للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[التباين الإثني والثقافي في السودان وإشكالية الوحدة]

أحمد محمد أحمد إسماعيل

` مقدمة:

تأتي أهمية هذه القضية من ارتباطها الوثيق بمسألة الهوية والتوجه؛ فقد كان من المسلَّم به حتى وقت قريب إسلامية هوية السودان. وتطرح العروبة في هذا الإطار؛ فإذا كان هناك شذوذ عن هذه القاعدة فلم يكن ذال بال.

وفي الآونة الأخيرة ومع تداعيات الحرب الانفصالية في الجنوب، وبروز النزاعات المماثلة في عدة مناطق من السودان، قوي تيار يحسب نفسه وحدوياً يدعو إلى جحد هوية السودان الإسلامية والعربية، في برنامج للوحدة يدعو إلى الاعتراف بتعدد مصادر الثقافة السودانية، ويعتبر الإسلامية العربية واحدة من هذه المصادر ليس أكثر، وعلى هذا الأساس تمت صياغة مشاريع للحل السياسي، ووضعت المواثيق، وتم غرس مصطلحات مثل «التباين العرقي والثقافي» و «التعددية الثقافية» بشكل أساسي في القاموس الثقافي والسياسي السوداني.

وفي هذه الورقة نحاول أن نلقي الضوء على هذا التباين من خلال مؤثراته في قضية الهوية، ونحاول أن نناقش هذه الأطروحة الجديدة التي تربط مشروع الوحدة بإقرار نظام سياسي يرعى التعدد وينميه، ويرفض مشاريع الأسلمة والاستعراب.

` ضبط المفهومات:

١ - السودان: في الوقت الحاضر يعني هذا المصطلح الرقعة التي تقع جنوب مصر في الجزء الأوسط من حوض النيل؛ أي ما كان يعرف في السابق بسودان وادي النيل، ويحتل ما يقرب من مليون ميل مربع، ويحد شمالاً بمصر وليبيا، وجنوباً بأوغندا والكونغو، وغرباً بتشاد وإفريقيا الوسطى، وشرقاً بإثيوبيا وإريتريا والبحر الأحمر، وقديماً أطلق العرب اسم «بلاد السودان» على الجزء في القارة الإفريقية الذي يقع جنوب الصحراء الكبرى، ويمتد من المحيط الأطلسي غرباً حتى البحر الأحمر والمحيط الهندي شرقاً، كما أطلق المصريون القدماء على البلاد التي تقع وراء حدودهم الجنوبية عدة أسماء مثل «تا ـ نحسيو» أي أرض السود، «تا ـ رستي» أي أرض القسي، وأسماها الآشوريون «كوش» ، وأطلق عليها اليونانيون «إثيوبيا» أي سمر الوجوه (١) .

٢ - التباين: كلمة تباين في لغة العرب من البين أي الفراق، والمباينة: المفارقة. قال الرازي في مختار الصحاح: «تباين القوم: أي تهاجروا» (٢) . وقد استُعملت هذه الكلمة في مصطلحنا السياسي مضافة إلى كلمة «إثني» من Ethnic وتعني عِرقي. وكلمة «ثقافي» وتعني أنماط السلوك البشري في المعتقدات والعادات والتقاليد وأنماط الحياة، كمفهوم يرمي إلى إبراز الاختلاف في التكوين القومي السوداني وتجسيد النقص في التجانس؛ ذلك باعتبار أن الوحدات العرقية التي يتكون منها السودان كانت وما زالت تشكل وحدات ثقافية قائمة بذاتها لها لغتها وعاداتها ودينها، ولم يحصل بينها اتصال وثيق يوحِّد انتماءها الحضاري والثقافي.

` مؤثرات التباين في تشكيل الهوية:

أولاً: المؤثِّر العرقي:

باعتبار أن السودان هو أكبر الأقطار الإفريقية والعربية مساحة؛ فإن هذه الرقعة الواسعة تضم العديد من الأجناس والمجموعات العرقية والسلالات ذات الأصول السامية والحامية والزنجية، والتي امتزجت واختلطت عبر مئات السنين، وكوَّنت المجموعة العرقية والقبلية المعروفة اليوم، وتؤكد الدراسات أن بالسودان الآن أكثر من ٥٧٢ قبيلة تتفرع إلى عشائر وبطون لا حصر لها (١) .

