للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

دراسات دعوية

الترف.. وخطره على الدعوة والدعاة

[١]

فيصل البعداني

إن زينة الحياة الدنيا وشهواتها أخذت بألباب وعقول أفراد من الأمة حتى

عبدوها وأصبحوا يرون في تعاليم الإسلام وأحكامه ما يفسد عليهم متعتهم بها

فصاروا يحاربون تعاليم الإسلام والداعين إليه، ويقفون في وجه كل دعوة جادة إلى

الإسلام تريد إعادة الأمر إلى نصابه، وتقوم ببيان خطر الاغترار بالدنيا، منبهة

إياهم إلى ما أحدثه من آثار سلبية كثيرة على دينهم ودنياهم.

وشباب الصحوة الإسلامية بعامة والدعاة إلى الله (سبحانه) بخاصة، جزءٌ من

أفراد المجتمع الإسلامي يصيب بعضهم - سواء أكان ذلك في حياتهم الشخصية

والاجتماعية أو في البيئة الدعوية التي يعملون من خلالها - ما يوجد في مجتمعاتهم

من أمراض وأدواء، ومن ذلك وجود ظاهرة الترف والرفاهية الزائدة في حياة

بعضهم، وانشغالهم بذلك عن تربية أنفسهم والقيام بواجبهم تجاه دينهم وأمتهم، بل

إن الأمر لدى أولئك تجاوز حد التشاغل إلى مرحلة التساقط عن الطريق وترك

الطاعة ومبارزة الله (تعالى) بالمعاصي.

وهذه محاولة لمعالجة تلك الظاهرة ببيان حقيقتها، وإيضاح موقف الشرع منها، وإبراز مظاهرها، وتحليل أسبابها وبيان خطورتها وآثارها، مع محاولة تقديم

وصف لعلاجها، عَلَّ الله (سبحانه وتعالى) أن يوفقنا إلى تلافيها وتجاوز آثارها.

حقيقة الترف:

جاء في القاموس: التُّرفة: النعمة والطعام الطيب، والشيء الظريف تخص

به صاحبك، والمترف كمكرمَ: المتروك يصنع ما يشاء لا يمنع، والمُتَنَعَّمُ لا يمنع

من تنعمه [١] .

والمراد بالترف في هذا المقال: مجاوزة حد الاعتدال بنعمة أو الإكثار من

النعم التي يحصل بها الترف [٢] ، وعليه فإن المترفين هم: الذين أبطرتهم النعمة

وسعة العيش، الحريصون على الزيادة في أحوالهم وعوائدهم، الساعون إلى بلوغ

الغاية في حاجات الذات الحسية من مأكل ومشرب ومسكن ومركب.. الخ، ومع أن

الترف قائم على الغنى ومبني عليه إلا أنه ليس بلازم له، فكم من غني وهو بخيل، يعيش هو وأهله عيشة البؤساء والمعوزين، وكم من فقير حرص على توفير النعم

وتحصيل ملذات الحياة وشهواتها من أي سبيل! !

موقف الإسلام من الترف:

ورد ذكر الترف في القرآن الكريم في ثمانية مواضع كلها في موضع الذم له

والتحذير منه، كما ورد العديد من الأحاديث النبوية التي ينهى بعضها عن الترف

جملة وتحذر من تعلُّق القلب به، وغلو الإنسان في الانغماس في متع الحياة وملذاتها، وبعضها الآخر ينهى عن مظهر من مظاهر الترف، ويحث على تركه

والانصراف عنه إلى ما هو خير في الدارين.

فمن الآيات: قوله (تعالى) : [وإذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا

فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً] الإسراء: ١٦ [، وقوله (تعالى) :] حَتَّى

إذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ إذَا هُمْ يَجأرُونَ [] المؤمنون: ٦٤ [، وقوله (سبحانه) :

] وكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إنَّا وجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى

أُمَّةٍ وإنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ [] الزخرف: ٢٣ [.

ومن الأحاديث ما رواه عمرو بن عوف أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال

(فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على

من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم) ] ٣ [، وما رواه عبد الله

بن عمرو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا

ما لم يخالطه إسراف أو مخيلة) ] ٤ [.

