في دائرة الضوء
[صراع الحضارات مرة أخرى]
د. محمد يحيى
على الرغم من تعرض العديد من الكتاب لمقولة الأستاذ الجامعي: (صمويل
هنتنجتون) التي عرفت باسم صراع أو صِدام الحضارات (نسبة إلى مقالته عام
١٩٩٢م ثم كتابه الموسع حول الموضوع وتحت الاسم نفسه عام ١٩٩٦م) إلا أن
هذه المقولة - وإن بدت سطحية الطابع - تحتوي على أعماق وأبعاد وجوانب كثيرة
تتجلى كلما تعرض لها المرء بالبحث أو التأمل، وقد حاولت في مقال بل مقالات
سابقة أن أجلي بعض هذه الجوانب وتركت أخرى لعلِّي أعالجها فيما بعد.
ومن الجوانب التي ما زالت بحاجة إلى المزيد من الإيضاح في هذه المقولة
هو دورها ووضعها داخل سياق الفكر الغربي والأوضاع المعاصرة هناك، وهو ما
ألقيت عليه بعض الضوء في المقال السابق، وأرجو أن أسلط المزيد الآن.
تبدو مقولة صِدام الحضارات للنظر - من زاوية - وكأنها محاولة واسعة
النطاق لجمع شتات الصف الغربي ورسم هويته بحدة ووضوح شديد؛ ذلك لأن
الصف الغربي الذي كان موحداً في القرون الوسطى بل وقبلها تحت راية
الإمبراطورية الرومانية ثم المسيحية (ولا أقصد بالوحدة هنا السياسية أو السياسية
وحدها) هذا الصف قد تناثر شظايا وشُعباً حتى العصر الحديث عصر الاستقطابات
السياسية والانقسامات الأيديولوجية والتناثر الاجتماعي. وصحيح أن محاولات
الوحدة على كل المستويات كثرت وتعددت حتى جاء عهد التكنولوجيا الحديثة وثورة
الاتصالات مع سقوط المعسكر الشيوعي والتي بدت كلها عوامل تشجع على الوحدة؛ إلا أن الوحدة بالمفهوم الحضاري الوجودي الأوسع كوحدة عقيدة وهوية ومصلحة
مشتركة كبرى ظلت مع ذلك مفتقدة. ومن هنا تأتي أهمية المقولة.
إن دعوة (هنتنجتون) تحاول أن ترسم صورة قد لا تكون مكتملة في الوقت
الراهن لحضارة اسمها: (الحضارة الغربية) ، وهي وإن سكتت عن مكونات وأسس
هذه الحضارة، وانشغلت برسم ملامح صورة العدو (الآخر الحضاري) التفصيلية
إلا أنها مع ذلك تفصح عند استنطاقها عن هذه المكونات والأسس وتقدم لنا العجب؛
فالحضارة الغربية المتطورة تجمع أقطاباً وأطرافاً كانت حتى الماضي القريب جداً
من الأضداد المتصارعة. فهذه روسيا (الاتحاد السوفييتي السابق) ومعها بلدان
أوروبا الشرقية (المعسكر الاشتراكي أو الكتلة الشرقية سابقاً) تصبح من مكونات
ولبنات الحضارة الغربية حتى وإن كانت حتى القريب العدو الأول للغرب الذي
يعني الكتلة الرأسمالية الليبرالية المنضوية تحت لواء حلف الأطلسي. وهنا نجد أن
مفهوم الغرب قد اتسع ليشمل (الشرق) لكنه شرق مسيحي أبيض (وإن كان
أرثوذكسي المذهب) .
ومفهوم الحضارة الغربية المطروح في مقولة (هنتنجتون) يجمع بين أوروبا
وأمريكا ويبقي ما كان من توتر وما هو كائن من تضارب في المصالح الاقتصادية.