` أصول المجموعات العرقية في السودان:

تاريخ وجود الإنسان في السودان قديم جداً ويرجع إلى أكثر من ٧٠٠.٠٠٠ عام (٢) ، وعلى مدار التاريخ ظلت توافد مجموعات بشرية إلى السودان بشكل استمر بلا انقطاع، وأسهمت إسهاماً مباشراً في صناعة حضارة التاريخ؛ غير أن من المؤكد أنَّ السمة الغالبة لهذا التوافد ليس الثبات بل الحركة والتنقل. بيد أن أول وجود ذي بال للحضارة كان في بلاد النوبة نشأ عمن عرفوا عند الدارسين بالمجموعات الحضارية «الأولى والثانية والثالثة» ، ويرجع هؤلاء الدارسون أنهم ينتمون إلى جنس البحر المتوسط، وأن بهم شيئاً من العنصر الزنجي. وأن هذه المجموعات ـ بعد تعرضها إلى تدخلات فرعونية وحامية وغيرها من العناصر البشرية ـ انحدرت الفصائل التي أنشأت الحضارة في السودان القديم وهم النوبة والعنج.

وفي الشرق سكنت العناصر التي عرفت عند العرب باسم البجة، وتعرضوا كذلك للاختلاط بسكان النيل والمصريين، كما جاء في المخططات المروية والكوشية والفرعونية، كما خالطوا الأحباش، وخالطهم العرب في هجرات قديمة لقبائل حمير.

أما الغرب فقد توافدت إليه مجموعات كبيرة من وادي النيل عبر دارفور غرباً وحتى تشاد ونيجيريا، وبالقدر نفسه كانت هناك هجرات عكسية من غرب إفريقيا إلى دارفور.

أما الإقليم الجنوبي فقد شهد تحركات سكانية امتدت من بدايات القرن الميلادي الأول؛ فقد وفدت مجموعة تعرف باسم «اللول» سكنت على امتداد بحر الغزال ـ سابقة لمجيء الدينكا والنوير ـ وأصول هذه المجموعة زحفت من الشمال غالباً من كردفان (٣) .

وفي بداية القرن الثالث عشر الميلادي ـ أي بعد ستة قرون من محاولة الفتح الإسلامي الأول التي انتهت بمعاهدة البقط ـ تكاثفت الهجرات العربية بشكل كبير من مصر ومن الجزيرة العربية نتيجة لعوامل سياسية واقتصادية، وانفتح المهاجرون العرب على الشعوب السودانية من نوبة وبجة وعنج معايشة واختلاطاً؛ مستغلين نظام الوراثة والنسب عن طريق الأم لبسط نفوذهم السياسي؛ فقد صاهرت قبيلة ربيعة البجة في الشرق، وصاهرت فروعها النوبة في أرض المريس، نتج عن هذه المصاهرة الأحفاد المعروفون «ببني كنز» الذين استطاعوا الوصول إلى عرش النوبة؛ مما كان له أثر في إضعاف الكيان السياسي للنوبة حتى سقطت دولتهم «المقرة» لينفتح الباب على مصراعيه لتوغل العرب ـ وخاصة قبائل جهينة ـ إلى حوض وادي النيل الأوسط ومتابعة السير إلى أرض البطانة والجزيرة، عبر بعضهم النيل إلى كردفان ودارفور، وهناك التقوا بوافد بشري سار محاذياً لشواطئ النيل الغربية إلى دنقلا فكردفان ودارفور (٤) .

لما كان معظم هؤلاء العرب من البدو؛ فقد ظلوا على بداوتهم وترحالهم، غير أن جماعات غير يسيرة عمدت إلى الاستقرار واختلطت بالسكان المحليين، وقد أدى هذا التوافد العربي الكثيف إلى إسقاط الكيانات السياسية التي كانت موجودة «المقرة ـ وعلوة» ، ونشأت على أثرها مشيخات وإمارات عربية.