ودعوة الإسلام إلى ترك الترف، ومحاربته له، لا تعني ترك النعم والملذات، وإنما المراد الاقتصاد في الإنفاق وعدم تعلق القلب بها والركون إليها، وإلا فإن

النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي حذر من الترف وأحوال المترفين قد قال: (إن

الله جميل يحب الجمال، ويحب أن يرى أثر نعمته على عبده ويبغض البؤس

والتباؤس) ] ٥ [وقال -صلى الله عليه وسلم- لوالد أبي الأحوص: (فإذا آتاك الله

مالاً فليُرَ أثر نعمة الله عليك وكرامته) ] ٦ [، وقد كان من دعائه -صلى الله عليه

وسلم-: (اللهم أصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها

معادي) ] ٧ [.

وأما قوله -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه عندما ذكروا عنده الدنيا: (ألا

تسمعون، ألا تسمعون: إن البذاذة من الإيمان، إن البذاذة من الإيمان!) ] ٨

فالمراد به: التواضع في اللباس وترك التبجح به] ٩ [، وعدم غلو الشخص في

الاهتمام بمظهره حتى يشار إليه بالبنان.

مظاهرات الترف:

للترف مظاهر كثير، من أبرزها ما يلي:

* الإفراط في تناول الطعام والشراب وتوفير متطلبات النفس مما لذ وطاب،

مما جعل الجم الغفير من الناس - دعاة وغيرهم - يعانون بسبب ذلك من السمنة

وكثيرٍ من الأمراض الناشئة عن التخمة.

* جعل المال في الملابس الراقية، والاكتفاء بلبس الجديد والفاخر، حتى

كثرت بسبب ذلك الملابس غير المستخدمة في المنازل، وتكدست مع وجود تنوع

في الاستعمال حسب تعدد فصول العام، واختلاف أوقات اليوم، ويبرز الترف في

هذا الجانب لدى النساء.

* صرف الأموال الكثيرة في السيارات والحرص على ضخامتها وتعددها

حسب أحجامها وأنواعها، وتسليم بعضها لمراهقين يستخدمونها - غالباً - في غير

ما وضعت له.

* صرف الأموال الضخمة في بناء المنازل والدور، والتباهي في إعدادها

وتصاميمها البديعة في الشكل الخارجي والداخلي، مع الحرص على تعدد مواقعها

فبعضها للشتاء والآخر للصيف، وبعضها للسكن وبعضها للنزهة، ومع الحرص

على سعتها وكثرة غرفها ووجود ملحقات لها ووفرة وسائل الترفيه فيها مع أن الذي

يكفي الإنسان من ذلك الشيء القليل.

* نعومة الأجساد وطراوتها وترهل الأطراف ونعومتها والتهاون أثناء أداء

الأعمال مما أدى إلى أمراض حديثة ولدتها هذه الظواهر.

* الاستكثار من وسائل الزينة والاعتناء الزائد بالنفس، والإفراط في التدهن

والتطيب والترجيل للشعر، ونحو ذلك من أمور الناس حتى إن بعضهم ليزيد إنفاقه

على زينته وبعض مظاهر الترف الأخرى على دخله، مما يضطره إلى الاقتراض

أو إلى تعاطي أمور أخرى لا تحمد عقباها.

* جعل المال في الفرش الوثيرة والأواني الفاخرة والمتاع الراقي، أو الإكثار

من ذلك - وإن لم يكن الشيء غالي الثمن - كثرة تقصر معها أيام العمر وتأبى أن

تتسع للعبد لكي ينتفع بها ويستخدمها.

* عدم قيام الإنسان بحاجاته الذاتية والاجتماعية التي يتمكن من القيام بها

والمجيء بالخدم رجالاً ونساء، لكي يقوموا بذلك من غير حاجة وإنما رغبة منه في

ترفيه نفسه وتقديم الراحة لأهله وأولاده، وحباً منه في التفاخر والتباهي والظهور

بمظهر المتميز أمام بقية أفراد المجتمع.

* كثرة استخدام وسائل الترويح عن النفس من مزاح وألعاب ونزهة وزيارات

كثيرة تخرج بالترويح عن الأمر الذي شرع له، وتصبح في حياة كثير من الناس

كأنها هي الأصل والجد هو الفرع.

