حوار
حوارمع د. سليمان الخطيب
أجرى الحوار: وائل عبد الغني
نبذة عن الضيف:
* العمل: في (قسم الفلسفة الإسلامية) جامعة المنيا، ومعار إلى جامعة الملك
خالد بأبها: (فرع جامعة الإمام محمد بن سعود سابقاً) .
* حاضَر في عدد من الجامعات العربية: كجامعة الإمام عبد القادر بالجزائر، وجامعة صنعاء باليمن.
أهم المؤلفات:
- أسس مفهوم الحضارة في الإسلام (رسالة ماجستير) .
- فلسفة الحضارة عند مالك بن نبي (رسالة دكتوراه) .
- التغريب والمأزق الحضاري.
- الدين والحضارة في فكر الطهطاوي (دراسة نقدية) .
- فكرة التاريخ بين السخاوي والكافيجي.
- مفهوم التاريخ عند المقريزي.
نرحب بضيفنا الكريم، ونستهل هذا الحوار بعد حمد الله والصلاة والسلام
على رسوله ومصطفاه بسؤال:
حول أهمية الجانب الحضاري للإسلام في هذا العصر، ولماذا هو حتى
الآن مجرد فكرة؟
تفعيل دور الجانب الحضاري للإسلام أصبح لازمة لا بد أن نتوقف عندها
كثيراً ونحن في سياق إعادة صياغة أدواتنا ووسائلنا الفكرية؛ ونظراً لأن الحضارة
فكر جامع يعبر عن شخصية، وهوية، وكلٌّ لا يتجزأ له خصوصيته؛ فلا بد من
أن نستجليها في كافة مناحي فكرنا ووسائلنا ومناشطنا، ولأن الفعل الحضاري
الإسلامي فعل تعبدي وليس ترفاً فكرياً، وليس ثقافة يمكن اختزالها أو أخذ بعضها وترك بعض، ولا يخضع للنسبية الفكرية التي تميز الخطاب الغربي؛ ولكنه فعل نابع من شمولية الإسلام، وإنسانيته، وعالميته، وعمقه، وتوازنه؛ لأن الخطاب القرآني لا يغيِّب عنصراً من عناصر النشاط الإنساني، بل هو متميز بأنه يرعى النمو الإنساني على كل المستويات:
الروحية، والأخلاقية، والطبيعية، والعلمية.
ونظراً للفوضى المنهجية التي تسيطر على مجمل الإطار الدعوي والفكري
الإسلامي المعاصر، والتي من أهم جوانبها غياب وحدة الهدف ووحدة المنطلق وهو
ما يعني تشرذم الجهود وتبعثرها وعدم تراكم الجهود وبنائيتها وفق شمولية الكتاب
والسنة نظراً لكل ذلك تبرز أهمية هذا الجانب.
والمشكلة في بعض جزئياتها تكمن في أن بعض من يتصدى لطرح قضية
الإسلام لم يدرك شموليته وتوازنه؛ فاختزله في محيط اهتماماته هو، بينما نحَّت
الهزيمة النفسية والفكرية بعضاً آخر فرأى الإسلام محصوراً في زوايا التعبد.
ولكن المتأمل للقرآن والسنة يجد أنهما حثا على الفعل الحضاري واعتبراه
فعلاً تعبدياً عن طريق مصطلحات التسخير والاستخلاف والتمكين، وهذا ليس
بمعزل عن الواقع؛ فقد أقام الإسلام حضارة اعترف بها القاصي والداني وقدمت
للغرب بواكير نهضته، ونحن بأمس الحاجة اليوم إلى إعادة التوازن لهذا الجانب
بين تعاليمَ تحث عليه وتجربة تاريخية تملك مصداقيتها، وبين خواء سياسي وفكري
وحضاري.
هذا يدفعنا للسؤال عن دور العقول المفكرة في الأمة: كيف توجَّه؟
وكيف تمارس فاعليتها في بناء كيان حضاريٍّ عصريٍّ له خصوصياته؟
لا بد من إعادة النظر في الأدوات والأساليب المستخدمة لتبليغ الخطاب
الإسلامي في واقع الأمة المعاصر سواء كان ذلك من خلال المؤسسات التربوية
والجامعية أو المراكز البحثية أو الإعلام بصوره المختلفة.
