تحزيب القرآن
وهدي السلف في ذلك
محمد عبد الله الدويش
إن القلوب تصدأ وتقسو، والنفس تضعف، وتهبط بها دواعي الشهوات
وهواتف الدنيا، والإنسان يعيش في هذه الدار في معركة مع النفس والهوى
والشيطان. ولئن كان المقاتل يحتاج للسلاح المعنوي والمادي؛ فالذي يخوض في
معركة المصير أولى بأن يعتني بإصلاح نفسه.
والذي يحمل لواء الدعوة وراية الإصلاح أولى الناس بأن يهتم بنفسه وتربيتها، وصلتها بالله-عز وجل-، وأولاهم بأن يأخذ الزاد في سفره إلى الله والدار الآخرة.
وما تقرب إلى الله بأفضل من تلاوة كتابه والوقوف عند معانيه وحدوده؛
فحريٌّ بنا أن نضرب من ذلك بسهم وافر، ومن رحمة الله بعباده وفضله عليهم: أن
شرع لهم ما يتعبدون به إليه سبحانه.
ولما كان تحزيب القرآن من السنن المهجورة -بل المجهولة -عند كثير من
طلاب العلم فضلاً عن عامة الناس. في حين كان الأمر متواتراً ومعلوماً عند
السلف، فقلما تقرأ في ترجمة أحدهم إلا وتجد أنه كان يختم القرآن في كذا وكذا.
لذا رأيت أن أجمع بعض ما ورد في ذلك لعل الله -عز وجل- ينفع به.
تمهيد: قال ابن فارس (٢/٥٥) :
(الحاء والزاي والباء أصل واحد وهو: تجمع الشيء، فمن ذلك الحزب
وهو الجماعة من الناس، قال تعالى [كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ] . والطائفة من
كل شيء حزب. يقال: قرأ حزبه من القرآن)
وقال في (النهاية) (١/٣٧٦) : (الحزب ما يجعله الرجل على نفسه من قراءة أو صلاة كالوِرد، والحزب النوبة في ورد الماء. ومنه حديث أوس ابن حذيفة: (سألت أصحاب رسول الله-صلى الله عليه وسلم- كيف تحزبون القرآن) .
ومعنى ذلك: أن يجعل الإنسان لنفسه نصيباً يومياً يقرؤه ويتعاهد نفسه عليه،
بحيث يختم القرآن في كل شهر، أو عشرين، أو خمسة عشر، أو عشر، أو سبع، أو غير ذلك.
١- وقد ورد في السنة النبوية استعمال ذلك المصطلح في قوله-صلى الله
عليه وسلم-: «من نام عن حزبه» ، وقوله: «إنه طرأ على حزبي من القرآن» .
وقد بوب غير واحد من الأئمة بتحزيب القرآن. وقال عقبة بن عامر: (ما
تركت حزب سورة من القرآن) . وقال نافع: (لا تقل: ما أحزبه) . وسوف يأتي
تخريج هذه النصوص إن شاء الله- عز وجل-.
٢- واستعمل عند السلف بلفظ الجزء، فقد ورد في كلامه-صلى الله عليه
وسلم-: «قرأت جزءاً من القرآن» . وقال عبد الله بن عمرو: (هذا جزئي الذي ...
أقرأ به الليلة) . وعن عائشة: (إني لأقرأ جزئي) . وعن ابن عباس وابن عمر:
(أنهما كانا يقرآن أجزاءهما بعدما يخرجان من الخلاء) .
٣- واستعمل بلفظ الوِرد، فعن ابن عمر قال: (كنت في قضاء وِردي) ،
وعن الحسن: (أنه كان يقرأ ورده من أوَّل الليل) .
المسألة الأولى: بعض فضائل تلاوة القرآن:
إن النصوص الدالة على فضل القرآن أشهر من أن تورد، إنما نورد هنا
بعض فضائل تلاوته؛ قال تعالى: [إنَّ الَذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وأَقَامُوا الصَّلاةَ
وأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِراً وعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ
ويَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ] ، وقال -عز وجل-: [لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ
الكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ
الآخِرِ ويَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ ويُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وأُوْلَئِكَ مِنَ
الصَّالِحِينَ *ومَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوهُ واللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ] .
أما من السنة: فالأدلة على فضله كثيرة، ومن فضائله:
١- أن الماهر به مع السفرة الكرام البررة، والذي يتتعتع فيه له أجران؛ كما
في حديث عائشة عند الشيخين والترمذي وأبي داود.
٢- أنه يقال له يوم القيامة: (اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا) ؛
كما أخرجه أحمد وأهل السنن إلا النسائي من حديث عبد الله بن عمر مرفوعاً.
٣- أن له بكل حرف حسنة، والحسنة بعشر أمثالها كما أخرجه الترمذي
والدارمي من حديث ابن مسعود.
