للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[بين المطرقة والسندان]

أحمد أبو لبن

إن رحلة الحياة حلقات متصلة من الحوادث والمواقف، والأفراح والأتراح،

والإنجازات والإخفاقات، تمر كشريط متتابع المشاهد، يعتصر العاقل الفطن منها

الحكمة والعبرة.

زارني - في هذه المرحلة من الحياة - أخ حبيب في بلاد الغربة، قادم من

بلاد المسلمين، جمعتنا جلسة على مقاعد للنزهة على ضفاف إحدى بحيرات

(كوبنهاغن) ، وتبادلنا أطراف الحديث دون سابق إعداد أو تخطيط،. بادرني قائلاً: الآن بعد أن قضيت عقداً من السنين في مهد الحضارة الغربية، وراقبت الأحداث

تتلاحق على أمتنا وهي لا زالت في عنائها وبلائها؛ ما هي خبرتك الجديدة، وكيف

ترى هذه المرحلة التي نعيشها؟ فأنت هنا في مأمن بعيد عن دوامة الصراع،

قريب من مصادر الإعلام، فنحن نغبطكم على هذه الفرصة.

أجبته مداعباً - كعادتي معه - أتأذن لي بالإجابة مع التفصيل الممل؟ !

فأجاب مداعباً: خذ راحتك، فعلام العجلة؟ لقد تخطينا سن الشباب!

فقلت: نبدأ بذكر الله والصلاة والسلام على رسوله الكريم - فنحن هنا في

بلاد الغفلة والإلحاد، والجو شيطاني يعج بالشهوات والمعاصي - وللإجابة على

سؤالك نقسم تاريخ أمتنا إلى مراحل، لكل منها عنوان أو شعار حتى نصل إلى

الجواب. ولنبدأ بالمرحلة الأولى للدعوة الإسلامية في مكة وفي موقف النبي -صلى

الله عليه وسلم- من إغراءات قريش حتى يتخلى عن ما جاء به، وكيف أنه لم يثنه

ترغيب ولا ترهيب عن دعوة التوحيد والثبات عليها. وبعد بناء الحضارة الإيمانية

على أسس راسخة يحسن بنا أن نقتطف، شعاراً من خطبة حجة الوداع عنواناً

لاكتمال تأسيس الدولة في المدينة المنورة: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم

حرام» .

تجاوب مستمراً في حواره: شعار جميل، دقيق جداً، لكن يا حسرتاه! أين

نحن منه اليوم؟ أموال المسلمين وأرضهم نهب مستباح، أو تسخر لسفك دمائهم

واستباحة أعراضهم، لقد بلغت المأساة الذروة، وتجاوزت حدود الخيال.

ثم أكملت: أما مرحلة الصديق فإن شعارها هو شعار الإصرار على الحق

وقت الشدة الذي يلخصه موقفه يوم الردة: «والله لا أزال أقاتلهم حتى تنفرد سالفتي» .

قال صاحبي: تعني إصراره على تسيير الجيوش لحرب المرتدين، وأن

الخلافة الراشدة هي اتباع لمنهاج النبوة دون تنازلات، قلت: نعم هو كذلك.

ثم مرحلة خلافة عمر - رضي الله عنه - الذي جعل نقش خاتمه: «كفى

بالموت واعظاً يا عمر» حيث الأمن مستتب، والعدالة قائمة، والأمة عزيزة

الجانب، وهذا الشعار يناسب حالة الحاكم الحذر من أن يفتتن بنفسه.

إننا حينما نتذكر هذه المواقف المجيدة وأمثالها من تاريخنا المجيد نبرأ ونعتذر، كما فعل الصحابي الجليل أنس بن النضر في غزوة أحد، حينما رأى المسلمين

يتراجعون، والمشركين مستبسلين من أجل باطلهم، فقال: اللهم إني أعتذر إليك

مما صنع هؤلاء (أي المسلمين) وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء (أي المشركين) .

إن هذا هو التعبير الصادق عن تراجع وارتباك مشروعنا الإسلامي في كل

مجال ومكان، الذي نعتذر إلى المولى منه، وتكالب وشراسة قوى الباطل بمكرها

ونذالتها، الذي نتبرأ إلى الله منه.

فقال: تعني أن الظروف المحيطة بنا تتلخص في: تفوق الكافرين، وعجز

المسلمين.

قلت: نعم، فنحن في بلاد المسلمين نعاني مشكلة واحدة ونحمل هماً واحداً

هو تخلف الأمة أفراداً ومؤسسات بسبب انحرافها عن منهج الإسلام، وهذه هي

«المطرقة» التي يجب على المسلمين في بلادهم الصبر على آلامها، ونحن هنا في بلاد الغرب والغربة - أعني المسلمين المهاجرين - نعاني من آثار هذه الحضارة المادية المتعدية لحدود الله، الجاحدة لوجوده. فغرورها وتعاليها هو «السندان» الذي يضاعف الأمم المطرقة على رؤوسنا في بلاد الغربة. وما ندري: هل نشتكي ونعتذر عن المشروع الإسلامي الذي يتعرض للإجهاض مرة بعد مرة، أم عن الجاليات الإسلامية التي وفدت بكل مشكلاتها وتشرذمها؟ أم نتبرأ من حضارة مادية كافرة تمول البحوث، وتنجز المخترعات، وتخطط وتحافظ على مصالح شعوبها وتحترم حرية الرأي لمواطنيها؟ ! .

قال: على الرغم من المعاناة والمكابدة فإن التشاؤم مذموم العواقب، والمسلم

لا ينبغي له أن ييأس، فمهما ذاق المسلمون الآلام بين المطرقة والسندان؛ فإن ذلك

يجب أن لا يثنيهم عن العمل والثبات على ما هم فيه من الحق.

إنني أرى تباشير الفجر وعلامات النصر تلوح في الأفق فهيا بنا لأشتري

خاتماً من فضة، لا لننقش عليه عبارة: «أبرأ وأعتذر» ولكن لننقش عليه شعار

المستقبل: (جاء الحق وزهق الباطل) .