الخطاب الدعوي يغلب فيه الجانب الوعظي على الجانب العلمي، وهذا يعكس
جانباً من الضعف الإبداعي لعقولنا المفكرة التي تملك بمنهجها الصافي لو أرادت أن
تقود حضارة العصر برغم تحديها التقني ومنهجيتها الصارمة وروحها الممنطقة.
ولكن هل من نماذج للأدوات والأساليب التي يمكن أن تُفَعِّل الدور
الحضاري للأمة؟
أولاً: لا بد من ضبط منهجي للمرجعية الحضارية من حيث الأصول
والثوابت التي تمكن العقل المسلم من الاندفاع نحو التأثير والبناء متجاوزاً المفاهيم
المتجزئة والجهود المبعثرة.
- ثم ترسيخ المفهوم التعبدي للفعل الحضاري بمعنى: أن بناء الحضارة فعلٌ
تعبديٌّ وليس مجرد ترف فكري، أو مجرد خيار؛ بحيث يصبح العقل المسلم
يتعامل مع الطرح الحضاري على أنه لازمة عقدية تفرض نفسها على الشخصية
المسلمة؛ لأن الإسلام جاء من خلال منهجه وضوابطه ليحث المسلم على اقتحام
الدائرة الحضارية والتفاعل معها وفق ثوابته بكل ما أوتي من أدوات قد سُخِّرت له
ليبدع من خلالها، ولم يجئ ليقود المسلم عبر مواقع السلب والفرار من العالم وهو
الدين الخالد المهيمن!
- مسألة التراث وتوظيفه توظيفاً عصرياً والالتحام به والاستفادة من الجهود
والدراسات الواعية التي ورثناها عن علمائنا أمثال ابن خلدون.
- الاهتمام بالثقافة الإسلامية المعاصرة مُمَثَّلةً في جهود كثير من العلماء
والمفكرين المسلمين الذين طرحوا قضية الإسلام من خلال البعد الحضاري، أمثال
مالك بن نبي الذي أنشأ مدرسة فكرية واعية قدمت الإسلام مشروعاً حضارياً متكاملاً
وحللت النفسية الغربية بوصفها نمطاً استعمارياً مواجهاً للخصوصية الإسلامية.
- بيان أهمية التنشئة الفكرية والحضارية للأجيال المعاصرة التي تساهم في
صياغة العقلية الحضارية للأجيال القادمة.
- توجيه الأبحاث والدراسات في الجامعات الإسلامية والعربية إلى التركيز
على شمولية الإسلام، والتركيز على فعالية العقيدة الإسلامية ودورها في تحريك
المسلم ودفعه إلى مزيد من الإنجاز، والتركيز أيضاً على الأبعاد العلمية في قضية
التوظيف الحضاري للعقيدة الإسلامية إذا جاز التعبير.
- ثم يأتي دور الإعلام الإسلامي والدوريات الإسلامية في تجاوز فكر
الانكسار والهزيمة النفسية، وتقديم الإسلام خياراً حضارياً أوحد للأمة في مقابل
المرجعية الغربية التي ينطلق منها الخطاب التغريبي اليوم.
وأين دور الصحوة باعتبارها أحد أهم روافد الأصالة والقوة الذاتية للأمة في
بحثها الحضاري؟ وهل من دور زائد تلقيه أمانة الريادة التي تتحملها في عنقها؟
دور الصحوة يتمثل في عدة محاور مثل:
- التكوين الشرعي الواعي لمهام وضوابط الخطاب الإسلامي، وعدم قصره
على منحنى معين؛ كأن يركز بعض الدعاة على المجال التاريخي أو الثقافي الذهني
أو غير ذلك، ولكن لا بد من استحضار المنهج المتكامل والنظرة الشمولية المرتبطة
بوحدة المنطلق ووحدة الهدف في ظل التحديات التي تواجهها الأمة اليوم،
واستجماع القوى المنهجية والأدوات التي تجعل الصحوة على مستوى التحدي الذي
يواجه الأمة.
