ضعف الوعي.. آفة مُقعِدة
التحرير
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فإن التحديات الحضارية التي تواجه الأمة الإسلامية ـ سياسياً واقتصادياً وفكرياً واجتماعياً ... ـ كثيرة جداً، ومن أبرز المشكلات التي يعاني منها بعضنا: ضعف الوعي في إدراك هذه التحديات الكبرى وأبعادها العميقة في واقع الأمة ومستقبلها.
ومظاهر ضعف الوعي عديدة، نذكر منها هاهنا:
أولاً: اشتغال كثير من طلبة العلم والباحثين والمنتسبين إلى الدعوة بالأمور المفضولة على حساب الأمور الفاضلة؛ فتُهدر أوقات كثيرة، وتُستهلك طاقات عديدة، في أمورٍ غيرُها أوْلى منها، وتصبح القضايا الكلية الكبرى التي تحتاجها الأمة من القضايا الغائبة التي لم يلتفت إليها المصلحون. وكثيراً ما يغفل بعض الصالحين عن هذه الآفة؛ لأنهم يرون أنفسهم إنما يشتغلون في أعمال صالحة، ولكنهم لم يدركوا أن ذلك حجبهم عن أعمال أصلح وأكثر نفعاً للأمة. قال الإمام العز بن عبد السلام: «ولا يقدِّم الصالح على الأصلح إلا جاهل بفضل الأصلح، أو شقي متجاهل لا ينظر إلى ما بين المرتبتين من التفاوت» (١) .
وتقديم المفضول على الفاضل من أحابيل الشيطان التي يوقع فيها بعض الصالحين؛ فإن الشيطان أمر العبد بالأعمال المرجوحة «وحسَّنها في عينه، وزيَّنها له، وأراه ما فيها من الفضل والربح ليشغله بها عما هو أفضل منها وأعظم كسباً وربحاً؛ لأنه لما عجز عن تخسيره أصلَ الثواب طمع في تخسيره كماله وفضله، ودرجاته العالية، فشغله بالمفضول عن الفاضل، وبالمرجوح عن الراجح، وبالمحبوب لله عن الأحب إليه، وبالمرضي عن الأرضى له..» (٢) .
بل حتى بعض المحافل العلمية التي يُنتظر منها ريادة الأمة وقيادتها كالجامعات الإسلامية، لا زالت تجتر بعض الموضوعات التقليدية، وتشققها بتكلف ظاهر، بعيداً عن الإبداع العلمي، وإلا فأين طلاب أصول الدين وأقسام العقيدة والدعوة عن التيارات الفكرية والكلامية المعاصرة التي تجتاح الأمة بغثائها، وتصدع أركانها بزندقتها؟! وأين طلاب الشريعة وأقسام الفقه عن النوازل الفقهية والاقتصادية ونحوها؟! وإن وجد شيء من ذلك لم ينزل في واقع الأمة ويتحول من الأطر النظرية والفلسفية الضيقة إلى الممارسة العملية الواسعة.
إنَّ مراعاة الأوْلويات من القواعد المحكَمة التي قررها الشارع الحكيم في نصوص كثيرة، وهي مسلَّمة عقلية اجتمعت عليها البصائر الواعية، لكنها تحتاج إلى تربية، وممارسة عملية يتصدر لها القدوات.
ثانياً: افتعال معارك صغيرة فكرية وحزبية وشخصية، أطاحت بهمم كثير من المصلحين وأبناء الدعوة، وأقعدتهم عن العطاء والإنجاز، واستهلكت طاقاتهم في القيل والقال.
وإذا أردت أن تقف على أمثلة من ذلك فانظر إلى بعض ما يُطرح في كثير من المحاضن التربوية، ومجالس الصالحين، وانظر إلى بعض ما يُكتب في منتديات الشبكة العالمية وساحاتها؛ ففي الوقت الذي تشتعل فيه الأرض المباركة في فلسطين بمكائد اليهود وجرائمهم، ترى بعض شباب الأمة وعقلها المبدع يلوك بعض المسائل الجزئية التي لا تقدم ولا تؤخر، ويفتعل لها الخصومات، ويجمع حولها الأنصار، ويصنف وراءها المخالفين.
وفي داخل العراق حيث يواجه المسلمون أكبر مشروع عدائي يستهدف الأمة في مقاتلها، تفاجَأ من بعضهم في الميدان بإثارة أغلوطات هزيلة يشغبون بها على العلماء وأهل الرأي، ويثيرون بعض الخلافات الفقهية بين الخاصة والعامة، ويصطنعون مشكلات كثيرة مع إخوانهم في مسائل اجتهادية يسع فيها الاختلاف، تاركين وراءهم قضايا مصيرية تؤثر في واقع البلد ومستقبله تأثيراً خطيراً.