بل إنه داخل الكتلة الغربية الأوروبية ذاتها يجمع ما بين الكتل المصلحية الثقافية
المتضاربة من بريطانية وفرنسية وألمانية وشمال أوروبية وجنوب أوروبية. ولا
يكتفي مفهوم الغرب الجديد في التوسع شرقاً حتى حدود الصين واليابان ووسط آسيا
(حيث امتداد روسيا) بل إنه يضرب إلى الجنوب الأمريكي حتى القارة الجنوبية
المتجمدة حيث يتضمن الأمريكتين: الوسطى، والجنوبية. وهناك أيضاً تسود
المسيحية الكاثوليكية التي مقرها في روما، ويسود العنصر الأبيض حتى وإن
وجدت الأعراق والعناصر الأخرى بكثافة عددية أكبر: من زنوج ومخلطين في
البرازيل، أو هنود في البلدان الأخرى. لكن ارتباط هذه القارة بالتاريخ الأوروبي، والمنحى العام للحضارة الغربية قد ترسخ منذ (اكتشافها) (حسب الزعم الغربي)
في القرن الخامس عشر الميلادي، ويعاد اكتشاف هذا الإقليم الآن بثرواته وإمكاناته
الهائلة ليُدرج في صف الحضارة الغربية بعد أن كانت بعض تصنيفات الفكر
اليساري الغربي تضعه في خانة (العالم الثالث) ثم (الجنوب) في مواجهة (العالم
الأول) أو (الشمال) وهو (الغرب) . وبالطبع فإن أستراليا ونيوزيلندا في أقصى
الشرق، وإلى الشرق حتى من الخصم الجديد للحضارة الغربية (الإسلام والصين
الناهضة أو الكتلة البوذية ... إلخ) تقع هي الأخرى ضمن صف الحضارة الغربية
الذي تنشئه مقولة صِدام الحضارات.
إذن: نجد أن طرح التصور للحضارة الغربية عند (هنتنجتون) يتضمن ما
يمكن تسميته بإعادة تأسيس وإنشاء صف الحضارة الغربية بشكل يختلف جذرياً عما
اعتاد عليه الفكر السياسي والثقافي والفكري حتى عهود بالغة القرب. فالغرب كما
قلنا كان يقتصر على مجموعة بلدان غرب أوروبا (جغرافياً) بالإضافة طبعاً إلى
كتلة القارة الأمريكية الشمالية، لكن المفهوم الجديد يوسع المدى الجغرافي للغرب
كثيراً إلى حد ينعدم معه معنى (الغرب) ذاته مع الامتداد العميق إلى أقصى الشرق
من ناحية وأقصى الجنوب من الناحية الأخرى، ثم محاولة التوغل في الوسط من
خلال الطرح المكمل لمفهوم الغرب وهو طرح الحضارة المتوسطية التي يفترض
أن تضم بلدان حوض شرق البحر المتوسط ومعظمها إسلامية. وهذا الطرح جاء
من بلدان أوروبا الغربية والجنوبية وهو إن حاول التظاهر بخلق أو إحياء كيان
حضاري متميز (البحر متوسطي) إلا أنه في الحقيقة لا يكاد يخفي أنه أداة لاستيعاب
وضم الدول الإسلامية الكبرى المحيطة بالبحر الأبيض المتوسط وإلحاقها بالحضارة
الغربية (المسيحية - الوثنية) وإدراجها كعناصر داخل هذه الحضارة بعد تجريدها
من خصوصياتها الحضارية وتمييع هويتها العقدية. وهكذا يتسع مفهوم الحضارة
الغربية الجديد ليشمل نطاقاً جغرافياً هائلاً بل - وهو الأهم - ليشمل ويبتلع نطاقات
ثقافية كانت بشكل ما خارجة عن نطاق الثقافة الغربية كروسيا وأمريكا الجنوبية.
وينقلب هذا التوسع الجغرافي عدوانياً عندما يتحرك ليهاجم قلب العالم
الإسلامي من خلال طرح مفهوم الحضارة المتوسطية وهو في جوهره مجرد مفهوم
وسيط يمهد لإلحاق الحضارة الإسلامية أو بلدانها المركزية بالحضارة الغربية ومجال
النفوذ الغربي بعد فصلها أولاً عن الوسط الإسلامي وضمها إلى ذلك الكائن
المصطنع (البحر متوسطي) الذي لن يلبث أن يكشف عن وجهه الحقيقي فإذا هو
غربي بحت بعد أن يكون فات أوان العودة إلى الهوية الإسلامية بالنسبة للبلاد
الإسلامية التي تكون انضوت تحت لوائه.
