خواطر في الدعوة
[قرار صائب ثم يأتي النصر]
محمد العبدة
لا نكون مغالين أو مجرحين إذا قلنا إن المسلمين في الأعصر الأخيرة يفتقدون
القرار الصائب والحاسم في اللحظات الحرجة أو اللحظات التاريخية. القرار الذي
يُتخذ دون تردد أو خوف من النقد ولوم الشباب أو الشيوخ، ودون إرضاء لطرف
على آخر. وهو القرار المناسب وليس القرار التلفيقي الذي يظن أنه يرضي الجميع
وهو في الحقيقة لا يرضي أحدًا، وقبل هذا كله لا بد أن يحسب حساب الشورى
وتقليب وجهات النظر، وملاحظة واقع المسلمين والمصلحة الشرعية وما يراه
العلماء في القديم والحديث، عند ذلك يأتي الفرج بعد الشدة، ويفرح المؤمنون
بنصر الله، وفي القرآن والسنة وواقع المسلمين أمثلة لذلك:
١- جاء في سورة البقرة أن بني إسرائيل - وفي يقظة من يقظات الإيمان -
[إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمْ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ] [البقرة:٢٤٦] وأراد هذا ... النبي التأكد من صدق عزيمتهم ربما لأنه يعلم ما هم عليه من الخور والتردد: [قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إن كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُوا] [البقرة:٢٤٦] ؛ فأظهروا تصميمهم على القتال، فاستجاب الله لنبيه وبعث لهم طالوت ملكاً يقودهم لقتال أعدائهم، وقد ذكر لنا القرآن عن هذا القائد الحكيم أنه لم يستخفه حماس هذا الشعب، فراح يختبرهم المرة تلو المرة، ولم يصمد معه أخيراً إلا فئة قليلة. واتخذ القرار الصعب وقاتل بهذه الفئة وجاء النصر: [وقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وآتَاهُ اللَّهُ المُلْكَ والْحِكْمَةَ]
[البقرة: ٢٥١] .
٢- بعد تكالب الأحزاب على المسلمين في غزوة الخندق رأى رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- أن يخفف عن المسلمين هذا الضيق رحمة ورأفة بهم،
فاستدعى زعماء البدو من غطفان وغيرها وطلب منهم الرجوع عن المدينة وترك
حصارها ويعطيهم ثلث ثمارها، وقبل تنفيذ هذا الرأي استشار السعدين: سعد بن
معاذ وسعد بن عبادة، قالا: يا رسول الله! ، أمراً تحبه فنصنعه أم شيئاً أمرك الله
به، أم شيئاً تصنعه لنا؟ ، قال: بل شيء أصنعه لكم؛ لأن العرب رمتكم عن
قوس واحدة، فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله! ، قد كنا وهؤلاء على الشرك
وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة واحدة إلا قِرًى أو بيعاً، أحين أكرمنا الله
بالإسلام وأعزنا بك وبه نعطيهم أموالنا؟ ! ، والله لا نعطيهم إلا السيف، فقال النبي
- صلى الله عليه وسلم - أنت وذاك. وكان وفد غطفان يسمع هذا الكلام فتزلزلت
أركانه، ورجعوا إلى معسكرهم ثم جاء النصر ريحاً وجنوداً لم يروها وانهزم
الأحزاب خائبين.
٣- كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أعد جيشًا بقيادة أسامة بن
زيد ووجهته شمالي الجزيرة والروم، ولكن الجيش لم يمضِ بعد سماع أنباء مرض
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واستخلف أبو بكر - رضي الله عنه -، ورأى الصحابة إرجاع جيش أسامة بعد
أن ارتدت العرب، ولكن أبا بكر قال كلمته الحاسمة الجازمة: " لا أحل عقدة عقدها
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنفذ جيش أسامة. فقالت العرب: لو لم
يكن بهم قوة وطاقة لقتال الروم لما أرسلوا لهم هذا الجيش وأصابهم الوهن والرعب
بسبب ذلك، وجاء النصر من عند الله على يد قامع المرتدين خالد بن الوليد -
رضي الله عنه.
٤- عندما بلغت المدن الأندلسية في منتصف القرن الخامس الهجري - الغاية
من الضعف والتفرق، واستعان بعض ملوكهم بالنصارى على بعض، اجتمع علماء
أشبيلية وقرروا أنه لابد من الاستعانة بالمسلمين في المغرب، وبخاصة المرابطون
وعلى رأسهم يوسف بن تاشفين وعلم ملك أشبيلية المعتمد بن عباد بذلك فوافق على
هذا الرأي، ولكن بعض الناس حذروه مخوفين له من أن ابن تاشفين إذا جاء
لمساعدته فسيأخذ الأندلس أيضاً، ولكن ابن عباد اتخذ القرار الصعب وقال قولته
المشهورة: (لأن أكون راعي إبل خير لي من أكون راعي خنازير) ، ويقصد -
رحمه الله - أنه يفضل أن يرعى الإبل عند ابن تاشفين ولا يؤسر عند ملك
النصارى، فقدم مصلحة المسلمين وبلاد المسلمين على مصالحه الشخصية، وجاء
ابن تاشفين، وكانت معركة " الزلاَّقة " مع نصارى أسبانيا وانتصر المسلمون
انتصاراً ساحقاً، وتملك ابن تاشفين الأندلس فعلاً، وأُقصى ابن عباد - رحمه الله -
وعاش بعيداً عن أشبيلية، ولكن مأثرته هذه لا تُنسى.