* ضياع الأوقات وانتشار البطالة في حياة بعض من الدعاة والمصلحين،

حيث تكثر ساعات نومهم ويتتابع فناء أعمارهم دون أن يقضوا شيئاً منها في أمر

ينفعهم في دينهم أو دنياهم.

* التعلق بالتوافه، وضعف التفكير، وغياب القدرة على النقد البناء،

وانتشار التقليد، والتسرع في الحكم على الأشياء بناءً على ظواهرها، وإمكانية

التلاعب بالشخص واستدراجه إلى ما يراد من قبل الآخرين بيسر وسهولة وبدون

عناء أو مشقة.

* عدم الحرص على الطاعة، والتواني عن القيام بما يقِّرب في الآخرة سواء

أكان ذلك فيما يتعلق بذات الشخص كصلاة النفل وصيام التطوع، أو فيما يتعلق

بشؤون الدعوة، إذ تكثر عند التنفيذ المشاغل وتتعدد المبررات للتقاعس عن العمل

أو التأخر في أدائه، وفي المقابل توجد - لدى ذلك الصنف - عجله في تحصيل

وسائل الترف، وسرعة في تحقيق مطلوبات النفس وشهواتها.

* تتبع أقوال أهل العلم للأخذ بالأيسر منها، ويرجع ذلك إلى أن كثرة النعم

تقود إلى الدعة والراحة، وتلك تقود إلى اقتحام سبيل الشهوات والانغماس في

الملذات، التي قد لا يجد العبد متنفساً له فيما أحل الله فيقرر الأخذ بما يراه حراماً،

ولكن لكي يزيل الحرج عن نفسه، ويدفع عنه لوم الآخرين - إن وجد - يقوم بتتبع

أقوال أهل العلم في الأمر الذي قرر إتيانه إلى أن يجد له عالماً في القديم أو الحديث

يقول بجواز فعله، فيفرح به ويبدأ بإعلانه ونشره لا اعتقاداً بصحة ذلك القول

والرغبة في إذاعته، ولكن حباً في رفع الحرج عن النفس نظراً لموافقة ذلك القول

لما قد عزمت نفسه على فعله.

أسباب الترف:

لانشغال بعض المنتسبين إلى الدعوة بالترف أسباب عديدة، منها:

١- طول الأمل ونسيان الموت:

الانشغال بمتاع الدنيا وشهواتها ناتج عن طول الأمل ونسيان الإنسان كونه في

رحلة إلى الدار الآخرة تكتمل بنزول ملك الموت لقبض الروح، ونظراً لخطورة

تلك الغفلة عن ذلك المصير وما تنتجه من ضعف الخوف من الله (تعالى) وقلة

الخشية له، وبالتالي عدم المحاسبة للنفس والمراقبة لعملها، قال (عز رجل) محذراً

من ذلك:] ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا ويَتَمَتَّعُوا ويُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [] الحجر: ٣ [،

وقال -صلى الله عليه وسلم- موصياً ابن عمر: (كن في الدنيا كأنك غريب أو

عابر سبيل) ] ١٠ [، (وذلك لأن الغريب لا تعلق له ببلد الغربة، ولا تشاغل لديه

بملذاتها وملهياتها، بل قلبه معلق بوطنه الذي يرجع إليه) ] ١١ [ (والمسافر لا هم له

في الاستكثار من متاع الدنيا أثناء قطعه لمنازل السفر، وإنما يكتفي بتحصيل زاد

السفر له ولراحلته لا غير) ] ١٢ [.

٢- عدم موازنة الإنسان بين جوانبه المختلفة:

الانغماس في زهرة الحياة وبهارجها ناتج عن تغليب الإنسان لمتطلبات،

جسده من مأكل ومشرب وملبس ومركب ومسكن ووسائل ترويح ... الخ وإغفاله

لمتطلبات مهمة أخرى من عقل وروح، وعدم قيامه بالأخذ بالهدي النبوي الرشيد

الداعي إلى الموازنة بين تلك الجوانب المختلفة، روى البخاري أن النبي -صلى

الله عليه وسلم- قال لعبد الله بن عمرو حين -علم بمغالاته في العبادة: (ألم أخبر

أنك تصوم النهار وتقوم الليل، فقلت: بلى يا رسول الله، قال: فلا تفعل صم

وأفطر، وقم ونم، فإن لجسدك عليك حقاً، وإن لعينك عليك حقاً، وإن لزوجك

عليك حقاً، وإن لزورك عليك حقاً) ] ١٣ [.

