أدب وتاريخ
أثر الإسلام في حركة الإصلاح البروتستانتية
د. السيد محمد الشاهد
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
تتفق المصادر العربية والغربية على أن العصور الوسطى المسيحية كانت
امتداداً للعصور التي سبقتها من حيث احتكار الكنيسة لحق تسيير جميع شئون الحياة
العامة والخاصة في الغرب، كما تتفق على أن ذلك الوضع كان سبباً في ركود
الحضارة الغربية التي بدأت عند اليونان في القرن الخامس قبل الميلاد ثم توارت
آثارها بعد سيطرة الكنيسة في الدولة الرومانية ابتداء من القرن الرابع الميلادي.
ويطلق المؤرخون على الفترة الواقعة بين القرن الرابع وحتى العاشر
الميلاديين (عصر الظلام) كما يطلق بعض المؤرخين المحدثين على الفترة التي
تلتها أي العصور الوسطى (عصر الجهالة) كما يقول (ساذرن) في كتابه (نظرة
الغرب إلى الإسلام في العصور الوسطى) ولديورانت في كتابه (قصة الحضارة)
انظر [ج ٢٧، صفحة ١١٤] .
وقد عم ظلم رجال الكنيسة البسطاء الذين كانت تفرض عليهم الضرائب
الباهظة والتي كانت كثيراً ما تؤدي بهم إلى الاسترقاق لخدمة رجال الكنيسة سداداً
لديونهم إلى جانب اعتمادهم المطلق على رجال الكنيسة فيما يتعلق بأمور دينهم
لجهلهم بالكتاب المقدس الذي كان مكتوباً باللغة اللاتينية التي لا يعرفها سوى قلة
نادرة.
أما الساسة فكانوا يعينون ويعزلون حسب رغبة رجال الكنيسة بسبب تعاطفهم
مع أفراد الشعب البسطاء أو إهمال إرسال نصيب الكنيسة من الضرائب أو ما إلى
ذلك.
أما العلماء فكانوا يتهمون بالسحر والزندقة إذا قالوا بآراء علمية تخالف آراء
رجال الكنيسة، ومن أشهر الأمثلة على ذلك إعدام جيرارد وبرونو (١٦٠٠م) ،
ومحاكمة جاليلو (١٦٤٢م) حيث اضطر إلى الرجوع عن قوله بدوران الأرض إنقاذاً
لحياته.
بذلك اتسعت الجبهة المناوئة للكنيسة فضمت كثيراً من أفراد الشعب البسطاء
وبعض الساسة، وكثيراً من العلماء بالإضافة إلى بعض رجال الكنيسة الذين كانوا
غير راضين عن هذا الظلم.
وفي تلك الفترة كان الإسلام قد عرف في الغرب، خاصة بعد أن انتشرت
أقسام تعليم اللغة العربية في معظم جامعات أوربا بعد موافقة الكنيسة على ذلك في
عام١٣١٥م بغرض محاربة الإسلام ونشر النصرانية (التنصير) ، وقد كانت توجد
ترجمة لمعاني القرآن الكريم منذ عام ١١٤٣ أنجزها أحد رجال الكنيسة يدعى
روبرت الكينوتى، وقد ظهر بعد ذلك بفترة وجيزة أول معجم عربي لاتيني. (انظر: تراث الإسلام شاخت وبوزوورث (١/ ٩ ٣) .
وبذلك تيسر للغربيين الاطلاع على إنتاج المسلمين الفكري بالإضافة إلى
التعرف على الإسلام من مصادره، ففي منتصف القرن الثالث عشر الميلادي كان
هناك عالم نصراني يجيد العربية، ويحفظ القرآن الكريم، وصحيحي البخاري
ومسلم، وكان يدعى (ريموند مارتيني) ، وقد حاول هذا الرجل معارضة القرآن
بسورة ركيكة نسجها باللغة العربية على منوال بعض آيات القرآن، ونص هذه
السورة التي اخترعها لا يزال محفوظاً في بعض المصادر العلمية (انظر.
الاستشراق بين الموضوعية والافتعالية، قاسم السامرائي، ص٩٠) .