- وهناك محور ثان هو: مراجعة الكيان الإسلامي في ذاته، وما فيه من
مشكلات ومعوقات تحول دون توحده تحت شعار: (أمة إسلامية واحدة) وإعلان
الحرب التي لا هوادة فيها على التفكير القُطْري، والقومي، والنعرات العنصرية
والعصبية؛ بحيث ينطلق المسلم من رحابة عالمية الرسالة.
- ومحور ثالث: يتعلق بفهم الآخر من حيث التركيز والوعي بأدوات الغرب
في الهيمنة ووسائل الاختراق وصور الهيمنة، وتحديد الإسلام ومحاولة القضاء على
الكيان الإسلامي المعاصر.
هل يمكن تصوُّر الارتقاء الحضاري دون وجود كيان سياسي يحمي هذا
الارتقاء؟
يمكننا أن نفرق بين الحضارة الإسلامية في كيانها السياسي، والحضارة في
قواعدها الجمالية والشعبية؛ فلو تأملنا تاريخ الحضارة الإسلامية من حيث صور
وأشكال التآمر التي اعترضت حضارتنا الإسلامية بدءاً من تحديات المشركين لدعوة
الرسول صلى الله عليه وسلم ووصولاً إلى العنصرية الغربية والنظام العالمي الجديد
لوجدنا أن الكيان الحضاري في شكله السياسي قد تمزق مراراً، ولم يمنع ذلك من
تواصل الأمة وارتباطها
بشريعتها على مستوى الجماهير، وقد برز هنا دور العلماء الذين قدموا
صورة ناصعة للتمسك بالإسلام والذب عن هوية الأمة بالرغم من عسف الحكام في
بعض الأزمان، ومع أن الإسلام اليوم ليس له كيان يمكن اعتباره مسؤولاً عن
حركة الأمة إلا أن الصحوة تمتد عبر هذا الفراغ، والمد الإسلامي في يقظة مستمرة، وفي كل يوم يحرز موقعاً جديداً بفضل الله أولاً، ثم للحمية الإيمانية التي تسري
في الأمة، والأرضية الإسلامية المتمكنة من القواعد الشعبية والجماهيرية التي لا
يمكن إغفالها في المشروع الإسلامي المعاصر؛ فتجربة الجزائر مثال لذلك،
والتجربة التركية مثال آخر على أن العمل الإسلامي يمكنه أن ينطلق ويمتد حضارياً
حتى في غياب الكيان السياسي.
العلاقة مع الآخر أصبحت تتمحور حول مفاهيم وشعارات مثل:
التعايش، والزمالة، والصراع، والتفاعل، والانكفاء حتى أصبح يمثل تشتتاً
للمثقف بالذات فما هي أصح الصور لعلاقتنا مع الآخر، أعني: الغرب؟
نحن أمام صورتين لهذه العلاقة عبر عشرات التجارب: إما تفاعل مع الغير، أو استلاب الغير. وباستقراء تاريخ الحضارة الإسلامية التي انفتحت وامتدت من
الأندلس غرباً إلى الصين شرقاً، ومن الشمال الأوروبي إلى الجنوب الإفريقي
بصورة لم تشهدها أي حضارة أخرى نجد أن المسلمين احتكوا بتصورات وأفكار
ومذاهب وديانات وتقاليد وعادات مثلت
ركاماً ضخماً وفق ضوابط التفاعل والاحتواء وليس الاستلاب؛ لأن الإسلام
استوعب مجمل الخطاب الإنساني في معرفته.. في تقاليده.. في نظمه.. استوعبها
وحللها وتعرف عليها بعمق ووعي، ولفظ ما يتنافى مع عقيدته ومع خصوصيته،
واستفاد استفادة أكيدة من تراكم الخبرات الحضارية في تلك المجتمعات. هذه
المعادلة التي يمكن صياغتها في الحفاظ
على الهوية في إطار عوالم متغيرة وحضارات مختلفة اكتسحها الإسلام بقوة
سلطانه، وسيطر عليها.