وهكذا أضفت الهجرات العربية صبغة جديدة على التركيبة السكانية في السودان؛ فنتيجة لحركة المصاهرة والاختلاط والحركة والتنقل ظهرت الكيانات القبلية المعروفة لدينا الآن في السودان الشمالي؛ فالقبائل النوبية في الشمال كالدناقلة والمحس والكنوز والسكوت دخلت في الإسلام ونالت حظاً من الاستعراب، ولكنها ظلت محتفظة بلغاتها ولهجتها وعاداتها المتوارثة ـ كذلك الأمر بالنسبة للقبائل البجاوية في الشرق كالأمرار والهدندوة والبشارين، وقبائل الزغاوة والمساليت والفور والتاما في الغرب، أما القبائل المصنفة عربياً مثل الجعليين والشكرية والبطاحين والكواهلة ودغيم وكنانة والكبابيش والبقارة والرزيقات والتعايشة؛ فإنها تأثرت في سحناتها بالتداخل مع السكان المحليين، ولكنها ظلت تحتفظ بكيانات قبلية متميزة تستشعرها وتعتز بها.

أما في الجنوب فإن المجموعات التي تتحدث اللغات النيلية اليوم، كالشلك والباريا والنوير والأنواك والأشولي، فقد انحدرت حسبما يشير التراث الشفهي المنقول إلى مواطنها الحالية من أصول أولية وفدت إلى المنطقة من جنوب غرب الحبشة، وبالتحديد ما بين نهر «أومو» وأعالي نهر البيبور (١) .

إن هذا الانحدار اتسم بالحركة وعدم الاستقرار نسبة لطبيعة المنطقة، ولم يستقر وجودها إلا بعد أن أنشأ الفونج سلطة مركزية قوية توغلت جنوباً في الأحراش إلى «غندكرو» ، ولكن تعرض هذه المجموعات للتأثير العربي كان ضعيفاً، ويكاد يكون منعدماً بسبب توقف حركة الفتح الإسلامي لدولة الفنج.

ثانياً: المؤثِّر الثقافي:

من الضروري لمناقشة المؤثِّر الثقافي في السودان، وما يتعلق به من أطروحات، أن نبدأ بتفكيك عناصره وتناولها على حدة، وهي تقريباً: «الدين، اللغة، المؤثرات الحضارية، العادات والتقاليد» .

١ - الدين:

في السودان القديم كانت تسود الوثنية جميع أجزائه بأديانها المختلفة ومعبوداتها المتعددة، كالمعبودات الفرعونية في ممالك النوبة آمون وإيزيس وحورس، أو مثل المعبودات المحلية كأبادماك إله الحرب والنصر عند المرويين وسيبومكر، وأرينوسنوفس، أو المعبودات المأخوذة من الطبيعة مثل الأفعى والأشجار، أو مثل عبادة الطوطميات في الجنوب.

وفي منتصف القرن الرابع الميلادي دخلت النصرانية إلى السودان عن طريق الإرساليات البيزنطية، وما لبثت أن صارت هي الدين الرسمي لممالك النوبة الثلاث: «نوباطيا، المقرة وعلوة» ، وانتشرت الكنائس فيها، وإن كان هناك من يرجح أنها لم تكن ديناً شعبياً، بل كانت دين النخبة؛ بينما ظل عامة الشعب على معبوداتهم الوثنية.

أما الشعوب التي كانت تقطن شرق النيل، وإلى الجنوب الغربي، فقد ظلت متمسكة بمعتقداتها القديمة (٢) .

وفي القرن السابع الميلادي والأول الهجري ٣١ هـ/ ٦٥١ ـ ٦٥٢م توغلت الجيوش الإسلامية في بلاد النوبة وحاصرت دنقلا عاصمة المقرة، ولأن غرض المسلمين لم يكن الفتح، بل وضع حد لهجمات النوبة على الحدود المصرية؛ فقد انتهت هذه المرحلة بإبرام ما عُرف بـ (اتفاقية البقط) ، لكنها كفلت حق التوغل السلمي والتبادل التجاري للجانبين ـ مجتازين غير مقيمين، وهو الأمر الذي كان له أكبر الأثر في نشر العقيدة الإسلامية عن طريق التجار المسلمين.