وروى البخاري أيضاً (أن نفراً من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-

سألوا عن عبادته فلما أخبروا كأنهم تقالوها، وقالوا: أين نحن من النبي -صلى الله

عليه وسلم- قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال أحدهم: أما أنا فأصلي

الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء

فلا أتزوج أبداً، فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: أنتم الذين قلتم كذا

وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد،

وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) ] ١٤ [.

٣- حب التقليد أو التأثر بضغوط الواقع:

يرغب بعض الدعاة في أن يكون ابن بيئته - كما يقولون - فيرى أنه لابد له

من الظهور بالمظهر اللائق به مطعماً ومشرباً ومركباً ومسكناً وخدماً وترفيهاً

فيضطر لكي يصل إلى ذلك الهدف إلى تقليد المترفين في بيئته ممن لا خلاق لهم

مباهاةً وتفاخراً وحباً في مساواتهم في أحوالهم ومعاشهم، إن لم يصل به الأمر إلى

حد الرغبة في التفوق عليهم وتجاوز ما هم فيه من ترف.

وهذا مرض داخلي يوجد لدى بعض الدعاة، وقد يكون الأمر على العكس من

ذلك فلا يوجد لدى ذلك الداعية رغبة ذاتية في الترف، لكن أفراد مجتمعه الذي

يعيش فيه من أقارب وأصحاب - ممن رفعوا شأن زخرف الحياة وصارت شهوات

الدنيا وملذاتها في نظرهم قيمة يقاس الإنسان نجها؛ فبمقدار ضخامة منزل الشخص

وكثرة خدمه وعدد مراكبه وبذخه في مأكله ومشربه وملبسه: تكون مكانته

ومنزلته - يدفعونه إلى ذلك دفعاً من خلال المطالبة بإلحاح شديد من قِبَلِ الأهل والأقارب بتوفير وسائل الترف، أو من خلال النقد الجارح واللوم اللاَذعَ من الأصحاب على ما يسمونه بحرمان النفس من خيرات الله (تعالى) ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، بل إن المطالبة واللوم قد يصحبهما سوق العديد من المبررات التي يجدها الداعية تحت ضغط الواقع الشديد مقنعة نوعاً ما فتتغير نظرته شيئاً فشيئاً إلى أن تزول قناعاته السابقة فتتبدل حاله، ويصبح في غالب أمره كسائر أفراد مجتمعه.

٤- ضعف التربية:

من أبرز أسباب الترف ضعف التربية وضعف التوجيه الجاد والمناسب

للشباب من قبل بعض المربين في كيفية التعامل مع فتنة الحياة الدنيا وزخرفها وما

نتج عن ذلك من عدم تربية النشء على الجَلَدَ والخشونة بذريعة الخوف من انفراط

اجتماع الطلاب حول المربي والخشية من انصرافهم عنه بالكلية!

٥- كثرة المال ووفرة النعم:

زيادة المال ووجود النعم ووفرتها تكون أحياناً من أكبر دواعي الترف وأسبابه، وذلك لأن المال يعمي ويصم، ويدعو إلى الركون والمتعة والراحة ويدفع صاحبه

إلى البذخ والإنفاق في غير حاجة، وقد أوضح الله (تعالى) في كتابه هذه الحقيقة في

آيات، منها قوله (تعالى) :] كَلاَّ إنَّ الإنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى [] العلق:

٦-٧ [، ومن أجلى صور الطغيان وأوضحها البطر بالنعمة والإنفاق في غير حاجة

ترفاً ومباهاة وحباً للظهور.

يقول (سبحانه) على لسان المترفين الذين أبطرتهم النعمة:] وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ

أَمْوَالاً وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [] سبأ: ٣٥ [، فكثرة الأموال قادتهم إلى الترف

والبطر والكبر، وتلك الأمور جرتهم إلى تكذيب الحق، ورفض قبوله والإذعان له.

