبدّلات الكبرى في النظام

الدولي، وليس على أساس الموقف السوري أو الموقف المصري أو الموقف

السعودي من هذه «الجزئية» أو تلك من مسلسل الأزمات والحروب ومسلسل

الضغوط والتهديدات.. مقابل مسلسل التراجع والتنازل والمشاركة في تمكين

الأمريكيين من الانفراد بدولة بعد أخرى في المنطقة.

وآخر أشكال هذه الصيغة «الاستراتيجية» كان وليد انهيار المعسكر

الشيوعي، وهو ما حمل عنوان «استراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية في القرن

الميلادي الحادي والعشرين» . وقد وضع صياغتها الأولى «وولفويتز» النائب

الحالي لوزير الدفاع الأمريكي، عام ١٩٩١م، وكان تبنّيها رسمياً ونشرها لتمثل ما

يسمّى بتيار المحافظين الجدد أو المحافظين الأصوليين، في نهاية عام ٢٠٠٠م،

قبل استلام بوش الابن منصبه رسمياً، وقبل تفجيرات نيويورك وواشنطون بتسعة

شهور.

وفي هذه الصيغة دخل واقعياً اعتبار المنطقة الإسلامية هي المنطقة المستهدفة

في المرحلة المقبلة، وهذا ما سبق أن أعلنه في مطلع عام ١٩٩١م في منتدى

ميونيخ للشؤون الأمنية، ديك تشيني، وزير الدفاع الأمريكي آنذاك، والنائب

الحالي للرئيس الأمريكي، وعُرف بصيغة «الإسلام عدوّ بديل» .

- في تلك الصيغة يُذكر العراق مع إيران وكوريا الشمالية كأهداف عسكرية،

لحروب مقرّرة سلفاً، ولتصبح الدول الثلاثة بعد شهور عديدة «محور الشرّ»

في تصريحات الرئيس الأمريكي ومساعديه، كما لو أنّهم يتحدّثون عن تداعيات

التفجيرات في نيويورك وواشنطن.

- كذلك تذكر الصيغة المذكورة القواعد العسكرية الأربعين التي أقيمت ما بين

جنوب آسيا وشبه الجزيرة العربية والبلقان كما لو كانت من حصيلة للردّ على تلك

التفجيرات، وذلك في الفترة ما بين الحربين ضدّ أفغانستان والعراق.

- الهيمنة الأمريكية الشاملة على منابع النفط وخطوط نقله، وتمكين الكيان

الإسرائيلي من الهيمنة العسكرية المطلقة في المنطقة العربية، وتثبيت الزعامة

الانفرادية الأمريكية مع منع أي دولة منافسة كاليابان وألمانيا بالتحديد من الوصول

إلى مستوى تشكيل «خطر» على هذه الزعامة، جميع ذلك وسواه مذكور في تلك

الصيغة «الاستراتيجية» أيضاً.

بهذا المنظور يمكن القول إنّ الوصول بالسياسة السورية إلى مستوى التبعية

المطلقة للمخططات الأمريكية والصهيوينة في المنطقة، عبر الضغوط والتهديدات

أو الحرب، ليس «حدثاً» قائماً بذاته، إنما هو بدوره محطة من المحطات

الأمريكية، كمحطة الحرب ضدّ العراق، في مسلسل تنفيذي، يجري تطبيقه وفق

تلك الصيغة الموضوعة للقرن الميلادي الحادي والعشرين.

ومقابل ذلك فإنّ النظرة الرسمية العربية إلى الحدث كأزمة «ثنائية» بين

دمشق وواشنطن، ومن ثم حصر محاوره فيما يُعلن رسمياً من تهديدات ومطالب،

لا يمكن أن توصل إلى رؤية تستوعب أبعاد الحدث؛ ناهيك عن الوصول إلى

تحديد السبل الأجدى للتعامل معه، بل إنّها نظرة تكرّر ما كان قبل الحرب العدوانية

ضدّ العراق، فتمهّد على أرض الواقع لحرب عدوانية ضدّ سورية.

* المواجهة مفروضة وممكنة:

من يستقرئ ما يصدر على المستويات السياسية من مواقف ويقارنها بما

يصدر عمّا بات يوصف تهويناً من شأنه «صوت الشارع» استقراءً موضوعياً

متأنّياً، لا بدّ أن يصل إلى نتيجة قد تبدو مفزعة للوهلة الأولى، ولكنّها تواري في

الوقت نفسه عدداً من المؤشرات الإيجابية المستقبلية.

لقد أصبح الوعي السياسي لدى ما يسمّى بالرجل العادي في الشارع العربي

والإسلامي أعلى مستوى من الوعي السياسي على مستوى معظم الحكومات، بل

وعلى مستوى شريحة كبيرة من فئة المثقفين والمفكرين التي ما تزال تتشبّث بعقلية

القرن الميلادي الماضي.. رغم أنّه كان قرن النكبات والكوارث الكبرى في ظلّ

تلك العقلية بالذات، وحصيلة طبيعية لما صنعت في المنطقة.

وفي الوقت الذي تتعامل معه تلك الفئات أو تلك «النخب» السياسية

والثقافية مع حدث كحدث سورية، وكأنّه قائم بذاته، منفصل عمّا قبله وما حوله من

الأحداث، لا تنقطع في «صوت الشارع» الدعوات إلى تجاوز الحدود والتلاقي

بين مختلف القوى والتيارات فضلاً عن الأنظمة والأحزاب، على «جبهة شعبية

شاملة» لمواجهة الأخطار الخارجية المتفاقمة.

