للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بأقلام القراء

[لقطات من العشر الأواخر]

محمد حماد

يسر الله لي الذهاب إلى مكة المكرمة في العشر الأواخر من شهر رمضان

المبارك لهذا العام، وسجلت ذاكرتي هذه اللقطات:

الجهد المبارك:

رغم كبر سنه، وضعف بنيته إلا أن الله قد منح هذا الشيخ الفاضل طاقة

وجلداً قلما تجده عند أكثر الشباب، وهذا ليس ثناءاً بل هو ما رأيته على مدى

عشرة أيام كان خلالها الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين كتلة نشاط مستمرة ما شاء

الله لا قوة إلا بالله؛ فله درس بين صلاتي التراويح والتهجد، ودرس بعد صلاة

الفجر إلى ما بعد الشروق، وفي العصر يستقبل الأسئلة والفتاوى. ولقد رأيته ما

يكاد ينتهي من التسليم في صلاة التهجد بعد كل ركعتين حتى يأتيه المستفتون ولا

ينقذه منهم إلا الصلاة!

وحبذا لو أن الشيخ - حفظه الله - بالإضافة إلى جهده العلمي المشكور - كان

النصيب الذي يعيره للشباب ومشاكله أكثر، فهم بحاجة إلى توجيهه ورعايته،

ودمتم لنا يا شيخ محمد.

الكيف قبل الكم:

لا شك أن القلب يمتلىء بهجة وهو يرى أفواج المصلين الذين يترددون على

المسجد في كل صلاة، ولكن إذا تمعنا قليلاً رأينا أموراً تقول لنا ألا نتسرع في

الحكم، فالطريق لا زالت طويلة وأن التربية الإيمانية لم تكتمل بعد. مشهدان ندلل

بهما على ما نقول:

المشهد الأول: قبل أذان المغرب: أحد العمال يوزع الأكواب الورقية،

تتجمع عليه جماعة من الناس، ينزعون الأكواب منه بالقوة، كلهم يريد أن يأخذ

أكثر من حاجته، أحد المزاحمين - وكان قد فاز بكيس كامل من الأكواب يسأله

أحدهم أن يعطيه بعضها فيرفض قائلاً: (يا عمي إحنا ما أخذناها إلا بالقوة! !) .

المشهد الثاني: تعطلت السلالم الكهربائية بسبب زيادة الحمل، والمصلون

يتزاحمون ورفضوا الانصياع لتوسلات المسئولين بالتريث والانتظام، وعندما

ارتجت الدرجات بهم فزع المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً، وتدافعوا وتصايحوا،

فهذا يقفز لينجو بنفسه، وهذا يصرخ. والناس قد أصابهم الذهول. تُرى كيف

يفعل هؤلاء عند مواجهة العدو؟ ! .

قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي رواه الإمام أحمد

وأبو داود عندما سئل عن سبب تداعي الأمم على المسلمين: هل هو من قلة؟ ،

قال: لا، ولكنكم كغثاء السيل، يجعل الوهن في قلوبكم وينزع الرعب من قلوب

عدوكم بحبكم الدنيا وكراهيتكم الموت. صحيح الجامع/٨٠٣٥.

من شوارع مانهاتن إلى المسجد الحرام:

إنها نقلة ضخمة وعجيبة، ولكن ليس ذلك على الله بعزيز ويبقى هؤلاء النفر

من المسلمين الجدد مثالاً على قدرة الله ورحمته في هداية الناس، فمن شوارع

وأزقة مانهاتن وحاناتها، حيث المخدرات والجريمة والضياع (أحدهم تعرَّف على

المخدرات وعمره ٩ سنوات) إلى الاعتكاف في بيت الله الحرام، الله أكبر!

أمضيت بعض الوقت مع أحد الإخوة وهو يدرس في الجامعة الإسلامية

بالمدينة المنورة وكان معظم حديثنا عن حال المسلمين في أمريكا الشمالية فأعطاني

معلومات كثيرة عن " البلاليين " تختلف عن الفكرة التي كانت لديَّ بناءاً على ما

قرأته من قبل عن حال هذه الجماعة الآن؛ لذلك أتجه إلى مجلتنا الحبيبة (البيان)

لتعطينا تقريراً عن أوضاع هذه الجماعة وغيرها من الجماعات الإسلامية في أمريكا.

(البيان: نعد الأخ بذلك ونرجو أن نوفق إلى ذلك) .

ليلة ٢٧ من رمضان:

يكاد المرء يلمس الروحانية لمساً في تلك الليلة المباركة، لا مكان في الحرم

إلا وفيه عابد لله من طائف بالبيت إلى قائم يصلي إلى قارىء للقرآن.

صحن الكعبة كخلية النحل ممتلىء إلى آخره. مرت لحظات من صلاة التهجد

تكاد ترى فيها النور يمتد من المحرم إلى عَنان السماء. إنها لحظات عجيبة تجمع

فيها أكثر من مليون ونصف مسلم. ليس على سطح الأرض كل مظاهرة إيمانية

كهذه في هذا الوقت.

وتسمع البكاء والنحيب والدعاء المتضرع ولاشك أن كثيراً من المسلمين كان

مخلصاً في دعائه الله بالمغفرة ونصرة الإسلام والمسلمين.

ولكن الدعاء وحده لا يكفي، إن الله كريم جواد قادر على أن ينصر دينه

وعباده ولكن سبق قوله - تعالى: [إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] [الرعد: ١١] ، لابد من التغيير ولابد من العودة الصادقة إلى الله والإنابة إليه،

لا يكفي الدعاء أو عبادة ليلة واحدة أو شهر كامل، إذا أردنا أن تقام دولة الإسلام

في أرضنا فعلينا أن نقيمها في أنفسنا وبيوتنا وأعمالنا في كل لحظة، بل في كل يوم؛ فالرسول -صلى الله عليه وسلم- ما دعا في بدر عندما دخل العريش وأطال وألح

في الدعاء إلا بعد أن أعد العدة وجهز الجيش وربى الصحابة.