البيان الأدبي
[على أسوار بغداد]
محمد علي البدوي
مسرحية فصل واحد
قصة السقوط في الماضي والحاضر
الزمان: ٦٥٦هـ.
المكان: دار الخلافة في بغداد.
المنظر: قصر الخليفة المستعصم حيث تظهر سدة الخليفة وخلفها يقف
حارسان صارمان. تتوزع النمارق المصفوفة والستائر المذهبة في مدخل الإيوان.
المشهد: ابن العلقمي الوزير في ردائه الأسود وعمامته السوداء يذرع الإيوان
وكأنه يفكر في شيء ما، فجأة يدخل عليه أحدهم مسرعاً، تبدو عليه آثار الفزع.
الرجل: ابن العلقمي.. يابن العلقمي.. أنجدنا.. أغثنا!
العلقمي: ماذا وراءك يا رجل؟
الرجل: لقد وقعت الفتنة بين أهل السنة والشيعة.. يا سيدي.
العلقمي (يهرش ذقنه) : ماذا!! وهل وقعت أخيراً.
الرجل: وقعت! لقد تجالدوا حتى بالسيوف.
العلقمي: وعلى من كانت الدائرة؟
الرجل: علينا يا سيدي.
العلقمي (ممسكاً بالرجل) : ويحك! ماذا تقول؟
الرجل: إنها الحقيقة.. لقد قُتل خلق كثير من الشيعة.. ونهبوا.
العلقمي: قتلوا!! ونهبوا!!
الرجل (متعلثماً) : و.. و ...
العلقمي: وماذا بعد؟ انطق.. ويلك.
الرجل: وبعضهم من أقاربك.. وخاصتك.. يا سيدي.
العلقمي (مغضباً) : الويل لهم.. الويل.
الرجل: والرأي يا سيدي.. ماذا سنفعل الآن؟
العلقمي: حسناً.. عليكم بالصبر.. وأنا أعفيكم أهل السنة.. هيا بنا
(يخرجان) .
(يدخل الخليفة ويعتلي عرشه)
المستعصم (محدثاً نفسه) : أين ذهب هذا الوزير.. أين؟!
(يدخل ابن العلقمي)
العلقمي: السلام على مولانا الخليفة ورحمة الله وبركاته.
المستعصم: وعليكم السلام. أين كنت يا رجل؟
العلقمي: كنت أتفقد أحوال رعيتكم يا مولاي.
المستعصم: هه.. وكيف أحوال رعايانا؟
العلقمي: على ما تحب.. يأكلون ويشربون.. ولكم يشكرون يا مولاي.
المستعصم: إذن دعنا نأكل ونشرب ونطرب نحن أيضاً.. عليّ بالقيان
والجواري الحسان.
العلقمي: حظيتكم (عرفة) .. في طريقها إليكم الآن يا مولاي.
المستعصم: آه يا عرفة.. يا له من صوت ناعم وقدٍّ سالم..
العلقمي: ها.. ها.. (يضحك) .. و.. و.. لكن هناك أمر يحول بينك
وبينها يا مولاي.
المستعصم: بيني وبينها!! ماذا تقصد؟!
العلقمي: أقصد قلة المال.. قلة المال تمنعنا من جلب المزيد من الجواري..
يا مولاي.
المستعصم: ويلك.. وبيت المال أين ذهب؟!
العلقمي: لقد فني المال.. أو كاد.. والسبب جيشكم يا مولاي.
المستعصم: جيشنا!!
العلقمي: أقصد.. أعداد العساكر كبيرة.. وكثيرة جداً..
المستعصم: كبيرة!!
العلقمي: فلو قللنا من هذا العدد.. لاستطعنا أن نوفر المال.. وأن نستقدم
الجواري لمولاي.
المستعصم: أووه.. إنك تزعجني، بهذا الكلام.. (يستعد للخروج) ..
افعل ما تراه مناسباً.. وأرسل إليّ الجواري في مخدعي. (يخرج) .
العلقمي: أمر مولاي.. ها.. ها.. أمر مولاي.. (يصفق بيديه فيظهر أحد
أعوانه من الخلف) .
الرجل: أمرك سيدي.
العلقمي: اذهب بهذه الرسالة إلى هولاكو.. وأخبره أن الطريق سالكة.
(يناوله الرسالة) .
الرجل: أمرك سيدي (يخرج) .
العلقمي (في خبث) : ها.. ها.. لقد دنت ساعتكم.. وحانت نهايتكم.. يا
بني العباس! (يخرج) .
(ضوضاء، أصوات مختلطة، صراخ، عويل، وقع خيول قادمة،
يدخل الخليفة فزعاً)
المستعصم: ابنَ العلقمي.. أين أنت يا بن العلقمي؟ (للحارس) عليّ به
فوراً.
(يدخل ابن العلقمي مسرعاً)
العلقمي: نعم.. نعم يا مولاي.. ماذا حدث؟
المستعصم: التتار.. التتار قادمون.. إنهم يزحفون على المدينة كالمرض
الأسود.
العلقمي: وهل وصلوا؟!