هذه المعادلة تمت في تاريخنا وكان للحضارة الإسلامية تميزها وخصوصيتها، ونحن الآن في أمسِّ الحاجة إلى خطاب فكري واعٍ يُحسِن التعامل مع الآخر من
منطلق التفاعل دون أن يعني التخلي عن هويتنا أو شعورنا بالدونية.
ولكن كيف يمكن التفاعل مع الغرب وفكره قائم على اكتساح كل ما أمامه من
حضارات وكيانات ومصادرتها؟
أنا أعني التفاعل المدروس والمضبوط بضوابطنا وبتاريخنا الذي يحفظ هويتنا
ويراهن على ما عند الآخر من تقدم تقني ومعرفي نافع.
الأمة الإسلامية أمة ممتدة عبر الزمان والمكان؛ لذلك لا يمكن اعتبار ما يمر
بها اليوم سقوطاً حضارياً، كما يطرد ذلك في الدول والشعوب، فماذا يمكن أن
نسمي حالتنا الراهنة؟
هذه الحالة عبر عنها بعضٌ بالانحطاط؛ ولعل الأنسب أن نعبر عنها
بالانكسار؛ فما زالت هناك من عوامل القوة والبناء في الأمة ما يؤهلها ولو بعد
حين للنهوض، والإسلام ما زال يملك حضوراً عالمياً وإنسانياً لا تخفى معالمه،
وليس أدل على ذلك من حالة الخوف والقلق التي تنتاب العقلية الأوروبية من المد
الإسلامي.
هذا رغم تراكم النكبات على الأمة ورغم ما أصاب المسلم من إحباط حضاري، وفتور أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه الجامع: (توشك أن تتداعى
عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها) [١] .
وأشار في نهاية الحديث إلى ما سيصيب المسلم من عقلية الوهن الذي هو
تعبير عن الخَوَر النفسي والهزيمة أمام الآخر، وهذا لا يتأتى إلا عندما يضعف
الجهاز المناعي في الجسد الإسلامي.
أما تقوية هذا الجهاز فمُعَلَّقة بأخلاقيات التغيير الذاتي وفق مفهوم قوله تعالى:
[إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] [الرعد: ١١] فالحالة الإسلامية
تشتمل على منهج قائم وثابت وصالح، ولكن القضية هي الإنسان الذي هو محور
الفاعلية في حركة الحضارة.
ومع ما مرت به الحضارة الإسلامية من منحنيات الانكسار؛ فما أن تهب
رياح التغيير الإيمانية من الداخل إلا وتجد الوثبة الحضارية تعود بالأمة إلى أرقى
مما كانت عليه، ولهذا أقول: إن حصار المسلم يبدأ من داخله وليس من خارجه.
أسلمة المعرفة درجة على سلَّم الارتقاء الحضاري: ما ضرورتها؟ وما
إمكانها؟ وكيف تكون؟
في إطار الثوريات المعاصرة للعقل المسلم تفرض هذه القضية نفسها على
العمل الفكري والعلمي الإسلامي؛ لأن هناك اتهاماً موجهاً للعقل المسلم أنه عقل تابع
وعقل عنعنات وعقل شعائر ولا علاقة له بالتنظيم المعرفي ولا بالقدرة المنهجية
على صياغة الأفكار ومواجهة الزخم المعرفي المثار في الواقع المعاصر.
ومن هنا يصبح لزاماً على العقل المسلم أن يتسلح بمنهجية إسلامية واعية في
رصد الإنتاج العلمي المعرفي الإنساني، ومحاولة تقديم الرؤى الإسلامية حول هذه
المعارف من منظور شرعي للاستفادة منها والإضافة الذاتية إليها.
وإذا كانت جل العلوم التي تدرس في جامعاتنا مؤسسة على المرجعية الغربية
فإن هذا يمثل كارثة أمام نهوضنا من جديد.
ونحن لدينا في تراثنا المعرفي الضخم بدائل منهجية يمكن التأسيس عليها بما
يتوافق مع خصوصيتنا؛ فعلم الاجتماع على سبيل المثال يمتلك منظومة إسلامية
متكاملة في علاقة الفرد بالمجتمع على مستوى الكتاب والسنة وعلى المستوى
المعرفي التراثي مذخورة في جهود عشرات الأسماء من علمائنا، منهم: المقدسي،
وابن خلدون، والغزالي، والماوردي، وابن حزم. وقِسْ على ذلك في العلوم
الأخرى.
