قصة قصيرة
أين الكعبة
أبو سهل البخاري
وأنا أسير في ساحة الحرم متجهاً إلى الكعبة، سمعت صوتا ينادي (حاجي،
حاجي! ! !) فالتفت فإذا بحاج قد بدت في وجهه آثار الجهد والإرهاق، كانت
هيئة وملامح وجهه تدل على أنه من بلاد ما وراء النهر، قال لي بالأُزبكية مع
حركات يديه الكثيرة محاولاً إفهامي: كم علي أن أطوف بالبيت؟ فأجبته بالأُزبكية، (وهي كل ما تبقى لنا من ذكريات بلادنا المنسية) : عليك أن تطوف سبعة أشواط. فرأيت السرور داخله بمعرفتي لغته، ثم ما لبث أن قال باستعجاب: سبعة أشواط! وهل تستطيعون ذلك، لقد بلغ الجهد مني مبلغه من أول شوط حول بيت الله
وأشار إلى مبنى الحرم الخارجي، ففهمت سبب تعجبه من كلامي ومدى ما أصابه
من إرهاق، لقد ظن هذا المسكين أن هذا المبنى هو الكعبة فشرع في الطواف حول
الحرم كله دون تردد، يا الله! ... لم ير البيت قبل الآن! ! !
فقطع تفكيري صوته قائلاً: استعين بالله وأكمل الطواف، ثم أخذ في
الانصراف، فوجدتها فرصة سانحة للتعرف على ما يدور داخل بلاد المسلمين
فاستوقفته عارضاً عليه مساعدته، فرحب مسروراً.
ذهبنا سوياً إلى داخل الحرم وأشرت إلى الكعبة المشرفة وقلت له: هذا هو
بيت الله، لا الذي طفت حوله قبل قليل،
فما هي إلا لحظات حتى رأيت الدموع تنهمر من عينيه،
وقال: يا الله! ... هذا هو بيت الله، سمعت به كثيراً ...
ولم أره إلا الآن! ! ... فأسرع الخطا نحو البيت وأسرعت معه قائلاً: هذا
من فضل الله عليك أن يسر لك القدوم إلى بيته وقد حُرِمَ من ذلك الكثير، فقال
بصوت منتحب: كم سمعت أبي -رحمه الله- وهو يدعو ويتمنى رؤية بيت الله
ولكن الشيوعيين لم يمكنوه من ذلك ... فمات وفي قلبه حسرة وألم. لقد ذقنا يا بني
الكثير مما لا أظن أن أحداً ذاق مثله، ولكن ... دعنا نطوف بالبيت أولاً ثم أقص
لك شيئاً مما نلناه.
وبعد طواف رق به قلبي وذرفت عيناي مما شاهدت من عجيب انكساره بين
يدي الله وبكائه وعظيم حمده لله على تمكينه من حج بيته انطلقنا بعيداً عن الزحام
وجلسنا في ناحية مستقبلين البيت العتيق،
فقال لي ما اسمك؟ وكيف تعلم لغتنا؟
قلت: اسمي عبد اللطيف البخاري، هاجر والد جدي مع أهله وأبنائه في
بداية المحنة، وانقطعت عنهم الأخبار فلم يبق لدينا إلا هذه اللغة وقصصاً تروى
عن البلاد.. دعك مني الآن وأخبرني عن أحوال المسلمين هناك؟ هيا أخبرني
بالتفصيل فالوقت يدركنا..
قال: أنتم في نعمة عظيمة لا بد لكم من شكرها، نحن عشنا هناك مسلمين
ولسنا مسلمين! ! ! لم يترك لنا الروس شيئاً يمت إلى الإسلام بصلة إلا وحاولوا
إبادته وإنهاءه حتى اسماءنا، هل تصدق..؟
والدي أسماني عبد الحكيم ولكني لا أعرف بهذا الاسم إلا في البيت..