ويزداد تأثير كثرة المال ووفرة النعم على الإنسان وجره إلى الترف وغاية

الرفاهية حين يكون مولوداً في النعم، لم تمر به حالات بؤس، ولم يعرف شدة

البلاء ومعاناة الفقر، بل جاءه المال وتوفرت لديه النعم بسهولة ويسر من دون ما

كسب أو بذل جهد.

٦- حب النفس للشهوات:

حبب الله (تعالى) للبشر زينة الحياة الدنيا وزخرفها، فقال (سبحانه) :] زُيِّنَ

لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ والْبَنِينَ والْقَنَاطِيرِ المُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ والْفِضَّةِ

والْخَيْلِ المُسَوَّمَةِ والأَنْعَامِ والْحَرْثِ ... [] آل عمران: ١٤ [، وليست المشكلة في

ذلك الحب الذي وضعه الله (تعالى) في القلوب، بل إنه فطري وضروري لاستمرار

الحياة والقيام بواجب الخلافة في الأرض، ولكنها تكمن في تقديم حب تلك الأشياء

على محبوبات الله (تعالى) ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، وما ينتج عن ذلك من

التشاغل بها والركون إليها حتى يصير الإنسان كأنه مسترق لها لا يستطيع عمل ما

يخالفها وإن كانت في ذلك سعادته ونجاحه، وقد حذر الله (عز وجل) في كتابه عباده

من تقديم حبهم لشهواتهم وملذاتهم على حبه (سبحانه) وحب رسوله -صلى الله عليه

وسلم- والعمل لدينه، فقال (سبحانه) :] قُلْ إن كَانَ آبَاؤُكُمْ [إلى قوله (تعالى) :

] وأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا ومَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ

ورَسُولِهِ وجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِي [] التوبة: ٢٤ [.

٧- الإغراء بالوقوع في الشهوات:

يسعى أعداء الدين من يهود ونصارى وأذنابهم في أوساط المسلمين إلى إلهاء

الأمة - وبخاصة شباب الصحوة المنتسبين منهم إلى الدعوة - بالشهوات وغمسها

بالملذات لتلهو وتعبث حتى لا تفيق على ما يفعلون بها من محاولة طمس عقيدتها،

وعدم استعادتها لمكانتها وكرامتها، حيث أغرقوا أسواق المسلمين بوسائل الترف

وفنون الملذات، وزينوا ذلك في نفوسهم وبثوا لها الدعايات وأقنعوا الكثيرين بأنها

دليل من أدلة الحضارة وعنوان من عناوين التقدم والتميز والرقي في المجتمع.

ولقد أفصح أولئك الأشرار عن نواياهم الخبيثة؛ ومن ذلك ما جاء في

البروتوكول السادس من (بروتوكولات حكماء صهيون) : ( ... سنشجع حب الترف

المطلق ... ) ] ١٥ [، وما جاء في البروتوكول الثالث عشر: ( ... سنلهيها - أي:

الجماهير - أيضاً بأنواع شتى من الملاهي والألعاب ومزجيات للفراغ والمجامع

العامة وهلم جرا ...) ] ١٦ [.

هذه آثار الترف:

لتوجه بعض الدعاة إلى معيشة الترف آثار عامة وآثار خاصة بمسيرة الدعوة، سأتحدث أولاً عن آثار الترف العامة، ثم أتبعها ثانياً بآثار الترف الخاصة وآثارها

السيئة على مسيرة الدعوة.

من آثار الترف العامة:

* قلة العبادة والتكاسل عن الطاعة ونسيان الآخرة، وذلك لأن القلب له حد لا

يستطيع تجاوزه، فمتى ملىء بشيء حتى فاض استحال ملؤه بغيره حتى يلقي

صاحبه ما فيه أو ينقص منه، والمترف قد ملأ قلبه أو كاد بِهَمّ الدنيا وتحصيل متعها

وشهواتها، فلم تجد العبادة وتذكر الآخرة المكان الكافي لهما في قلبه، مما اضطر

غالبها إلى الرحيل، قال أبو حازم -رحمه الله-: (يسير الدنيا يشغل عن كثير

الآخرة) ] ١٧ [، فإذا كان هذا حال اليسير من الدنيا فكيف بحال الكثير؟ ! .