ننتقل إلى المحور الثاني وهو يدور حول الفكر الغربي والأزمة التي يمر بها، والتي تتزايد أرقامها ودلائلها يوماً بعد يوم، ونبدأ بسؤال:
إلى أي حد يشعر الغرب بهذه الأزمة؟
أزمة الغرب واضحة على صعيد العنصر الزماني على المدى البعيد
والقريب. هذه الأزمة ولدت مع بواكير الثورة على الكنيسة في مطالع عصر
النهضة التي حملت الأزمة في ثناياها، فكانت النهضة خلافاً لكل ما يقال عن عصر
التنوير أزمة جديدة؛ لأن المجتمع الحديث هناك تأسس على أخلاقية الصراع التي
ترسخت في العقل الأوروبي وترجمها رموز العمل العقلاني والفلسفي والأدبي
والعلمي في أعمالهم، وتطور الصراع ليصبح بين عناصر الأمة المختلفة بل ومع
تاريخها وخصوصيتها ودينها وعقيدتها
وانتمائها، وآل الأمر إلى طرح المذهبية العنصرية التي تمحور فيها الغرب
نحو ذاته، وكانت النتيجة طرح النسبية البشرية مقياساً.
وقد رصدت معالم هذه الأزمة منذ ثلاثينيات هذا القرن في كتابات الغربيين،
وكان أولهم وأبرزهم (أوزول شبنجلر) الذي وضع موسوعته:
(Decline of the west) : أو (تدهور الحضارة الغربية) التي تبرز
أزمة الإنسان الغربي وتحللها تحليلاً دقيقاً وموضوعياً.
ثم جاءت بعده عدة كتابات منها: كتابات (توينبي المؤرخ الإنجليزي) وهو
شاهد عيان على تشريح أزمة الغرب، وكذلك (بترم سروكين) الروسي المتأمرك،
وكذلك (ألكسيس كارليل) ، و (ألبرت شفيدزر) الذي نحا باللائمة في البعد المادي
على الغرب وغياب البعد الإنساني، ونذكر أيضاً الأديب الإنجليزي (كولن ...
ويلسون) في كتابه: (اللامنتمي وما بعد اللامنتمي) ، وأعتقد أن هذه الكتابات وغيرها رصدت الظاهرة مبكراً، والغرب اليوم لم يكن في يوم من أيامه أشد شعوراً بالأزمة وخوفاً من المستقبل منه اليوم.
وما هي مظاهرالأزمة في الواقع المشاهد؟
مظاهر الأزمة واضحة لكل إنسان مسلم تبدأ من عنصرية الغرب تجاه
الشعوب الأخرى، ونقف عند قضية الاستعمار الذي يعتبره مالك بن نبي (أكبر سبة
في جبين الإنسانية) ؛ لأنه يستبيح لنفسه حقوق الآخرين وكرامات الشعوب
وخصوصياتها، ويحاول أن يحقر الذوات الأخرى؛ هذا النمط لا يمكن أن يقدر أو
يحترم.
هذا بالإضافة إلى الخواء الأخلاقي، والانحرافات السلوكية، والتحلل القيمي، والنسبية الأخلاقية التي بلغت حداً يدعو كل عاقل إلى التريث في الترويج لثقافة
تقوم على الصراع والعنصرية.
أما الشعارات التي يرفعها مثل: (إنسانية، إخاء، مساواة) فهي دليل عن
أزمة سابقة ولاحقة:
سابقة: لأنها دلالة على وحشية الإنسان الغربي فيما قبل الشعارات.
ولاحقة: لما نراه من عدم مصداقية في التعامل مع الأقليات المسلمة هناك
ومحاربة للمشاريع النهضوية هنا.