ويتجلى هذا التوسع الجغرافي الشرس والشاسع لمفهوم الغرب في التصور
الجديد من بعض التصورات التي ينقصها الوضوح في مقولة (هنتنجتون) أو التي
يسكت عنها؛ فما هو وضع الهند أو إفريقيا في خارطة الصراع الحضاري الذي
يتنبأ به الكاتب الأمريكي للقرن الحادي والعشرين الميلادي؟
لقد تعرضت في مقالتي السابقة لوضع الهند وخلصت إلى أن (هنتنجتون) لا
يصنفها في خانة أعداء الغرب رغم أنها كالصين (وأكثر من العالم الإسلامي) تمتلك
القوة النووية حسب أرجح التصورات، وفوقها إمكانات عسكرية واقتصادية كبيرة
حالية ومتوقعة، كما خلصتُ إلى أن عدم وضع الهند في خانة العدو الحضاري
المحتمل يعني أنها واقعة في خانة الأصدقاء أو الحلفاء المحتملين للحضارة الغربية
حتى وإن لم توضع صراحة في الصف الغربي. ولا يُنسى أن الجذور الأولى
للحضارة واللغات الأوروبية تستمد نفسها من الماضي الآري السنسكريتي في الهند؛
فضلاً عن أن المنطق الاستراتيجي السليم يحتم وضع الهند في الصف الغربي في
مواجهة الحضارتين الإسلامية غرباً وجنوباً، والصينية شرقاً. تتبقى إذن قارة
إفريقيا؛ ووضعها - من هذه الناحية - غامض؛ فهي غير مذكورة في الصف
الغربي إضافة إلى أن ضعفها الحالي والمتواتر يجعل من غير المحتمل وضعها
كالهند في خانة الحلفاء المستقبليين. لكن الواقع يقول إن عملية (هندسة سياسية)
ضخمة تجري الآن لإلحاق سائر إفريقيا في إقليم ما يعرف بـ (جنوب الصحراء)
إلى الصف الغربي. وإلا فلماذا عودة جنوب إفريقيا كالابن الضال إلى صف
السياسات الدولية من منظور غربي؟ ولماذا عملية التغييرات حتى في قلب ووسط
إفريقيا ثم في الاتجاهات الأربعة من ذلك القلب لرسم خريطة سياسية جديدة من
إمبراطوريات لا تتميز بشيء قدر تميزها بالعداء للإسلام، والولاء السياسي
والاقتصادي لأمريكا، والانتماء الديني إلى المذاهب المسيحية الغربية وبعدها الثقافة
المتأوربة؟ إن المسرح السياسي العام يعد الآن في وسط وأطراف إفريقيا لتأكيد
الضم والإلحاق بالغرب على أصعدة تمتد من الاقتصادي إلى الثقافي والديني في
مواجهة الشمال والشرق الإفريقي المسلم.