* جعل الإنسان نفسه عرضة لعبودية الهوى والشهوات، ورد الحق والتكذيب

به، وقد أبان الله (تعالى) في كتابه أن الترف سبب لذلك في آيات عديدة، منها:

قوله (تعالى) :] واتَّبَعَ الَذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وكَانُوا مُجْرِمِينَ [] هود: ١١٦ [، وقوله (عز وجل) :] وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِن نَّذِيرٍ إلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم

بِهِ كَافِرُونَ [] سبأ: ٣٤ [، وقوله (سبحانه) :] وذَرْنِي والْمُكَذِّبِينَ أُوْلِي النَّعْمَةِ

ومَهِّلْهُمْ قَلِيلاً [] المزمل: ١١ [

* ضياع ساعات عمر الإنسان وأيامه في أمور إن لم تكن مع سيئاته فلن

تكون مع حسناته بحال، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- محذراً من ذلك:

(ما من ساعة تمر بابن آدم لم يذكر الله فيها إلا حسر عليها يوم القيامة) ] ١٨ [،

ومما استحسن من كلام الحجاج قوله على المنبر: (إن امرءاً ذهب من عمره ساعة

في غير ما خلق له لخليق أن تتطاول عليه حسراته) ] ١٩ [.

* ضعف استشعار مراقبة الله (تعالى) للعبد وندرة محاسبته لنفسه ومراجعتها

فيما تعمل ليعرف المرء ما له وما عليه فيتزود من الخيرات ويترك اقتراف ما لا

يُقَرِّبُه من الله (تعالى) من آثام أو مباحات.

* زيغ بعض الناس وانحرافهم وخروجهم من عداد الصالحين نتيجة الإكثار

من الملذات والشهوات المباحة أولاً، ثم التوسع فيها حتى يخرجوا عن دائرة المباح

إلى دائرة المشتبه فيه، ومع الزمن يقعون في المحرمات قليلاً قليلاً حتى يصلوا إلى

مرحلة الهلكة وزيغان القلب، وخروجه إلى دائرة الفسق إن لم يتجاوزها، نسأل الله

السلامة.

* العُجْب بالنفس والتكبر على الآخرين، وهاتان الصفتان موجودتان لدى

بعض الدعاة نتيجة عيشهم في أوساط النعيم، ولكنهم لا يتمكنون - في الغالب - من

الشعور بها إلا من أدام منهم النظر في حاله أو نبهه عليها آخر ممن وفقهم ربهم

وصانهم من الوقوع فيها، وذلك راجع إلى كونهما تبدءان في النفوس كخيط رفيع

جداً لا يُرى ثم يكبر شيئاً فشيئاً حتى يبين ويتضح، ويكون الداعية عند ذلك قد غفل

وخف مبدأ محاسبته لنفسه.

* كسر قلوب الضعفاء وذوي الفقر والحاجة في المجتمع من جهة، وتكون

الحقد لديهم على ذوي اليسار والترف من جهة أخرى، نتيجة ما يلاحظونه من

وجود فوارق كبيرة في العيش والإنفاق بين طبقات المجتمع المختلفة، وذلك من

خلال المقارنة بين حال المترفين العابثين بالأموال اللاهين بالنعم، الذين لا يعرفون

فضل الخيرات وقيمتها ممن لا يقدمون معروفاً لمستحقيه، وبين أحوالهم حين يرون

أنفسهم لا يستطيعون الحصول على ضروريات الحياة وحاجياتها.

* عدم القدرة على تحمل المشقة والتجلد للشدائد والتأهب لمجيء الفتن وتقلب

الأيام، وذلك نتيجة عجز الإنسان وعدم تهيئته لنفسه وترويضه إياها على تحمل

ذلك لو نزل به.

* ضياع الأموال والعبث بها في الترهات مما أدى إلى عجز بعض الناس عن

القيام بالواجبات، فكيف بالمستحبات؟ بل إن الأمر قد وصل بأناس إلى الاقتراض

للإنفاق على الملذات وما تشتهيه الأنفس.

