متابعات
قراءة في جدارية محمد الدرة لمحمد السلام
وعلى اليهود السلاح
سليمان بن عبد العزيز الربعي
كانت صورة محمد جمال الدرّة وهو يقضي نحبه بسيل رصاص الحقد
اليهودي محتمياً بأبيه والجدار وحاوية النفايات، ناطقة بأكثر من مشهد، مؤكدة على
أكثر من معنى، منتجة لما لا يحصى من الدلالات، لقد أسمعتنا تلك الصورة -
رغم أنا وضعنا أصابعنا في آذاننا - صوت صراخه المستغيث يصدع جدار صمتنا
الطويل، وعكست على مرآتنا - رغم صقلها البديع لميع عينيه بالذعر الرهيب
يشرخ صفاء عيشنا الرغيد، واختصرت جغرافيتنا رغم فضائنا الفسيح - بتلك
المساحة التي ضاقت عن جسمه النحيل، لتبلغ القلوب منا الحناجر، فتضيق علينا
الأرض بما رحبت، وتضيق علينا أنفسنا.
كان الأب أمامَ (محمد) الضائع يتحسسه - كما تتكلم الصورة - بصدى
العويل المفزع، والتصاق الجسد بالجسد، وكان في الجدار الذي يستندان إليه حلم
الدفء بحضن الوطن المنتهك، ونصرة الأمة المغيَّبة، في حين كانت الحاوية رمزاً
لوأد الحقيقة والحلم معاً، فما هي إلا لحظات بمقاييس الزمن، الدهر كله عند محمد،
حتى دمدم الرصاص في الجسد الغضِّ، ليغفو في حضن والده موتاً، منكفئاً
بوجهه إلى الأرض، قد وضع يديه على عينيه كأنه يسترهما عن عارنا، في حين
استحال الأب إلى فسيفساء من ذهول، وما سلم الجدار؛ فكأنه الآن يريد أن ينقضّ،
وبقيت الحاوية شاهداً غير عدل! لقد كانت صورة معبِّرة بحق، وربما بأكثر مما
يحب المهرولون، تراجيدية بأكثر مما يجب بحسب شروط السلام، بل كان في
صدقها الذي لم يكن لمحمد فيه اختيار ما يدعو جمعيات الطفولة في العالم الأول
للاحتجاج على عرضها خشية تأثيرها على نفسيات الناشئة المتمدنة فتعيق فألهم
المنفتح على غد سعيد جديد! !
لقد قيل: إنها قد هزّت - لبشاعتها - مشاعر العالم! والسؤال الأدنى: وأي
صورة لأهل الأرض المباركة في يومياتهم مع يهود تحمل غير البشاعة: إزهاقاً،
واستحياءاً، إذلالاً؟ ! كما أن السؤال «الأقصى» : وأين هو ذلك العالم المهزوز
بالصورة عن حسّ الواقع لإقرار قيم الإنسانية المجردة في أبسط مظاهرها الفطرية:
دفعاً للظلم ونصرة للمظلوم على أرض الأقصى؟ وإذ يدرك المرء ارتباط النصرة
بمفهوم أعمق من مجرد عواطف آنية إن وجدت؛ إذ هو متصل بالهويات
العقدية في أخص مضامينها المشتركة، فليس القصد ألا نعي إخفاق مدنية القرن
«الجيني» في تطبيق معايير المجتمع المدني الذي تدعو إليه، والتي من أهم
بنودها: احترام الإنسان بوصفه قيمة مجردة بحقوق تبدأ ولا تنتهي! ! كما أن القصد
المراد: لفت نظر هذه الأمة إلى أن طبيعة الصراع مع يهود تتجاوز المحسوس
في مداه المهم إلى الأهم شعوراً بالهوية؛ في سبيل إعادة إنتاجها في صور
انتمائية إيجابية تسعى إلى تحقيق شروط النصر، سواء كانت شروطاً كونية
متعلقة بالاستعداد والقوة، أو شروطاً أخرى شرعية تتعلق بتجديد الصلة
بالله - تعالى - وصدق الالتجاء إليه.