وفي الوقت الذي تصدر فيه المواقف «الشعبية» بإدانة الاستبداد المحلي

والاستبداد الدولي معاً، وتربط بينهما رباطاً محكماً، باعتبار أنّ كلاً منهما سبب

للآخر ونتيجة له في وقت واحد، لا يكاد يدور الحديث في الأوساط السياسية

الحاكمة والأوساط الثقافية والإعلامية المرتبطة بها، إلا عن «الاستقرار» في

المنطقة، بمعنى عدم تعرّض الأنظمة الراهنة إلى هزّة سياسية، سواء تحت

الضغوط الخارجية أو الضغوط الداخلية.

وعبر تلك النظرة الرسمية المتخلّفة عن النظرة الشعبية، والمتخلّفة أيضاً عن

الواقعية السياسية في العالم المعاصر، نجد أنّ المطالب السياسية الموجّهة إلى

سورية عربياً، ومن وراء الشكليات الديبلوماسية وعبارات التضامن التي تردّدت

في حالة العراق من قبل، هي عينها المطالب الأمريكية، بشأن تقديم «الأدلة»

على البراءة ممّا يوصف باتهامات أمريكية من قبيل امتلاك أسلحة دمار شامل، أو

إيواء ساسة عراقيين من النظام الذي أسقطته الدبابات والطائرات الأمريكية.

كما لا نجد إلاّ القليل النادر من الكتابات بأقلام المثقفين والمفكرين من يطالب

سورية والبلدان العربية والإسلامية الأخرى في وقت واحد، بعملية مصالحة شاملة

وحقيقية من الجذور مع الشعوب، وذلك ليس من باب تلبية الدعوات الرسمية

الأمريكية إلى ديمقراطية مزعومة، وإنّما من منطلق استحالة مواجهة الأخطار

الخارجية إلا من خلال التحام رسمي شعبي، وتعبئة للطاقات الذاتية على أوسع

نطاق، وبما يتجاوز الحدود التي صنعتها اتفاقيات سايكس بيكو وأمثالها من منطلق

استعماري، وقبل أن تتحوّل إلى حدود أخرى من منطلق استعماري جديد.

بل إنّنا نرصد التفاوت في الوعي الرسمي والوعي الشعبي، من خلال القمع

الرسمي الشديد لما يُسمّى صوت الشارع، باستخدام ما يوصف بالوسائل «الأمنية»

مقابل الحرص الشديد في الدعوات الشعبية إلى الاحتجاج على عدم الوصول به

إلى مستوى مواجهة مع السلطات.. تجنّباً لفتح جبهات دامية داخلية لا يمكن أن

يستفيد منها إلا العدوّ الخارجي.

ونرصد مثل هذا التفاوت في الوعي أيضاً في سورية بالذات، من خلال

استمرار التمسّك بأساليب عتيقة لاصطناع مظاهر التحام مزعوم بين الحزب الحاكم

والجماهير، بعد كلّ ما كشفت عنه الحرب ضدّ العراق على هذا الصعيد على

الأقل.. مقابل حرص القسم الأكبر ممّن يوصفون بالمعارضة السورية في

الداخل والخارج على دعوات تؤكّد التلاقي على مواجهة الخطر الخارجي رغم

الرفض القائم تجاه سائر أشكال الاستبداد الداخلي.

لا ريب أنّ استمرار السياسات الرسمية، واستمرار مواقف التيارات المهيمنة

على صناعة القرار أو توجيهه في البلدان العربية والإسلامية على ما كانت عليه

خلال العقود الماضية؛ سيفضي إلى كوارث شبيهة بما جرى خلال تلك العقود،

ويمكن أن تشمل سقوط نظام بعد آخر وظهور أنظمة جديدة وربما خرائط جديدة،

تتناسب مع مخططات الهيمنة العالمية والإقليمية.. وفي هذا ما فيه من خطر كبير

على الشعوب والأنظمة والتيارات المختلفة في بلادنا في وقت واحد.

رغم ذلك لا نعدم رؤية المؤشرات الإيجابية لمواجهة مفروضة وممكنة، ضد

الأخطار الخارجية المتفاقمة، وكما أثبتت انتفاضة الأرض المباركة المغتصبة القدرة

على تحقيق الكثير بإمكانات شبه معدومة بالمقارنة مع إمكانات عدوّ جاثم فوق

الأرض وفوق الصدور.. وكما بدأت تظهر مؤشرات تحوّل الرفض الشعبي

العراقي للاحتلال إلى مقاومة تمنع استقراره رغم السلاح والعتاد.. فإنّنا نرى في

ارتفاع مستوى الوعي الشعبي في معظم بلادنا العربية والإسلامية، والمقترن

بالصحوة الإسلامية المتزايدة انتشاراً وعمقاً في مختلف فئات المجتمع، مؤشراً له

دلالته البعيدة في رؤية أخرى للمستقبل، تختلف عن رؤية من يركّزون أنظارهم

على ما يصنع العدوّ وعلى ردود الفعل الوقتية المحدودة، وما يسري على المستقبل

هو عين ما يسري على التطوّرات الكبرى في التاريخ، والتي لم تكن قطّ وليدة

أوضاع سياسية ما، بل كانت الأوضاع السياسية هي وليدة تحرّك على المستوى

الشعبي والفكري أوّلاً، يوجد قيادات جديدة، تصنع الأحداث، وتفضي إلى التغيير،

فتنشأ أوضاع سياسية، تستقرّ إلى حين، يطول أو يقصر على حسب صلاحها،

أو على حسب سرعة تغلغل الفساد فيها.


(*) صحفي سوري مقيم في ألمانيا.