مما سبق يتأكد لنا أن الإسلام كان معروفاً بشكل جيد في الغرب خاصة عند
رجال الكنيسة المهتمين بالتنصير وكذلك بين معظم العلماء من غير رجال الكنيسة،
ولم تقتصر معرفة هؤلاء على كتب الفلسفة الإسلامية أو العلوم الطبيعية كما هو
شائع في مصادر تاريخ الفلسفة ولكن كانت كتب العقيدة الإسلامية وأولها القرآن
الكريم، وكتب السنة النبوية من أوائل ما اهتموا به وترجموه إلى لغتهم اللاتينية
حيث سبقت ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللاتينية كتب فلسفة ابن رشد التي
يعزو إليها كثير من المؤرخين التأثير القوي للإسلام على الفكر الغربي، وهذا
الواقع يثبت خطأ ادعاء مفكري الغرب بأن أسلافهم في العصور الوسطى كانوا
يهتمون فقط بترجمة كتب الفلسفة اليونانية التي كان العرب قد نقلوها إلى العربية،
وقد فقدت أصولها اليونانية بعد ذلك..
ويمكننا أيضاً أن نقول بأن الفلسفة والعلوم العربية الإسلامية قد أيقظت وأثرت
الفكر والعلوم الغربية بينما كان أثر العقيدة الإسلامية أبعد في إيقاظ الفكر الغربي
بشكل عام، والفكر الديني بشكل خاص.
وقد كان لانتشار المعرفة بالإسلام عقيدة وفكراً ولغة بين العلماء والمهتمين
بأمور الدين أن وجدت الكنيسة نفسها في مواجهة جبهتين: جبهة داخلية يمثلها
بعض العلماء والحكام وكثير من أفراد الشعب البسطاء. وجبهة خارجية يمثلها
الإسلام والفكر الإسلامي عن طريق من تأثروا به وأعجبوا بمبادئه وقوة حجته.
ولم ينج بعض رجال الكنيسة من هذا التأثر والإعجاب، فكانوا بذلك سنداً
لمعارضي الكنيسة دون قصد في غالب الأحيان، وكانت النتيجة الحتمية لازدياد
طغيان الكنيسة وتشددها في محاربة كل ما من شأنه دفع عجلة التقدم والتحضر
ومحاولة اللحاق بالحضارة الإسلامية أن انفجر صراع مرير بين الكنيسة
ومعارضيها الذين حاولوا إصلاحها من الداخل دون جدوى فنشبت الحرب الشهيرة
التي قادها (مارتن لوثر) عام ١٥٢١ م تقريباً واستمرت حوالي ثلاثين عاماً راح
ضحيتها ملايين من البشر من النصارى أنصار الكنيسة والمعارضة وتعرف هذه
الحرب بحرب الثلاثين عاماً أو حرب الفلاحين، والتي أدت إلى انشطار الكنيسة
الكاثولوكية إلى كنيستين: كاثولوكية وبروتستنتية (أي المعارضين) وتسمى أيضاً
الكنيسة الانجيلية لأن مؤسسها (مارتن لوثر [ت ١٥٤٦ م) كان أول من أمر
بترجمة الكتاب المقدس (التوراة والانجيل: العهد القديم والعهد الجديد) إلى اللغات
المحلية، آنذاك، وأولها اللغة الألمانية.
ولم تكن ثورة لوثر ولا معارضات سابقيه من رجال الكنيسة والعلماء خلال
العصور الوسطى وعصر النهضة (أي من القرن الحادي عشر إلى السادس عشر
الميلادي) نتيجة سوء الأوضاع الداخلية وفساد الكنيسة الاجتماعي والخلقي فحسب
بل لابد من اعتبار سبب آخر يضاف إلى ذلك جعل توقيت هذا الانفجار يتأخر إلى
القرن السادس عشر ولا يحدث مثلاً في عصور الآباء (عصر الظلام) حيث كان
طغيان الكنيسة ومساؤها أكثر منه فيما تلا ذلك من قرون.