المستعصم: إنهم يرشقوننا بالنبال.. لقد قتلوا مولاتي (عرفة) بين يديّ..
قتلوها..
العلقمي (للحارس) : شددوا الحراسة حول القصر وزيدوا في الاحتراز.
المستعصم: ألم تذهب إليهم.. ألم تتفاوض معهم؟!
العلقمي: بلى لقد فعلت.. يا مولاي.
المستعصم: وبماذا أجابوك؟! أجب.. انطق.
العلقمي: لقد رضوا بالمصالحة.
المستعصم: نصالحهم.. إنهم كالأفعى السامة.. كيف نضع أيدينا في جحر
الأفعى.. كيف؟!
العلقمي: مولاي.. ليس لدينا خيار آخر.. نصالحهم الآن، ثم نتقوى ونعيد
الكرة عليهم.. والحرب سجال.. يوم لك.. ويوم عليك..
المستعصم: وما هي شروطهم؟!
العلقمي: نصف خراج بغداد.. و..
المستعصم: وماذا هناك بعد..؟
العلقمي: وأن تخرج إليهم بحاشيتك ورجال دولتك.
المستعصم: حاشيتي ورجال دولتي!!
العلقمي: والعلماء والقضاة.. نعم..
المستعصم: ولماذا كل هؤلاء؟
العلقمي: ليحضروا عقد الصلح يا مولاي.. الرجل يريد الضمان..
المستعصم: القضاة.. والفقهاء.. إن في الأمر لمكراً.. لا.. لن أخرج إليهم.
العلقمي: مولاي.. إن لم تخرج إليهم.. جاؤوا إليك.. (يشير إلى رقبته) .
المستعصم (مذعوراً) : ح.. ح.. حسناً سأخرج.. سأخرج.. اذهب
واجمع رجال الدولة.. وسآتي حالاً.
العلقمي: حالاً.. يا مولاي!
(المستعصم وقد بدا مذهولاً يحدث نفسه)
المستعصم: آه.. أخرج إليهم.. إن نفسي تحدثني أن شيئاً سيقع.. رباه..
رباه..
صوت:
بغداد ماذا أرى في حالك الظلم ... نجماً يلوح لنا أم لفحة الحمم؟
بغداد أين زمان العز في بلدٍ ... كان السلام به أسمى من العلم؟
بغداد أين سحاب المُزن إذ حكمت ... يد الرشيد بعدل الله في الأمم؟
أين الجحافل يا بغداد عن زمن ... تخاذل العرب عن أفعال معتصم؟
المستعصم (باحثاً عن مصدر الصوت) : منْ.. من هناك؟ .. أين أنت؟
.. أين أنت؟
(يظهر شيخ أبيض كسا البياض شعره وثيابه،
وعلى ثوبه تبدو بقعة سوداء)
التاريخ: أنا التاريخ.. أنا تاريخكم المجيد.. أنا من سيحفظ لكم هذه المأساة
وسيرويها للأجيال من بعدكم..
المستعصم: مأساة!! وأي مأساة؟
التاريخ: انظر إلى هذه البقع السوداء.. إنها مآسي الإسلام والمسلمين..
وهنا.. ستكون مأساتكم.. (يشير إلى ثوبه) .
المستعصم: مأساتنا؟ ..
التاريخ: مأساة بغداد القادمة.. التي سيبتلعها الطوفان.. الطوفان القادم أيها
الخليفة..
المستعصم (صارخاً) : لا.. بغداد.. دار السلام.. حاضرة الرشيد..
أرض الجمال.. ودار الجلال.. سليلة المجد.. وقرة العين.. أغنية الزمان..
وحديث الركبان.. سيبتلعها الطوفان.. لا أكاد أصدق.. لا.. (يجثو على ركبه) .
التاريخ: ابك مثل النساء ملكاً مضاعاً.. لم تحافظ عليه مثل الرجال.
المستعصم: وماذا أصنع أيها التاريخ وليس لدي من خيار..؟ لقد خذلني
العرب والمسلمون.. سمحوا للعدو أن يستخدم أرضهم لضربي.. حتى صاحب
الموصل فعل ذلك خوفاً على نفسه..
(يدخل ابن العلقمي مسرعاً)
العلقمي: مولاي.. الموكب في انتظارك.. يا مولاي..
المستعصم: حسناً.. هيا بنا.. (يخرجان)
(ترتفع أصوات الصراخ والاستغاثات
صليل السيوف والقهقهات الشيطانية)
التاريخ (قبالة الجمهور) : لقد بدأت المأساة.. سجِّلْ يا تاريخ واشهد يا زمن
.. سجل مأساة إخواننا في بغداد.. واشهد يا زمن.. (يخرج)
صوت:
حان الوداع أيا بغداد قد نُحرت ... رجولة القوم في ميدان منتقم
حان الوداع وعذرُ القوم أنهم ... لا يقدرون على الأرماح والحمم
هذا الوداع فموتي خيرَ عاصمة ... مذبوحةً.. ربما ماتت بلا ألم
(ستارة)