ومن ثم نرى أن الحضارة الغربية التي سوف تواجه العدو الإسلامي في
المستقبل القريب حسب مقولة (هنتنجتون) هي صف أوسع وأكبر وأخطر بكثير من
ذلك التصور الذي ساد حتى عهد قريب حول (الغرب) وليست القضية مجرد توسع
جغرافي مهما كان مداه وخطورته، بل إن هذا التوسع عدواني في المقام الأول أي
إنه مستمر وزاحف ينتهج سياسات الضم والإلحاق والإدراج، وترتيب الحلفاء
والأصدقاء، وتحييد القوى التي قد تنضم إلى العدو؛ فهو صف يتبع أساليب
عسكرية واضحة في التفكير والنهج. والأخطر من ذلك كله أن هذا الصف الغربي
في شكله الجديد الذي تؤسسه وتنشئه مقولة صراع الحضارات يقوم على أساس ظن
البعض أنه قد مات في الغرب إلى الأبد؛ وأعني به الأساس العقدي وبالتحديد:
الديني المسيحي؛ فبعد قرون من سيادة نهج التفكير العلماني، وبعد أن بشّر الفكر
الغربي في طرحه البراجماتي والليبرالي بنهاية الأيديولوجيا أو نهاية سيطرة المفاهيم
العقائدية على توجيه الأمور في عصر العلم وثورة التكنولوجيا، كان من المظنون
أن أي طرح يقيم الحضارة والثقافة والهوية على أسس دينية عقائدية قد مضى وقته
إلى غير عودة في الغرب؛ لكن ها هو البروفيسور الأمريكي يبشر بحضارة غربية
تقيم هويتها على أساس مواجهة خصم ديني (الإسلام) وهذا لا يكون إلا إذا كانت
تلك الحضارة نفسها تقوم على أساس ديني أو هي شديدة الوعي والحساسية بدور
الدين ووضعه كمقوِّم للحضارة والهوية والكيان. وعند هذه النقطة بالذات ينهار
منطق الردود التي جاءت من العالم الإسلامي على مقولة صِدام الحضارات.
لقد تناولت من قبل بعض سمات الردود القادمة من بلدان إسلامية على هذه
المقولة، لكن السمة الكبرى فيها هي أنها صدرت عن أصوات ودوائر ذات توجه
علماني متغرب؛ فضلاً عن أنه واقع تحت سيطرة التوجيه المباشر للدوائر السياسية
الحاكمة وهذا طبيعي؛ لأن الواقع في بلداننا الإسلامية يبين أن هذا التيار العلماني
المتغرب قد أعطيت له في الآونة الأخيرة السيطرة على منابر الفكر والثقافة
والإعلام والتعليم والعمل الاجتماعي في إطار الحملة الجارفة على الحركات
الإسلامية بل والإسلام ذاته؛ ولذلك جاء تعامل هذا الصوت العلماني مع مقولة
صدام الحضارات غريباً ولافتاً للنظر رغم صدوره عن أشخاص وأجهزة في بلدان
إسلامية حسب التاريخ وحسب الأغلبية، وينبغي التركيز على هذه الحقيقة لغرابتها؛ فالرد الظاهر في العالم الإسلامي على مقولة (هنتنجتون) لم يجئ من أصوات
إسلامية فكرية صادقة (وهو قد جاء ولكن تعرض للتعتيم) لكنه جاء من ذلك التيار
العلماني المتغرب المسيطر بقوة الغير. لذلك تراوح الرد بين اتهامات سخيفة لـ
(صمويل هنتنجتون) بأنه (أصولي) (ولولا بقية من حياء لقالوا أصولي إسلامي!)
وبين مقولات مضادة تروّج لفكرة أن العلاقة الأساسية التي يدعو لها الإسلام (تذكّر
أن هذا الطرح صادر عن علمانيين!) هي علاقة التفاعل والتعاون والتبادل بين
الحضارات.
والمشكلة أو الأزمة التي وقع فيها الصوت العلماني المتغرب في البلدان
الإسلامية في تعامله مع مقولة صراع الحضارات أنه لم يعد يتوقع أو يفهم أن
يؤسس أحد فكرة أو طرحاً على قواعد الدين والعقيدة! إن هذا الصوت كان تلميذاً
نجيباً ومطيعاً استوعب دروس علمانية الغرب التاريخية حتى النخاع، ونبذ الإسلام
وراء ظهره نهائياً. وهذا الصوت لم يعد يستطيع أن يفهم أو يتعامل مع أي طرح
يصدر عن الدين والعقيدة إلا بالرفض أو عدم التصور. ولذلك فعندما فوجئ هذا
الصوت أو التيار بالعلمانية تسقط في الغرب، والمسيحية تنهض عند كثير من
الفلاسفة وأصحاب المذاهب هناك (وهنتنجتون بالمناسبة هو مجرد صوت صغير
غير ذي أهمية في سياق هذه العودة للمسيحية في تصور الأمور) أُسقِط في يديه ولم
يعد يعرف كيف يتصرف أو يرد. لم يستطع هذا التيار أن ينادي بنهضة أو إحياء
إسلامي، ولم يستطع أن ينادي بتأسيس وحدة حضارية إسلامية شاملة لتواجه
الطرح الحضاري الغربي المؤسس على المسيحية الناهضة أو الأصولية!
