[لماذا، ومن يستفيد من الحديث عن الخطبة؟]
أ. د. سليمان بن حمد العودة
كانت الخُطبة ولا تزال، وستستمر مجالاً كبيراً للتأثير، استخدمها الأنبياء والمرسلون ـ عليهم السلام ـ للبلاغ ونشر الدعوة، ومارسها الساسة لتحقيق أهدافهم، وقدّم بها القادة والفاتحون توطئة لفتوحاتهم، وكانت الخطبة أحد المؤشرات الهامة لنجاح المديرين في إداراتهم المختلفة، وفوق هذا كله فهي درس أسبوعي تُهز به أعواد المنابر، ويلتقي المسلمون في المسجد لسماع الخطب، ويصدرون وقد خشعت قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق، وأخذوا حظهم من الدعوة للخير والتحذير من الشرور والآثام.
الخُطبة إذاً متعددة الأغراض، شاملة لكافة الأطياف، يستفيد من جمالها المربي الذي يريد أن يغرس مفاهيم التربية الحقة، كما يستفيد منها الواعظ الذي تذرف العيون لحسن عبارته ورقّة تعبيره، ويستخدمها المعلم الناجح الذي يُريد أن يهيئ طلابه لاستقبال درسه.
إن الخُطبة بمفهومها الشامل أداة مهمة للتأثير في الإعلام والتعليم والدعوة والتربية في السلم وفي الحرب وفي حال السراء والضراء والضعف والقوة.
وإذا كانت الخُطبة ونِسبُ التأثر والتأثير فيها قاسماً مشتركاً بين الأمم في القديم والحديث؛ فثمة مزايا ومميزات للخُطبة في الإسلام. وعند المسلمين تختلف عن غيرهم من الأمم والأديان، ولعل أبرز هذه المميزات الصدق في القول، والعدل في الحكم، ونُبل الهدف والغاية، وما من شكٍ أن الخُطبة تعبيرٌ عن المبدأ وترجمان للهدف، ومهما كان زخرف القول في الخُطبة فلا يصح إلا الصحيح، ويذهب الزبدُ جفاءً ويمكث في الأرض ما ينفع الناس.
أجلْ! تأملوا في صدقية وآثار، بل والفرق بين آثار هذه الخطب المختصرة.
قال النمروذ: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} .
وقال إبراهيم ـ عليه السلام ـ {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة: ٢٥٨] . والنتيجة: {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: ٢٥٨] .
والفرق كبير بين علو فرعون حين قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرِي} [القصص: ٣٨] ، وقال: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف: ٥١ - ٥٢] . وحين أرسل في المدائن حاشرين: {إنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإنَّا لَجِمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء: ٥٤ - ٥٦] . وبين كلمات موسى ـ عليه السلام ـ وكلها صدق وتوكل واستعانة بالله: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إن كُنتُم مُّسْلِمِينَ} [يونس: ٨٤] ، {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: ١٢٨] . والنتيجة: {فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الشعراء: ٥٧] ، {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [الأعراف: ١٣٧] .
ومن تأمل في كثير من الخُطب قديماً وحديثاً وبين سائر الأمم وجد الفرق ظاهراً في الحال والمآل.
وخلاصة القول أن الخُطبة وإن كانت عند الإطلاق تتجه ابتداءً إلى خُطبة الجمعة، وهي أشرف الخطب وأعظمها أثراً وتستحق كل عناية واهتمام، إلا أن الخطبة وأثرها تتجاوز ذلك إلى منابر أخرى.
وتتعدد أغراض الخطبة، وتتشعب مجالاتها، وهذه الأغراض والمجالات الواسعة حَرِيَّةٌ بالاهتمام، كما أن خطيب الجمعة ليس وحده المؤثر، وإن كان المفترض فيه أن يكون أقوى الخطباء المؤثرين؛ فثمة خُطباء آخرون وفي مواقع مختلفة حَرِيُّون كذلك بكل عناية واهتمام.
إذاً يفترض في حديثنا عن خُطبة الجمعة وخطيب الجامع أن نستحضر كذلك المفهوم الواسع للخطبة وأطياف الخطباء المؤثرين ومدى التأثير المنتظر لكل منهم في متلقيه؛ ليكون في حديثنا شمول لا يؤثر على المرتكز والمحور في خُطبة الجمعة حتى يعم النفع بها، وتتسع دائرة تأثيرها، ويكثر عدد الخطباء، ونفسح المجال لقاعدة أكبر للتأثر بالخطبة والخطيب.
وبهذا يتضح أثر وأهمية الخطبة، وبخاصة من أناس قد لا يتمكنون من صعود منابر الجمعة، لكن قد لا يقل أثرهم عن غيرهم في منابر أخرى.
والله من وراء القصد.
(*) أستاذ بجامعة القصيم ـ السعودية.