كما تم عقد اتفاقات مماثلة مع البجة في القرن الثامن الميلادي، مكَّنت من فتح الموانئ السودانية مثل عيزاب وسواكن لنقل الحجيج، التجار القادمين من مصر، وهكذا تسربت المؤثرات الإسلامية تدريجياً حتى جاء القرن الثالث عشر الميلادي، وبدأت القبائل العربية تتدفق بأعداد كبيرة إلى السودان، وتداخلت مع السكان المحليين من النوبة والبجة، وفي منتصف القرن الرابع عشر سقطت مملكة النوبة المسيحية على يد بني عكرمة ـ إحدى بطون جهينة ـ وزال الكيان المسيحي الذي كان يصد توغل العرب، فاندفعوا بأعداد كبيرة خلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر إلى مملكة «علوة» آخر معاقل النوبة المسيحيين، وغلبوها على أمرها، وتمكنوا من إزالتها من الوجود في منتصف القرن الخامس عشر على الأرجح؛ حيث انقضَّت جموع هائلة من القبائل العربية بقيادة عبد الله القرنياتي المعروف بـ «جماع» على سوبا وقضوا على ملكها، وهكذا انهزمت المسيحية تماماً في السودان، ولكنها عادت مرة أخرى على يد المبشرين الاستعماريين خلال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، وأفسح لها الاستعمار الإنحليزي المجال للعمل منفردة في المناطق التي يضعف فيها الأثر الإسلامي مثل الجنوب وجبال النوبة، حتى صارت دين النخبة السياسية والمثقفين في تلك المناطق.

وفي بداية القرن السادس عشر جاءت قوة مسلمة وافدة من أعالي النيل الأزرق، وقامت بالإطاحة بحكم العربان وأقامت دولة إسلامية كان لها أكبر الأثر في نشر الثقافة الإسلامية ودحر الوثنية، وهي دولة الفونج التي تمددت شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً (٣) .

وفي غرب السودان قامت بعض الكيانات السياسية الإسلامية مثل المسبعات التي اندمجت بالقوة تحت سلطان الفونج، ومثل الفور التي ظلت كياناً سياسياً قائماً بذاته حتى العهد التركي.

لقد استطاع الإسلام ديناً وثقافة أن ينفرد تماماً في كل السودان الشمالي وجزء كبير من الجنوبي، ومثل جبال النوبة والأنقسنا.

٢ - اللغة:

للغة أثر كبير في شخصية الثقافة؛ حتى إن بعضهم يصنف الثقافة على أساسها، وفي السودان عدد كبير من اللهجات واللغات مثل اللغة النوبية أصل اللهجات «الدناقلة والسكوت والمحسن ... إلخ، ومثل اللغة التبداوية أصل لهجات البجة؛ إضافة إلى لهجات القبائل الإفريقية في الغرب مثل الفور والزغاوة والمساليت. أو لهجات القبائل النيلية من شلك ودينكا ونوير.. إلخ، ولكن العربية ظلت ـ في مستوياتها المختلفة ـ هي لغة التخاطب في السودان، والقاسم المشترك بين كل القبائل والثقافات، ولغة الشعائر الدينية، ولغة المعاملات التجارية والرسمية، وإن حاول المستعمر أن يغرس الإنجليزية بديلاً لها في الجنوب (٤) .

٣ - التأثيرات الحضارية:

تعرضت الممالك السودانية القديمة لمؤثرات حضارية عدة نتيجة لاتصالها بالعالم من حولها، فقد وفدت إليها تيارات حضارية مصرية ويونانية ورومانية وحبشية، أدلت بأثرها في العادات والتقاليد والطقوس وربما تسربت بقاياها حتى يومنا هذا (٥) .

٤ - العادات والتقاليد:

على الرغم من أن الإسلام قد غيَّر الخريطة الديمغرافية والثقافية في السودان، وأنشأ مجمل العادات والتقاليد لدى القبائل المحلية المستعربة على حد سواء، إلا أن قدراً لا يستهان به من العادات والتقاليد كان بعيداً كل البعد عن الأصول الإسلامية، بعضها تسرب من الوثنيات القديمة كبعض العادات المرتبطة بالزواج والميلاد والختان والنفاس ... إلخ.