٤- أن الآية منه خير من الخلفة السمينة، كما أخرجه مسلم من حديث أبي
هريرة.
٥- أن مثل المؤمن الذي يقرؤه مثل الأترجة، كما رواه الستة إلا ابن ماجه
عن أبي موسى الأشعري.
٦- أنه يأتي شفيعاً لأصحابه يوم القيامة، كما رواه مسلم عن أبي أمامة.
٧- تنزل السكينة لقراءته، كما رواه الشيخان من حديث البراء.
٨- أنه يقود قارئه يوم القيامة لتاج الكرامة ورضا الله-عز وجل-، كما
أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة.
المسألة الثانية: مشروعية تحزيب القرآن:
١- حديث عبد الله بن عمرو، وهو حديث طويل مشهور، رواه جمعٌ من
الأئمة بينهم الأئمة الستة. ولفظه عند مسلم: (كنت أصوم الدهر، وأقرأ القرآن كل
ليلة؟) ، قال: فإما ذكرت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وإما أرسل لي،
فأتيته، فقال: (ألم أُخبر أنك تصوم الدهر وتقرأ القرآن كل ليلة؟) فقلت: بلى يا
نبي الله؛ ولم أرد إلا الخير، قال: (فإن بحسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام، ثم قال: (واقرأ القرآن في كل شهر) ، قال: قلت: يا نبي الله: إني أطيق
أفضل من ذلك، قال: (فاقرأه في سبع، ولا تزد على ذلك، فإن لزوجك عليك حقاً، ... ولزورك عليك حقاً، ولجسدك عليك حقاً) ، قال: فشددت؛ فشدد علي، قال:
وقال لي النبي-صلى الله عليه وسلم-: (لعلك يطول بك العمر) ، فصرتُ إلى
الذي قال لي النبي-صلى الله عليه وسلم-، فلما كبرت وددت أني قبلت رخصة
النبي-صلى الله عليه وسلم-.
٢- حديث: «من نام عن حزبه» وقد أخرجه مسلم (٧٤٧) ، وأبو داود
(١٣١٣) ، والنسائي (١٧٩٠) ، والترمذي (٥٨١) ، وابن ماجه (١٣٤٣) ، ومالك
في (الموطأ) (١/ ٢٠٠) ، وأبو عبيد في (فضائل القرآن) (٢٨٥) ، وعبد الرزاق
في (مصنفه) (٤٧٤٧) ، وابن حبان في (صحيحه) كما في الإحسان (٢٦٣٤) .
ولفظه عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: (من نام عن حزبه أو عن شيء منه؛ فقرأه فيما بين صلاة الفجر
وصلاة الظهر: \كتب له كأنما قرأه من الليل) .
٣- ما رواه أبو داود (١٣٩٦) والمرزوي في (قيام الليل) كما في
(المختصر) (١٥٧) عن ابن الهاد قال: (سألني نافع بن جبير بن مطعم فقال لي:
في كم تقرأ القرآن؟ ، فقلت: ما أحزبه، قال لي نافع: لا تقل (ما أحزبه) ؛ فإن
رسول الله-صلى الله عليه وسلم- قال: (قرأت جزءاً من القرآن) ، وصححه
الألباني في (صحيح أبي داود) .
٤- حديث أوس بن حذيفة الثقفي ولفظه: (قدمنا على رسول الله-صلى الله
عليه وسلم- في وفد ثقيف، فنزَّلوا الأحلاف على المغيرة بن شعبة، وأنزل رسول
الله-صلى الله عليه وسلم- بني مالك في قبة له، فكان يأتينا كل ليلة بعد العشاء؛
فيحدثنا قائماً على رجليه حتى يُراوح بين رجليه، وأكثر ما يحدثنا ما لقي من قومه
من قريش، ويقول: (ولا سواء، كنا مستضعفين مستذلين، فلما خرجنا إلى المدينة
كانت سجال الحرب بيننا وبينهم، ندالّ عليهم ويدالُّون علينا) ، فلما كان - ذات ليلة
أبطأ عن الوقت الذي كان يأتينا فيه، فقلت: يا رسول الله: لقد أبطأت علينا الليلة؟ قال: (إنه طرأ علي حزبي من القرآن، فكرهت أن أخرج حتى أتمه) ، قال
أوس: فسألت أصحاب رسول الله-صلى الله عليه وسلم- كيف تحزبون القرآن؟
قالوا: ثلاث، وخمس، وسبع، وتسع، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة، وحزب
المفصل) .
والحديث قال فيه أحمد شاكر فيما نقله في (تهذيب السنن) (٢/١١٣) عن ابن ...
