أزمة ديون العالم الثالث
التاريخ يعيد نفسه
إن أسباب أزمة ديون العالم الثالث لم تتغير منذ مائة عام، تبدأ المشكلة بتهالك
دائنين شرهين على الإقراض، وحرص منهم على مد السكك الحديدية في
الصحاري المترامية الأطراف، وإقامة مصانع في الأدغال، هذا من جهة؛ ومن
جهة أخرى حكام دكتاتوريون يجمعون بين الفساد والجهل، تنفتح شهيتهم وشراهتهم
إلى القروض، فيحولون قسماً كبيراً منها إلى جيوبهم، أو يعيدون قسماً آخر منها
إلى حساباتهم في البنوك الغربية، وبعد وقت قصير يحين موعد تسديد هذه الديون،
وهنا تبدأ الأزمة.
وهكذا كانت بداية مثل هذه الأزمة في الثمانينيات من القرن الماضي عندما
حدث ما اصطلح على تسميته بأول أزمة ديون عالمية، وذلك بعجز الدولة العثمانية
عن تسديد ديونها المستحقة، وإعادة المفاوضات بشأنها.
وهاهي الأزمة تعيد نفسها في الثمانينيات من هذا القرن، حيث أقرض الغرب
المكسيك والبرازيل وفنزويلا وغيرها من دول العالم الثالث المفلسة التي اعتادت
الاقتراض، واستحلت طعمه.
إن ما يمكن تعلمه من دروس التاريخ العثماني؛ هو أن علاج بعض المشاكل
قد يزيدها تفاقماً وسوءاً. فالدولة العثمانية نقلتها مشكلة الديون من كونها (رجل
أوربا المريض) إلى أن تصبح (رجل أوربا الميت) ، ولم تفلح جهود الأوربيين
في إحياء الجثة إلا في خلق مشاكل جديدة.
وفي هذه الواقعة التاريخية فائدة وعبرة لوزير الخزانة الأمريكي (نيقولاس
بريدي) الذي يحاول أن يصوغ خطه لتخفيف ديون العالم الثالث، بينما كان سلفه (جيمس بيكر) مصراً على تسديد المقترضين (المفلسين) ديونهم بكاملها دون نقصان. أما الآن فإن بريدي يقترح أسلوباً أكثر ليونة وذلك بالتنازل عن جزء من هذه الديون.
إلا أن التجربة العثمانية لا توحي بأن أي من الحلين يمكن تطبيقه بسهولة!
فإذا لجأنا إلى خيار (بيكر) فإن ذلك يتطلب من المقرضين التدخل بشكل سافر
في إدارة اقتصاد الدول المقترضة.
وإذا لجأنا إلى خيار (بريدي) فإن ذلك سيؤدي إلى انهيار سمعة الدول
المقترضة أمام العالم، وفقدان الثقة بها، كما حصل لسمعة الدولة العثمانية بعد عام
١٨٧٥م.
وقد لاحظ (برنارد لويس) [١] أن الشيء الذي لم يتغير خلال قرن من
الزمن - رغم كل التغيرات التي حصلت - هو جهل المستدينين وجشع الدائنين.
وقع العثمانيون أول الأمر تحت وطأة الديون لأسباب تشبه كثيراً أسباب
استدانة دول العالم الثالث، وهي في شراء أسلحة (عصرية) ، فعندما وقعت حرب
القرم عام ١٨٥٤ لم يكن على العثمانيين ديون تذكر، ولكن السلطان عبد المجيد
الذي كان حريصاً على مساعدة بريطانيا وفرنسا ضد روسيا أصدر مرسوماً يسمح
فيه للخزينة باقتراض ٣ ملايين جنيه، وكانت تلك بداية نهم لا يشبع من قبل
الأتراك إلى الأموال الأجنبية، وذلك ببيعهم سندات ديون إلى مستثمرين أوربيين
خصوصيين، وغدا الاقتراض من الخارج لديهم عادة روتينية سهلة.
كتب المؤرخ البريطاني اللورد كنروز عن تلك الفترة من التاريخ العثماني
يقول: (أصبح الاقتراض من البنوك الغربية غاية في السهولة، فقد كان ... المستثمرون الأوربيون يتفاءلون خيراً بما يردهم من تقارير مشجعة حول المصادر الطبيعية الضخمة في تركيا، ولكنهم تناسوا حقيقة عجزها عن استثمار تلك الموارد، وقصورها الفادح في تسيير المسائل المالية) .
وكان لدى العثمانيين مرض آخر معروف لدى العالم الثالث، وهو نزعة القادة
إلى إنفاق الأموال الطائلة من مال الشعب على أنفسهم ومصالحهم الخاصة، وقد
تفاقم هذا الأمر باعتلاء السلطان عبد العزيز العرش عام ١٨٦١م، فقد كتب السير
إدوين بيرز في الكتاب السنوي لعام ١٩١٧:
(كانت الإدارة المالية فاسدة تماماً، حيث لم يكن يصل إلى خزينة الدولة من
أموال الضرائب إلا ٤٠ بالمائة) .
وطوال فترة حكم عبد العزيز كانت الديون العثمانية تتراكم، فقد ارتفعت من
(٣) ملايين جنيه عام ١٨٤٥م إلى حوالي (٢٠٠) مليون جنيه عام ١٨٧٥ وقد انهار
هذا الهرم غير الطبيعي من الديون فجأة في ٦ أكتوبر من تلك لسنة عندما عجز
العثمانيون عن الوفاء بالتزامهم للدائنين! فأعلن الباب العالي أنه سيدفع نصف
الفوائد، وتعهد بالتزامات جديدة تغطي الباقي.
وكما لاحظ كنروز فقد كان هذا عجزاً حطم سمعة الحكومة العثمانية في
الخارج، وهكذا بعد دمار رصيدها وتخبط اقتصادها في براثن الفساد عجزت الدولة
العثمانية ثانية عن الوفاء بالتزاماتها المعدلة، وانتهى الأمر بالسلطان عبد الحميد أن
ألقى السلاح، ووافق على قيام مجلس مشترك: عثماني - أوربي للإشراف على
تسديد الديون.
وكان أن فقد العثمانيون التحكم المستقل باقتصادهم، وسمحوا للتدخلات
الأجنبية فيه، فأصبحت مواردهم الطبيعية رهينة بيد القوى الأجنبية، يساعدها
عملاء محليون وطابور خامس من اليونان والأرمن، وقد كانت الاضطرابات
السياسية والاجتماعية الناجمة عن ذلك من أهم الأسباب التي ساعدت على ظهور
حركة (تركيا الفتاة) وزوال الإمبراطورية إلى درجة يمكن معها التأكيد بأن الديون
أدت إلى خنق العثمانيين.
دافيد أغناطيوس / الغارديان ويكلي ١٥ / ٥ / ١٩٨٩ م
(١) مستشرق أمريكي مشهور متخصص بشؤون العثمانيين.