` صراع الهوية:

برز التكوين الحالي للسودان الإسلامية، بل كان مسلماً بها حتى لدى الاستعماريين الأوروبيين أنفسهم، رغماً عن أن المصلحة الأوروبية اقتضت تأكيد التمايز الثقافي بين الجنوب والشمال على وجه الخصوص، ولهذا ابتدعوا سياسات للفصل العرقي والثقافي مثل قوانين المناطق المقفولة، وقاموا بإعلاء شأن الزنجية والنصرانية ضد الوجود المسلم، وفي وقت لاحق تطور الأمر إلى صراع انفصالي مسلح ألقى بظلاله على الأطروحة الثقافية للمفكرين السياسيين السودانيين، فظهرت لأول مرة اتجاهات جديدة فيما يتعلق بالهوية، بدأ الخلاف أكاديمياً في أول الأمر، وتبلور في ثلاثة أطروحات:

أ - أطروحة تؤكد أن الهوية الثقافية للسودان هي امتداد طبيعي للثقافة الإسلامية والعربية، حسب المعطيات المتوافرة من دين غالب ولغة غالبة وعادات، وعلى الرغم من وجود الثقافات الأخرى فإنها ثقافات أقلية.

ب - أطروحة تدعو إلى تعظيم دور النمط المحلي في تكوين الثقافة السودانية بقدر مكافئ للإسلام، وتعتبر الهوية السودانية ثنائية المصدر «أفرو عربية» ، لكن هذه الأطروحة تمتد أحياناً لتغليب الهوية الإفريقية مطلقاً.

ج - أطروحة تدعو إلى حجر هيمنة الثقافة العربية والإسلامية، وتعتبر أن الثقافة السودانية متعددة المصادر، اعتماداً على تعدد اللغات واللهجات «زنجية ـ عربية ـ نوبية تبداوية ... إلخ» (١) .

ونتيجة لتعاظم الضغط الانفصالي في الجنوب الذي صار مسنوداً من القوى الدولية، وبدفع من هذه القوى تم الترويج للأطروحة الأخيرة في الوسط السياسي كأساس للحل السياسي، واستناداً عليها يتم رفض مشاريع الحكم الإسلامية التي تستند إلى الهوية الإسلامية، وقد بلغ هذا الخط أقصى ما تتمناه قوى الاستكبار الدولي؛ حيث وصل إلى ما يشبه الإجماع بين القوى السياسية الفاعلة، بما في ذلك السلطة الحاكمة، وتم إثباته في الدستور، واعتمدته أغلب الأحزاب في مشاريعها للحل ومواثيقها السياسية.

` التباين وإشكالية الوحدة:

إذا كان المشروع التعددي يطرح نفسه كضمان للوحدة «ضد الانفصال» ، ويدعو إلى تنمية الثقافات المحلية، فإنه يتجاهل حقيقة أساسية، وهي أن الثقافة الإسلامية ظلت هي الصبغة الشرعية للهوية السودانية، والقاسم المشترك بين الكيانات العرقية طوال قرون عدة.

أما تنمية التعدد الثقافي والعرقي؛ فلا تعدو أن تكون مجرد إرضاء لأهواء ساذجة لنخب سياسية لا تعبر عن حقائق، بل من الوهم تصور أن ذلك يمكن أن يكون ضماناً للوحدة؛ فهو ببساطة تعميق للفوارق وتعزيز للاعتداد بالكيانات الصغيرة، آخذين في الاعتبار أن التركيبة السكانية في السودان في غالبها الأعم أقرب إلى البداوة من التحضر، ولو فرضنا جدلاً أن ثمة تمازجاً قد حصل لتلك الثقافات في ظل التنوع المعبر عنه سياسياً وإعلامياً؛ فإن ذلك سيتمخض عن نتيجتين:

١ - أن تمتزج هذه الثقافات وتنتج نسيجاً جديداً، وهو في هذه الحالة سيكون منكراً ومتنافراً يحمل عوامل الفناء في داخله؛ فهي عملية عشوائية لا تقوم على معايير منضبطة.

٢ - أن تفرض ثقافة ما وجودها وهيمنتها بوصفها الأقوى والأكمل ـ إذ إن الطبيعة الاجتماعية تؤيد ذلك ـ وهو عين ما قامت به الثقافة الإسلامية حينما زاحمت الثقافات المحلية، فإن قربها للفطرة أعطاها هذا الوضع.