وباختصار: لم يستطع الصوت العلماني - في تعامله مع مقولة صراع
الحضارات - أن يدعو إلى رد إسلامي أو مواجهة إسلامية؛ لأنه نبذ الإسلام
وتخلى عنه؛ فكان الرد الوحيد هو هيستيريا اتهام (هنتنجتون) بالأصولية تماماً
كهيستيريا اتهام المسلمين بالأصولية والتطرف!
ولم تتوقف المشكلة والمأزق عند هذا الحد؛ فالصوت العلماني المسيطر في
التعامل القادم من البلدان الإسلامية مع مقولة صراع الحضارات قد أُشرِبَ الحضارة
الغربية وثقافتها وفكرها؛ بحيث لم يعد يتصور أو يفهم أنه توجد حضارات أخرى
وثقافات وعقائد غيرها. ومرة أخرى كان هذا هو الدرس الذي تلقاه ذلك الصوت
من معلميه الغربيين واتبعه بنجابة التلميذ المطيع. ولهذا فعندما جاءت مقولة
(هنتنجتون) تتحدث مذعورة عن خطر الثقافات والعقائد الأخرى على الغرب وقع
الصوت العلماني في البلاد الإسلامية في حيرة مضاعفة: كيف يكون هناك خطر
وقد تعلمنا أن كل الثقافات الأخرى غابرة، وأن حضارة الغرب وحدها هي القادمة
وهي المنتصرة وهي الوحيدة؟ لقد رأى (هنتنجتون) أن هناك صحوة إسلامية
تتحول إلى نهضة حضارية تنافس وتجبّ حضارة أمته الغربية.
أما العلمانيون الذين يحملون أسماء إسلامية فلم يروا في هذه الصحوة إلا
(ردة) (حسب تعبيرهم) إلى عهود الظلام والرجعية.. إلخ، وردة عن النور الذي
جاء من الغرب؛ ولهذا السبب لم يستطع الصوت العلماني أن يرد على مقولة
صراع الحضارات بالدعوة إلى دعم الحضارة الإسلامية بكل الأساليب وعلى كل
الأصعدة لتتصدى لهجمة الحضارة الغربية الشرسة المتوسعة، والتي تناصب
الآخرين العداء، وتتخذ منهم أعداء حسب طرح (هنتنجتون) .
على ضوء تغرب الصوت العلماني حتى النخاع لم يكن الرد المتوقع إلا أن
يكون الدعوة إلى الحوار والتعاون والتفاعل والمشاركة مع الغرب مع إلصاق هذا
المدخل بالإسلام. أوَليس الإسلام دين المحبة والسلام؟ لكن هؤلاء العلمانيين لم
يكونوا يهتمون بالإسلام بأدنى قدر في هذا الطرح يوازي اهتمامهم بنفي أي احتمال
للصراع مع الغرب سواء أكان ذلك سياسياً أو اقتصادياً أو حضارياً؛ إذ كيف يقبلون
بوجود أي صراع مع الغرب مهما كان مسوّغاً بدوافع الدفاع عن الذات والهوية
الإسلامية؛ بينما كل انتمائهم هم، وهويتهم هم، وذاتيتهم هم: غربية الطابع؟
لقد عمي الصوت العلماني عن الصورة الجديدة والتشكيل الجديد لمفهوم الغرب
كما تجلى في مقولة صراع الحضارات. لم ير الصوت العلماني أية غرابة في أن
تتوسع الحضارة الغربية وتتقوى أو أن تعادي الإسلام؛ فهم من أبناء هذه الحضارة
الغربية بالروح وإن لم يكن بالجسد. لكنهم وجدوا الغرابة كل الغرابة في أن تخاف
الحضارة الغربية من الإسلام، وتخشى النزال معه، وتحشد لذلك عدتها؛ فطفقوا
وباسم الإسلام (!) ينادون بني جلدتهم المسلمين بأنه يجب أن لا يكون صراع مع
الغرب بل إخاء وسلم ومحبة وتذلل وأخذ؛ حتى ولو أشهر الغرب سيوف التنصير
والاستغلال الاقتصادي، وأعلن الحرب على الإسلام والمسلمين!