فهذه الصورة التي تسابقت لبثها شبكات التلفزة لا تحكي - فقط - قصة القهر
الممنهج الذي يتعرض له الشعب المُعاني هناك صباح مساء، ولا تعكس فحسب
صورة ناجزة لهوان أمة كانت تنتصر في سالف الحقب لصيحة عفيفة لُطمت
بإحراق الأرض ومَن عليها! ! وإنما تكشف فيما هو أبعد من ذلك وأدل طرفاً من
نتائج تيهنا الطويل أكثر من نصف قرن من الزمان هي عمر قضيتنا المركزية كما
اعتدنا أن نقول، بُعداً عن مصادر التمكين، وخللاً في المناهج، وتغييباً لذاكرة
العزة التي لم تزل تلحّ علينا بحقيقة أن ما أُخذ بالقوة لا يسترد إلا بها، وأنه ما ترك
قوم الجهاد في سبيل الله إلا ذلوا.
وحقاً؛ فأي ذلّ أمكن من هذا الواقع الذي يتفرج فيه مليار مسلم - فيما يقال-
على المسرى المحرم، ثالث المسجدين، وأولى القبلتين، وهو نهب لأرجاس
إخوان القردة، فلا يملكون من أمرهم سوى الشجب والتنديد؟ أم أي عار أخزى من
مقابلة شلالات الدم الزكي بالبيانات المجردة، وزوال الدنيا وما فيها أهون عند الله
من إراقة دم مسلم؟ !
لقد قضى محمد الدرّة نحبه بثنتي عشرة سنة لم يعشها - كما هم أطفال العالم
من حوله - معطرة الأمل، وردية الحلم، وإنما هي ثنتا عشرة سنة «خريفية»
الهول «شتوية» الأنين، «صيفية» الهجير، «ربيعية» الوهم! ! فما أدري-
بعدُ - أقضى جزعاً عليها أم منها؟ ! غير أنه قضى وما زالت أمه تسترق النظر
عبر الباب تنتظره! قضى بالرصاص وما زال قلم الرصاص في مبراته، وفي
كراسه بقية من واجبات لم يتمها! قضى ولما يزل أقرانه في المدرسة ينظرون إلى
كرسيه الشاغر فيعجبون لجرأته على الغياب! ولئن غيَّبت هذه الصورة الرمز في
نفوسنا معنى التراتب المنهجي والعقلي في تناول قضايا أمتنا، فلم يعد لغير العاطفة
صوت وهو أضعف الإيمان فلا أقل من تأكيد دلائل الشرع، والعقل، والواقع على
إخفاق مشاريع «السلام» الطافحة بهوان التنازل حتى عن سلاح الموقف، وكذا
تأكيد أنه لا حل إلا بالجهاد الذي هو ذروة سنام الدين، ليقول الحجر والشجر: يا
عبد الله! هذا يهودي ورائي تعال فاقتله. لقد طال انتظارنا سيفَ خالد الذي
نستمطره في الغدو والرواح:
يا ابن الوليد ألا سيفاً تؤجره ... فكل أسيافنا قد أصبحت خشبا! !
فجاء سيف آخر صقيل، هو سيف صلاح الدين الذي عُرِضَ للبيع - حسب
إعلان - في إحدى الصحف بتاريخ ١٦/٥/١٤٢١هـ من هذا العام، فلم نحتج إلا
إلى شهرين من هذا التاريخ، كي نعرف أن له أصحاباً هم به أحفل، وهو إليهم
أنمى وأقرب، بعد أن تحاشى ثمنه «الغالي» آخرون، حيث استلمه طيب الذكر
والنشر محمود أبو هنود مؤكداً به جُبن يهود، وأنهم لا يقاتلون جميعاً إلا في قرى
محصنة أو من وراء جُدُر، بهذا السيف الذي هو سيوف يورق الأمل، ويستعيد
محمد ابتسامة شروق، ويبلغ أبناء الحجارة سنيّهم الأشد ليقيموا جدار محمد الذي
يريد أن ينقض، ويستخرجوا من تحته كنز الجهاد، والتمكين، والفتح، وهو فأل
محمد ومدلول اسمه. نعم مدلول «محمد جمال الدرّة» ؛ إذ الجهاد إرث النبوة
«المحمدية» وفي التمكين سيادة قيم الدين «الأجمل» ، وبالفتح تعود القدس
«درّة» مطهرة كما أراد الله لها أن تكون. هذه مفاهيم السلام في دين الله، فعلى
محمد سلام، وعلى اليهود السلاح.