إن الفوارق العرقية الثقافية لم تكن يوماًِ ما عامل وحدة، بل ظلت على الدوام عامل شتات. وبالمقابل فإن الإسلام هو الثقافة الوحيدة التي ظلت تتمتع بالقدرة على صنع الوحدة والتجانس في أشد حالات التنوع تشابكاً. قال الله ـ عز وجل ـ: {فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إخْوَانًا} [آل عمران: ١٠٣] ؛ ففي تاريخ الدولة الإسلامية استطاع الإسلام أن يجمع أجناساً وأعراقاً شتى وأصحاب ثقافات مختلفة، عرباً وفرساً وهنوداً وأرمن وصقالبة وبربر وإفريقيين وقبطاً، لقرون عديدة انحدرت كلها في إطار الثقافة الواحدة المهيمنة، وحتى في السودان نجد الآتي:

` اتحاد العبدلاب والفونج الذي صنع الدولة التي وحدت معظم أجزاء السودان كان بعد حرب، ولكن الإسلام وحد بينهم.

` تجربة الزبير باشا الذي أسس دولة إسلامية في قلب الجنوب الأكثر تشابكاً واختلافاً من ناحية التعدد الثقافي والعرقي.

` المهدية (الثورة والدولة) التي استطاعت أن تجمع كل السودانيين في منظومتها على اختلاف أعراقهم، بل وامتدت حتى جبل الرجاف في عمق الجنوب.

لقد أدرك المستعمرون الأوربيون هذه الحقائق، فعملوا على تعويقها بسياسة الفصل العرقي للجنوب عن الشمال بقوانين المناطق المقفولة، وبتعميق الشعور القبلي في الشمال (سياسة فرق تسد) حينما استخدموا أسلوب الإدارة الأهلية، وقد أدرك رواد الحركة الوطنية الأوائل في مؤتمر الخريجين هذه الحقيقة واستوعبوها، فكانت رؤيتهم لحل مشكلة الجنوب هي نشر الثقافة الإسلامية فيه.

ولهذا فإننا نطرح (الثقافة الإسلامية) كمشروع وحيد وأصيل للوحدة وليس العكس.


(١) نجم الدين محمد شريف، السودان القديم وآثاره، دار جامعة الخرطوم، مايو ١٩٧١م.
(٢) محمد بن أبي بكر الرازي، مختار الصحاح، دار الجيل، بيروت، ١٩٨٧، ص ٧٢.
(١) الدكتور التيجاني مصطفى محمد صالح، عوامل تشكيل الشخصية السودانية (مقال) ، مجلة الثقافة السودانية، العدد ٢٨ مايو ١٩٩٥م.
(٢) أمل عمر أبو زيد، الملامح العامة لتاريخ السودان القديم، مركز محمد بشير عمر للدراسات السودانية، دار الزهراء، الخرطوم، ١٩٩٧م، ص ٢٣٠.
(٣) أحمد محمد علي الحاكم، هوية السودان الثقافية، منظور تاريخي، دار جامعة الخرطوم للنشر ١٩٩٠م، ص ٣١ ـ ٣٥.
(٤) يوسف فضل حسن، سلطنة الفونج الإسلامية، دورها في تاريخ سودان وادي النيل، «بحث» ، مجلة «دراسات إفريقية» ، جامعة إفريقيا العالمية، العدد ٢٢، ديسمبر ١٩٩٩م.
(١) أحمد محمد علي الحاكم، هوية السودان الثقافية، ص ٣٤.
(٢) يوسف فضل حسن، سلطنة الفونج الإسلامية، ويحيل إلى كتابه: دراسات في تاريخ السودان، ج ١، الخرطوم ١٩٧٥م، ص ١٢ ـ ١٨. (٣) المصدر السابق.
(٤، ٥) للتوسع راجع أحمد محمد علي الحاكم، هوية السودان الثقافية، ص ٦١ ـ ٧٣، أمل عمر أبو زيد، الملامح العامة لتاريخ السودان القديم.
(١) أحمد محمد علي الحاكم، هوية السودان الثقافية، ص ٧، ٨.