يضاف إلى ذلك أن الفكر الغربي عاد أدراجه من جديد للتبشير بما بعد
العلمانية، فعادت الدلالات الدينية من جديد، بعدما أخفق المشروع العلماني في حل
المشاكل الإنسانية بشتى أبعادها هناك. ومن أبرز مظاهر هذه الأزمة: أن الغرب
الذي يسعى في تصدير كل شيء إلينا يسعى جاهداً أيضاً إلى استيراد العقول المبدعة
من الخارج؛ فالمدينة التي خرَّجت
أمثال: شبنجلر، وماركس، وسلوكين، وشبدزر، وديكارت وسبينوزا،
ونيتشه، وأمثال هؤلاء ممن يفتخر بهم الغربيون، كل هذه النماذج أصبحت خواء
لا تجد عشر معشارها، ولا تجد تواصلاً للفكر الغربي رغم وجود المؤسسات
العلمية المتخصصة؛ وهذا شاهد قوي على أن القدرة الإبداعية كيفما كان مسارها
في اضمحلال مستمر. ولك أن تتأمل في
أبسط الصور في مجال الفن التشكيلي في مجال الأدب.. في الشعر.. في
الرواية.. ستجد خواءاً ضخماً.
وما هي انعكاسات هذا الخواء وهذا الإفلاس على المشروع العلماني عندنا؟
انعكاسات ذلك لدى الخطاب العلماني العربي واضحة تماماً في أنك حين تقرأ
لرموز التغريب في واقعنا الفكري المعاصر وتقارن دلالات الخطاب الذي يقدمه
وأدواته المنهجية تتعجب؛ حيث لا تجد فارقاً كبيراً بين مجمل هذه الأدوات من
حيث منطلقاتها وغايتها وبين ما قدمه أسلافهم من أمثال سلامة موسى، وشبلي
شميل، وفرح أنطون، وقاسم أمين، وطه حسين، وهذا أكبر دليل على أن
المرجعية الغربية مرجعية جامدة تقف عند
حدود الإيمان بالإنسان والنزعة الآلية. وبذلك لم يستطع الخطاب العلماني أن
يحل المشكلات؛ بل زادت بطريقة فلكية، فهو لم يستطع أن يلغي التبعية بل رسخ
لها، ولم يستطع أن يوحد الأمة بل زادها فرقة.
بعض الناس يسوّق للتعددية الغربية ويراها عنصراً راشداً لا بد من الأخذ به! فهل التعددية بصورتها المعروفة إيجابية تقتفى؟
التعددية الغربية دليل مرض؛ لأنه لا يمكن أن يصبح الإنسان حقلاً للتجارب
في مجال القيم والأخلاقيات والعقائد. الإنسان في الغرب أصبح عرضة للنسبية
الفكرية والأخلاقية، أصبح مقياساً لما يوجد من القيم والأفكار ومقياساً لما لا يوجد
من هذه القيم والأفكار! وعند فقدان المرجعية الثابتة تصبح الأمور كلها نسبية
والآراء كلها متكافئة، وهذا الأمر لا يناسب منهجيتنا وثوابتنا.
سؤال أخير: كيف نواجه الخطاب العلماني؟
إذا ما تتبعنا الإنتاج الفكري للخطاب العلماني في العالم العربي نجده تفريخاً
يومياً لعناصر جديدة وفاعلة: هناك دور للنشر، ومؤسسات علمية، ومؤسسات
ثقافية تسعى لضرب كل ما يرتبط بالخصوصية الإسلامية!
إذن لا بد من إيجاد مؤسسات إسلامية واعية بهذه القضية، ولا بد من رصد
رموز العمل التغريبي والعلماني في العالم الإسلامي، ولا بد من تنظيم معرفي دقيق
لاختراق نصوص هذه الأعمال والرد عليها من منظور موضوعي يفضح عمالة
هؤلاء ويبرز خواء المنهج والمرجعية التي يعتمدون عليها وأنها منهجية خائنة للأمة
ولتراثها وهويتها، ومنهجية تتسم بالفقر
الشديد واللؤم المعنوي في العمالة لكيانات لن تمكنها في يوم من الأيام أن تكون
ندّاً لها أو مساوية في القوة أو في الحضارة.
(١) رواه أبو داود، ح/ ٣٧٤٥.