عبد البر: أن ابن معين قال: (حديثه عن النبي-صلى الله عليه وسلم- في تحزيب
القرآن ليس بالقائم) . وضعفه الألباني في دفاع عن الحديث، كما في (ضعيف ابن
ماجه) (٢٨٣) . لكن حسنه الحافظ العراقي في (تخريج الإحياء) (١/٢٧٦)
والحافظ ابن حجر كما في (الفتوحات) لابن علان (٣/٢٢٩) . وأورده الحافظ ابن ...
كثير في (تفسيره) محتجاً به على أن المفصل يبتدئ من سورة (ق) . واحتج به
شيخ الإسلام ابن تيميه في حديثه عن التحزيب بالسور والأجزاء كما سيأتي.
وتد تواتر ذلك عن السلف -رضوان الله عليهم -؛ فعندما تقرأ في ترجمة
أحدهم تجد أنه كان يختم القرآن في كذا وكذا، وسيأتي بعض هذه الآثار.
المسألة الثالثة: هدي السلف في تحزيب القرآن:
أولاً: ذكر من روي عنه الختم في سبع:
أخرج أبو عبيد في (فضائل القرآن) (٢٩١) بإسناده عن عائشة - رضي الله
عنها - قالت: (إني لأقرأ جزئي - أو قالت: سبعي - وأنا جالسة على فراشي أو
على سريري) .
وأخرج الطبراني كما في (المجمع) (٢/٢٦٩) وقال: رجاله ثقات، عن
الأحوص قال: قال عبد الله. (لا يُقرأ القرآن في أقل من ثلاث، اقرأوه في سبع،
ويحافظ الرجل على حزبه) . وكذا أخرجه ابن أبي شيبة (٥٠٢/٢) دون قوله:
(وليحافظ) ..
وأخرج أبو عبيد في (فضائل القرآن) (٢٦٣) ، والبيهقي في (السنن) (٢/
٢٩٦) عن ابن مسعود -رضي الله عنه-: (أنه كان يختم في غير رمضان من
الجمعة إلى الجمعة) .
وقال الحافظ: أخرج ابن أبي داود: عن عثمان وابن مسعود وتميم الداري:
(أنهم كانوا يختمون في سبع) بأسانيد صحيحة.
وأخرج أبو عبيد (٢٦٦) عن إبراهيم: (أنه كان يقرأ القرآن في كل سبع) ،
وكذا رواه ابن أبي شيبة (٢/٥٠١) .
وأخرج ابن أبي شيبة (٢/٥٠١) ، والفريابي (١٣٨) : عن هشام بن عروة
قال: (كان عروة يقرأ القرآن في كل سبع) .
وأخرج أيضاً (٢/٥٠١) عن أبي مجلز: (أنه كان يؤم الحي في رمضان،
وكان يختم في سبع) .
وأخرج ابن أبي شيبة بإسناده (٢/٥٠١) : عن إبراهيم قال: (كان عبد
الرحمن بن يزيد يقرأ القرآن في كل سبع، وكان علقمة والأسود يقرؤه أحدهما في
خمس والآخر في ست، وكان إبراهيم يقرأه في سبع) .
وقال ابن قدامة في (المغني) (٢/٦١١) : (قال عبد الله بن أحمد كان أبي
يختم القرآن في النهار في كل سبعة، يقرأ كل يوم سبعاً، لا يكاد يتركه نظراً،
وقال حنبل: كان أبو عبد الله يختم من الجمعة إلى الجمعة) . وقال إسحاق بن
هانىء في (مسائله) (٥٠٦) : (وسئل: في كم يقرأ القرآن؟ قال: أقل ما يقرأ في
سبع) .
ثانياً: ذكر من روي عنه الختم من الثلاث إلى السبع:
سبق عن علقمة والأسود: (أنهما يقرآن في خمس وست) .
قال ابن علان (٣/٢٣٠) : (قال الحافظ: أخرج ابن أبي داود من طريق
مغيث بن سمي قال: كان أبو الدرداء يقرأ القرآن في كل أربع. ومن طريق بلال
ابن يحيى: لقد كنت أقرأ بهم ربع القرآن في كل ليلة، فإذا أصبحت قال بعضهم:
لقد خففتَ بنا الليلة) .
ثالثاً: ذكر من روي عنه الختم في أقل من ثلاث:
وذكر ابن علان (٢٣١/٢) : عن ابن أبي داود أنه روى عن الأسود بن يزيد: (أنه كان يختم القرآن في رمضان كل ليلتين) وقال: سنده صحيح، وأخرج
الحافظ من طريق الدارمي عن سعيد بن جبير: (أنه كان يختم القرآن في كل ليلتين) قال: وأخرجه ابن أبي داود، قال: وأخرج ابن سعد عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف أنه كان يفعل ذلك. ومن طريق واصل بن سليمان قال: (صحبت عطاء بن السائب فكان يختم القرآن في كل ليلتين) .
*يتبع*