* نجاح مخططات الكفار في إلهاء المسلمين بالترف والبذخ وما صاحب ذلك

النجاح من ازدهار صناعاتهم لوسائل الترف التى يرسلونها إلى أوساط المسلمين

ليلهوا بها ويترفهوا، وينشغلوا عن قضاياهم الكبرى، وهذا ملموس.

* قساوة القلب وغلظة الحس وثقل البدن مما يؤدي إلى نسيان العلم وزوال

الفطنة والحرمان من متعة، التطلع إلى ما وراء اللذة الآنية بالإضافة إلى الحرمان

للنفس من متعه الاهتمامات الكبرى اللائقة بالدور العظيم للمسلم في هذه الحياة مع

انشغال القلب عن التبصر بما يدور حوله للعبرة والعظة من ذلك نتيجة غرقه في

لجة اللذائذ والشهوات] ٢٠ [، قال الشوكاني -رحمه الله- عند قوله (تعالى) :] إلاَّ

قَالَ مُتْرَفُوهَا إنَّا وجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وإنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ [: (وخصص

المترفين تنبيهاً على أن التنعم هو سبب إهمال النظر) ] ٢١ [.

* انتشار البطالة وظهور العجز والكسل وشيوع التواني عن أداء الأعمال

النافعة بحيث يقوم بعضهم بإنجاز عمل يوم في أسبوع، وإنجاز عمل أسبوع في

شهر، ... وهكذا، ولخطورة هذا الأثر في حياة المسلم كان النبي -صلى الله عليه

وسلم- يدعو فيقول: (اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل ... ) ] ٢٢ [.

* ظهور السمنة لدى كثير من الناس وانتشار كثير من الأمراض الناتجة عن

التخمة وقلة السعي والحركة.

وللحديث بقية..

* * *

قطوف رمضانية

قال -صلى الله عليه وسلم-: (كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها

إلى سبعمائة ضعف؛ يقول الله (عز وجل) إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به؛ ترك

شهوته وطعامه وشرابه من أجلي، للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند

لقاء ربه، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك) أخرجه البخاري

ومسلم.


(١) القاموس المحيط ص ١٠٢٦.
(٢) الترف للأستاذ / ناصر بن عمار، ص ٧.
(٣) مسلم ٤/٢٢٧٤، ح ٢٩٦١.
(٤) ابن ماجة ٢/١١٩٢، ح ٣٦٠٥، وحسنه الألباني في صحيح الجامع ٢ /٨٣٠، ح ٤٥٠٥.
(٥) صححه الألباني في صحيح الجامع ١/٣٥٩ ح ١٧٤٢، وعزاه للبيهقي في الشعب عن أبي سعيد.
(٦) أبو داود ٤/٣٣٣١ ح ٤٠٦٣ وصححه الألباني في صحيح الجامع ١/ ٢٨٤ ح ١٣٣٣.
(٧) مسلم ٤/٢٠٨٧ ح ٢٧٢٠.
(٨) أبو داود ٤/٣٩٢ ح ٤١٦١ وصححه الألباني في صحيح أبي داود ٢/ ٧٨٤ ح ٣٥٠٧.
(٩) جامع الأصول ٤ / ٦٨٠.
(١٠) البخاري مع الفتح ١١/٢٣٧ ح ٦٤١٦.
(١١) جامع العلوم والحكم ٢/٣٧٨.
(١٢) السابق ٢/٣٨١.
(١٣) البخاري مع الفتح ٤/٢٥٦ ح ١٩٧٥.
(١٤) السابق ٥٩ ح ٥٠٦٣.
(١٥) الخطر اليهود للتونسي ١٢٦.
(١٦) السابق ١٥١.
(١٧) ذم الدنيا لابن أبي الدنيا ١٣٥.
(١٨) حلية الأولياء ٥/٣٦١ وحسنه الألباني في صحيح الجامع ٢/٩٩٧ ح ٥٧٢٠.
(١٩) نصيحة الملوك للماوردي ١٧.
(٢٠) انظر الظلال ١/٣٧٣.
(٢١) فتح القدير ٤/٧٧٣.
(٢٢) مسلم ٤/٢٠٧٩ ح ٢٧٠٦.