أما رسمياً فاسمي حكيموف! ! إن الروس قد فعلوا هذا بالأسماء وهي أسماء
لا تضرهم ولا تقاومهم فماذا تظن أن يفعلوا في علمائنا ومشايخنا الذين يعلموننا
القرآن والسنة؟ نعم لقد ضيقوا علينا جداً حتى إن شعائر الإسلام قد اندرست أو
كادت.
دعني أقص عليك طريقة كان بعض علمائنا يتبعونها في تعليم الصبية كتاب
الله، كان الشيخ يصعد فوق سقف المنزل من الداخل بسلم ويصعد الطلاب خلفه ثم
يرفع السلم إليه ويخبئه ويلقي الدرس بصوت خافت لكي لا يعلم أحد بهم ... وقل
مثل ذلك في مخازن تحت المنزل. كان الشباب في المصانع إذا أرادوا المذاكرة
ومراجعة شيءٍ من العلم اجتمع كل أربعة أو خمسة في وقت تناول الطعام ويتحدث
كل واحد بما عنده دون أن يلتفت إليه الباقون لكي لا يعلم بأمرهم.
حتى الصلاة.. التي هي عماد الدين كان الواحد يذهب ويختبئ بعيداً ويصليها
سريعة ويعود لكي يذهب الآخر فلم نعرف الجماعة منذ عهد بعيد. هكذا كان حال
المهتمين والحريصين على بقاء شعائر الإسلام عند أبنائهم أما عامة الناس فحدث
ولا حرج.
وماذا تستطيع أن تفعل لهم وأنت لا تأمن على نفسك وأهل بيتك؟ آه كم أشعر
بالأسى على مشايخنا وعلمائنا الذين كان لهم الفضل بعد الله على بقائنا مسلمين،
نلنا ما لم يستطيعوا أن ينالوه، بل لم نستطع أن نقدم لهم أبسط حقوق المسلم، لم
نستطع أن نغسّلهم ونكفنهم كما يأمرنا ديننا فماتوا ودفنوا حسب مراسم الدفن
الشيوعية حتى الصلاة عليهم لم تكن إلا سراً في جوف بيته.
لم أتمالك نفسي فبكيت وأنا أسمع ما يقول، حقاً إننا في نعمة من أمرنا، هذه
النعمة جعلتنا ننسى شكرها (إلا من رحم الله) ،
يا إلهي كم نال هؤلاء القوم ليتركوا دينهم رغم ذلك وبعد هذه السنين الطويلة لا يزال هناك من يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله. ولا يعبد إلا الله، نعم صدق الله
[ويَمْكُرُونَ ويَمْكُرُ اللَّهُ واللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ]
كم كنت أعيش في غفلة، أشعر أنني تعلمت من هذا الشيخ الشيء الكثير، شيئاً قد لا أجده مسطراً في الكتب، لكنه موجود في الواقع، أشعر أن أمامي مسؤولية عظيمة وحملاً ثقيلاً. ولكن نعم! من قال إن أمر هذا الدين سهل، لقد كان شاقاً حتى على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: [إنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً]
فهل نحن أعز على الله من نبيه ومصطفاه، حاشا وكلا، فلا بد من العمل،
لا بد من العيش للآخرين، لأن من عاش لنفسه عاش صغيراً ومات حقيراً؛ ومن
عاش لغيره عاش عظيماً وعمّر طويلاً حتى بعد موته.
ثم ودعته وشكرته بحرارة وانصرفت وكأن على كاهلي جبلاً عظيماً، رغم
ذلك، كنت مسروراَ سعيداً، أفكر فيما حدث هذه الليلة وأعيد شريط الأحداث من
بدايته، وأنا أشق جموع الحجاج بين الصفا والمروة لأخرج من الحرم فإذا بي أسمع
حاجاً روسياً. يقول لشخص بجانبه: هاأنا ذا في الشوط السادس ولكن أين الكعبة
أريد رؤيتها! ! ! .