هذا السبب الآخر والأقوى في نظري، هو انتشار المعرفة بالإسلام، عقيدة
وفكراً في الغرب، فقد كان الإسلام هو المحرك للعقل الأوربي بعد أن أيقظه من
سبات دام طوال عصور الظلام والعصور الوسطى، كما يقول (غوستاف لوبون)
في كتابه (حضارة العرب) ] ص ٥٢٧ [، أما مارتن لوثر فإنه من المأثور عنه أنه
كان يعرف القرآن معرفة جيدة، وله كتابات تهجم فيها عليه تدل على مدى اهتمامه
بالقرآن وتأثره به (انظر مجلة عالم الكتب، مجلد ٦، العدد ٤ /١٤٠٦هـ، ص
٥٥٥) ، وقد كان رجال الكنيسة المحافظون يتهمونه بأنه يريد أن يقيم مملكة -صلى
الله عليه وسلم- بدلاً من مملكة عيسى عليه السلام، ويستشهدون على ذلك بدخول
بعض أنصاره في الدين الإسلامي. (انظر. الاستشراق: قاسم. السامرائي، ص
٢٥) .
ويعتبر هذا دليلاً قوياً على انتشار الإسلام بين بعض معارضي الكنيسة وتأثر
الكثير منهم به، لأن مثل هذا الاتهام لا يمكن أن يأتي من فراغ.
أما الدليل الواضح على صحة ادعائي بتأثر مارتن لوثر وحركته الاصلاحية
بالإسلام تأثراً قوياً فهو ما يجده القارئ واضحاً في مبادئ عقيدته الجديدة، والتي
يعتقدها نصف المسيحيين تقريباً، أي عقيدة (البروتستنت) وأهم هذه المبادئ التي
تعكس بوضوح أثر الإسلام فيها هي:
ا - منع اتخاذ الصور والتماثيل في الكنائس والسجود لها.
٢ - رفضه لوساطة رجل الكنيسة بين العبد وربه عند طلب المغفرة،
والصلاة على القديسين، وعصمة الباباوات.
٣-إيمانه بالقضاء والقدر مع مسؤولية الإنسان عن أفعاله.
٤ -رفضه لعقيدة الذنب الموروث، وإيمانه بأن رحمة الله تسع كل شيء.
٥-اعتماده على العقل في فهم النصوص الدينية مع تفضيله الإيمان بالنص إذا
تعارض مع العقل.
٦ -اعتماده الكتاب المقدس الذي جاء به عيسى عليه السلام المصدر الوحيد
للإيمان، وليس ما صدر عن الباباوات.
٧ - أمره بترجمة الكتاب المقدس إلى لغات أخرى متداولة (محلية) ، بعد أن
كانت الكنيسة تحرم ذلك وتمنع الصلاة بلغة أخرى غير اللاتينية التي لم يكن يفهمها
من يردد كلماتها من غير المتعلمين.
أضف إلى ذلك ما كان يقوله عن بابا الكنيسة: (إن المسيح الدجال الحقيقي في
الواقع ليس محمداً بل البابا في روما.. وأن كنيسة روما هي كنيسة الشيطان، وقد
ألف في ذلك كتاباً أسماه (ضد الباباوية التي أسسها الشيطان) .
لقد ساعد لوثر مناوئي الكنيسة من العلماء، بطريق غير مباشر ودون أن
يقصد إلى حرمان الكنيسة من الإشراف على شؤون الحياة العامة، إذ انفصلت
السلطة السياسية والفكرية عن السلطة الدينية وظهر ما نسميه في اللغة العربية خطأ
(بالعلمانية) ، وحقيقة المصطلح في أصله اللاتيني لابد أن يترجم إلى (العصرانية) .
وقد كان لهجوم لوثر الكاسح على الكنيسة، والذي أسفر عن شطرها إلى
كنيستين ناصبت كل منهما الأخرى العداء، كان ذلك بتأييد غير مباشر لما نادى به
العلماء والسياسيون من فصل شؤونهم عن الكنيسة أي (عصرنة) الحياة العلمية
والسياسية.
ولا يمكن في هذا المجال إهمال أثر الإسلام المباشر في نشأة الاتجاه
العصراني في الغرب الذي بدأ في الظهور بعد الاحتكاك المباشر بالمسلمين
وبالإسلام، بدءاً من القرن التاسع الميلادي، حيث ظهر هذا الأثر واضحاً في
بعض الشخصيات العلمية المعروفة في الغرب آنذاك وبعده، حيث يمكننا أن نفرق
بين ثلاث مراحل للعصرانية.