وأي عقل، بل أي دين، ذلك الذي يدفع الإنسان دفعاً إلى ترك الواضحات المحكمات، ويشغله بفروع العلم ومُلَح المسائل..؟!
وواللهِ إننا لنألم أشد الألم عندما نرى طاقات الشباب تُستهلك في تلك الصوارف التي تُذهِب حلاوة الدعوة والعلم، وتُفسِد القلب.
قال الإمام الشاطبي ـ بعد أن قرر أن كل مسألة لا ينبني عليها عمل فالخوض فيها خوض فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعي ـ: «عامة المشتغلين بالعلوم التي لا تتعلق بها ثمرة تكليفية تدخل عليهم فيها الفتنة والخروج من الصراط المستقيم، ويثور بينهم الخلاف والنزاع المؤدي إلى التقاطع والتدابر والتعصب، حتى تفرقوا شيعاً، وإذا فعلوا ذلك خرجوا عن السُّنَّة، ولم يكن أصل التفريق إلا بهذا السبب، حيث تركوا الاقتصار من العلم على ما يعني، وخرجوا إلى ما لا يعني، فذلك فتنة على المتعلم والعالم» (١) .
ثالثاً: الانغلاق الحزبي الذي يُري الإنسان الأمور بمنظار مختلف، ويجره إلى مستويات متدنية من الهموم؛ فالهم الأكبر الذي يتعب له العبد وينصَب لا يتجاوز حدود التوجهات الحزبية التي تنتقل في الدوائر التنظيمية الضيقة، أما التحديات الكبرى للأمة، والقضايا العظيمة التي تعاني منها المجتمعات الإسلامية، فهي ـ في حسه واقعياً لا نظرياً ـ قضايا هامشية شكلية ليس هذا وقتها، أو أنها ليست من اختصاصه.
ومن آثار هذا الانغلاق أيضاً: الرتابة والجمود في طريقة التفكير، ممَّا أدى إلى الاستسلام المفرط للتجارب العملية العتيقة، والانكفاء عليها؛ فما كنا نمارسه قبل عقود لا زال بعضنا يمارسه باستنساخ نمطي، ويدور في حلقات مغلقة تعيد نفسها، ولا تدفعها إلى العطاء المتجدد والإبداع العملي.
إنَّ الحراك السياسي والفكري والاجتماعي يتسارع بصورة مذهلة جداً، والضغوط من الداخل والخارج تتصاعد يوماً بعد يوم، وفي الوقت الذي ينشط فيه المستغربون وأهل الأهواء في مسخ هوية الأمة وإسقاطها في مستنقعات التبعية وحمأة الرذيلة، نرى بعض إخواننا يعيش عالماً خاصاً بعيداً عن هذا الواقع.
وهذه التربية المتوقعة نتيجتها الطبيعية العجز عن استيعاب المتغيرات الكثيرة التي تحيط بالأمة من كل مكان، والانهزام المقعِد أمام طوفان التغريب وتيارات العولمة الجارفة.
رابعاً: أخذت المعركة مع أعداء الدين طوراً جديداً تنوعت فيه وسائل المكر والكيد، وسخَّروا فيه إمكانات هائلة مادية ومعنوية.
وهذا الواقع يفرض على الدعاة فقهاً جديداً تتنوع فيه في المقابل وسائل المدافعة والمواجهة. ولئن كانت الوسائل التقليدية العتيقة نافعة في زمن مضى من الأزمان، فإنها قد لا تصلح بإطلاق لهذه المرحلة. ونحسب أن من أولى خطوات المواجهة تجاوز مرحلة العفوية والارتجال والاجتهادات الفردية، والاعتماد على الدراسات العلمية الواعية التي تحدد مراكز القوة لاستثمارها والبناء عليها، وتحدد مكامن الضعف والقصور لعلاجها ودرئها قدر الإمكان، وترصد التحديات والعقبات المتوقعة، ثم تستشرف المستقبل برؤية واعية قادرة على التطور والتجدد.
ربما يكون هذا الكلام يسيراً، لكن الحقيقة أن السير فيه بصدق له نتائج جد مهمة، ويتطلب ذلك بالتأكيد عملاً دؤوباً، وأفقاً واسعاً من العلماء والدعاة، {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: ١٠٨] .
إن عطاء الأفراد ووعيهم يرتبط - غالباً - ارتباطاً وثيقاً بالبيئة التربوية التي ينشؤون فيها؛ فبقدر نضج تلك البيئة وسلامتها المنهجية والعلمية، يكون نضج أبنائها وسلامتهم، ولهذا كان من أولى الأوْلويات إيجاد المحاضن التربوية المتوازنة التي تبني ولا تهدم، وتجمع ولا تفرق، وتؤسس لبناء جيل راشد ورع، واسع الأفق، ثابت على الأصول الشرعية، قادر على استيعاب المتغيرات من حوله.