إن الرد القادم من بلدان إسلامية عديدة، والذي جرى إبرازه بحيث يتصور
المرء أنه هو الرد (الإسلامي) على مقولة صراع الحضارات جاء في الحقيقة وفي
معظمه من الأصوات العلمانية المسيطرة والموجودة حتى داخل المؤسسات الدينية
الشهيرة بل وعلى رأسها في أحيان؛ ولذلك تخبط هذا الرد بين اتهامات مضحكة
لهنتنجتون بالأصولية الفكرية أو الردة عن العلمانية! (وكأنها دين منزل عند هؤلاء
الذين لا يقبلون الأديان) وبين اتهامات أخرى بأنه يذكي نيران العداوة والإحن؛
وكأنه ليس مجرد ممثل ومعبر عن حضارته المتوسعة الشرسة في طرحها المعاصر
الذي هيمنت عليه المسيحية كعقيدة ودين تؤسس عليه الدول والسياسات والمواقف
ويكون قاعدتها المتينة.
الرد (الإسلامي) على (هنتنجتون) كان في الحقيقة رداً علمانياً متغرباً يهاجم
الباحث الأمريكي؛ لأنه بطرحه الواضح المباشر لمفهوم الصراع الحضاري
والثقافي والديني أعطى الإسلاميين وفكرهم دفعة ومسوِّغاً وحجة كان العلمانيون في
البلدان الإسلامية يجتهدون لدفعها وإخفائها. إن العلمانيين في البلدان الإسلامية
يبشرون بانتهاء عهد العقائد والديانات وحلول عهد العالمية والكوكبية (وهي ليست
سوى هيمنة الحضارة الغربية بعد أن وُصِفت (بالعالمية) المطلقة) لكن ظهور مقولة
صراع الحضارات وانتشارها بالشكل الإعلامي الواسع وذيوعها بين الجماهير
العريضة أربك هذا الطرح العلماني بين ظهرانينا، وأظهر على العلن ما كان
العلمانيون يبذلون ما في وسعهم لإخفائه بفضل سيطرتهم على منابر الإعلام والثقافة
ألا وهو أن عهد الفكر العلماني قد ولى في الغرب نفسه، وحل محله عهد من بروز
الأديان والعقائد كأسس للحضارة والثقافة عند الغرب، كما أن الحضارة الغربية التي
طُرحت على الناس كحضارة عالمية وحيدة تجبّ كل الحضارات والعقائد بحكم أنها
ذروة خط التقدم الإنساني قد ظهرت الآن ومن خلال مقولة صِدَام الحضارات على
أنها ليست هي المطلقة بحكم أنها قمة التقدم البشري؛ بل إنها مجرد حضارة وعقيدة
من بين حضارات وعقائد أخرى، وأنها ليست المطلقة بل تسعى إلى فرض نفسها
بالقوة وتخاف من حضارة الإسلام وتسعى للكيد لها. كل هذه الحقائق فضحتها
أطروحات (هنتنجتون) ولذلك جاء الرد العلماني عليه ليس من الغرب - حيث
انهارت العلمانية - وإنما - وللغرابة - من العالم الإسلامي حيث تحتكر العلمانية
دون حق منابر الفعل والفكر والتأثير؛ وجاء هذا الرد غريباً من حيث أنه يتمسح
بالإسلام (حقاً أو باطلاً) ويدعو المسلمين إلى عدم النهوض للتحدي الذي تطرحه
مقولة (هنتنجتون) بل على العكس إلى الخضوع لهذا التحدي والاستسلام له تحت
زعم أن الإسلام باعتباره ديناً للمحبة والسلام لا ينبغي له أن ينهض للصراع
والتنافس والجهاد حتى في وجه من يرفعون شعار النزال!