١ - عصرانية علمية.
٢ - عصرانية سياسية.
٣ - عصرانية قانونية.
بدأت في القرن الحادي عشر واكتملت في القرن التاسع عشر بتأميم أملاك
الكنيسة.
ويعتبر بطرس أبيلارد (١٠٧٩-١١٤٢) من أوائل من نادوا باستقلال العلم
عن الدين الكنسي، الذي لم يجد فيه أي مساعدة أو تشجيع على تحصيل العلم، بل
وجد محاربة العلماء بشتى الطرق، وكان أبيلارد ممن تأثروا بالفكر الإسلامي
والعقيدة الإسلامية التي كانت قد انتشرت في أوربا عن طريق الترجمة خاصة في
الأندلس، وكانت معرفته بالإسلام سبباً مباشراً لوقوفه ضد رجال الكنيسة واتهامهم
بالجهل حتى بالكتاب المقدس الذي تناوله هو بالنقد، وألف كتاباً أسماه (نعم ولا)
ناقش فيه كل ما جاء في الكتاب المقدس، وأشار إلى التحريفات التي دخلت إليه
ورفضها وأثبت خطأها، حتى قيل: إنه كان يستغني بكتاب أبيلارد الموسوم ب
(نعم ولا) عن الكتاب المقدس أو أنه قد أصبح (بالفعل) يغني عن دراسة الكتاب
المقدس كما يقول (كولتون) (انظر: نشأة الجامعات في العصور الوسطى: جوزيف
نسيم، الاسكندرية , ١٩٧١م، ص ٩٩-١٠٣) .
ولقد ظل هذا الاتجاه ينمو في أوربا طوال القرون التالية حتى ظهر روجر
بيكون (ت١٢٩٤م) وتلاه مارسيليو البادوفاني (ت١٣٤٣م) ووليام الأوكامي (ت
١٣٥٠ م) ونادوا جميعاً باستقلال العلم عن الكنيسة. (انظر: الاستشراق، قاسم
السامرائي، ص ٧٥ - ٧٦، فلسفة العصور الوسطى، عبد الرحمن بدوي، ص
٧٩-٨٤ , ١٦٦، ١٨٢، وما بعدها) .
وقد زاد هذا الاتجاه وانتشر مع زيادة الإقبال على قراءة الإسلام والفكر
الإسلامي واكتشاف البون الشاسع بين موقف الكنيسة المناوئ للعلم والعلماء،
وموقف الإسلام الذي يجعل تحصيل العلم عبادة وفرض على كل قادر ويرفع شأن
العلماء حتى يجعلهم ورثة الأنبياء. ويبقى لنا سؤال في هذا المجال: لو افترضنا
أن رجال الكنيسة كانوا قد استجابوا إلى ما نادى به العلماء والمفكرون وأصلحوا
مساوئهم، هل كان ذلك سوف يؤدي إلى إنهاء التيار أو الاتجاه العصراني المعادي
لسلطة الكنيسة المطلقة؟ .
الحقيقة أن هذا الاتجاه كان سيستمر رغم ذلك، لأن الكتاب المقدس بغض
النظر عن كونه محرفاً، يخلو من أي تصور محدد لنظام سياسي أو اجتماعي أو
اقتصادي أو علمي.
هكذا نرى أن العصرانية كانت تطوراً طبيعياً للأوضاع الدينية والفكرية التي
سادت أوربا في تلك الفترة ونتيجة منطقية للنقص الموجود في الكتاب المقدس وعدم
صلاحيته لتسيير أمور الحياة العامة، لخلوه من أي تصور سياسي أو اقتصادي أو
اجتماعي.. الخ، وأهمية هذا الايضاح تكمن في كونها رداً على من ينادي بتبني
العصرانية في مجتمعنا الإسلامي تقليداً للغرب النصراني، فإن كانت العصرانية قد
ظهرت لتعوض نقصاً في الأناجيل من الناحية السياسية، والاقتصادية والاجتماعية، فالإسلام قد جمع كل ذلك في تصور كامل يعجز العقل البشري عن محاكاته فضلاً
عن أن يأتي بأفضل منه. والله من وراء القصد.