للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

دعوة إبراهيم -عليه السلام-

محمد الخضيري

إن الدعوة إلى الله تعالى طريق الأنبياء -عليهم السلام- وأتباعهم كما قال

تعالى: [قُلْ هَذِهِ سَبيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا ومَنِ اتَّبَعَنِي وسُبْحَانَ اللَّهِ

ومَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ] .

وكان مما اعتنى به القرآن الكريم ذكر قصص دعوات الأنبياء، وتصويرها

بأبلغ أسلوب، وعرضها بأدق عبارة، حتى أصبحت أخبارهم في القرآن نماذج حيّة

يحتذيها الدعاة ويقتبسون من نورها، ويهتدون بهداها [أُوْلَئِكَ الَذِينَ هَدَى اللَّهُ

فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ] . وقد اخترنا دراسة موضوع الدعوة إلى الله من خلال قصة إمام

الحنفاء وأبي الأنبياء إبراهيم - عليه السلام - ولم يكن اختياري لهذه الدعوة جزافاً

بل لأسباب أوجزها فيما يلي:

أولاً: أنها دعوة خليل الرحمن، ومؤسس الحنيفية، وأحد أولي العزم الخمسة

من الرسل.

ثانياً: أن رسولنا محمداً - صلى الله عليه وسلم - قد أمر باتباع ملته

[ثُمَّ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفاً ومَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ] . ... ...

ثالثاً: تلك الصفات العظيمة التي تحلى بها إبراهيم حتى قال الله تعالى فيه

[وإبْرَاهِيمَ الَذِي وفَّى] فكانت نبراساً يقتفى أثره فيها الدعاة إلى الله. ...

رابعاً: استغراق القرآن واستقصاؤه لأساليب إبراهيم المتنوعة في عرض

دعوته على قومه، حتى إنه ليعز على الباحث أن يجد لنبي من الأنبياء خلا نبينا -

صلى الله عليه وسلم - مثلما يجد لهذه الأيام من الطرائق والسبل في إقناع المدعوين

وترويضهم على قبول الدعوة. ولا غرو فقد سنَّ للناس من بعده من الدعوة أساليب

لم تعهد لأحد من قبله ولم تقف عند حد الكلمة بل تخطتها إلى الحركة والفعل.

خامساً: رسمت هذه الدعوة للدعاة منهاجاً في الصبر يحق لهم أن يقتدوا به،

فقد صبر إبراهيم -عليه السلام- في أحوال مختلفة وظروف متباينة وأعمال متنوعة

كالصبر على جفاء الأبوة، وعدوان العشيرة، وهجران الأرض، والفتنة بالنار،

والأمر بذبح الولد، وغير ذلك.

وسنعرض الموضوع من خلال نماذج من صفات إبراهيم -عليه السلام-

الدعوية وأساليبه في نشر دعوته.

نماذج من صفات إبراهيم الدعوية:

لن يتسع المقام لحصر تلك الصفات التي اتسم بها إبراهيم -عليه السلام- فلقد

وصفه ربه بأنه وفّي جميع مقامات العبد مع ربه ولذلك سنقتصر. على جملة من

الصفات ونخص بالذكر منها ما له صلة ظاهرة بدعوته، وله أثر ظاهر في الاهتداء

والاقتداء به.

١- أمة:

قال تعالى: [إنَّ إبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً..] وهذه الكلمة تأتي لعدة معان، منها

الجماعة [كَانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً] ، ومنها الزمان والحين [وادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ] ومنها: الرجل الجامع لخصال الخير حتى يقوم مقام أمة من الناس، وهذا هو المقصود

في حق إبراهيم، وهذه تدلنا على عظيم ما كان يتصف به إبراهيم من عبادة ودعوة

وخلق حري بأن يحتذي به الدعاة في حياتهم وتزكية أنفسهم، واجتهاد أحدهم في

تقويم أخلاقه والنشاط في دعوته ليقوم مقام أمة في ذلك. وقيل أن المقصود بالأمة

هنا: أي الإمام، أي قدوة يقتدى به في الخير، وممن قال به ابن جرير الطبري

وابن كثير.

٢- قانت:

قال تعالى: [إنَّ إبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِّلَّهِ حَنِيفاً] ، والقنوت: لزوم الطاعة

مع الخضوع، وكذا يجب أن يكون الداعية ملازماً لطاعة الله على كل حال، فلا

يكون كالمنبت يجتهد حتى تكلّ راحلته، ثم ينقطع، بل يلازم ويستقيم.

٣- حنيفاً:

والحَنَف: الميل عن الضلال إلى الاستقامة، والحنيفُ: المائل والجنف:

ضده. والأحنف: مَنْ في رجله ميل سمي بذلك تفاؤلاً، وقيل لمجرد الميل.

قال ابن كثير: الحنيف: المنحرف قصداً عن الشرك إلى التوحيد. وقد كان

ذلك من إبراهيم حتى عُدَّ إمام الحنفاء الموحدين، قال تعالى: [ولَمْ يَكُ مِنَ

المُشْرِكِينَ] ، وقال: [ومَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ] ، وهكذا فليكن أولياء الله.

٤- شاكر:

قال تعالى: [شَاكِراً لأَنْعُمِهِ] أي قائماً بشكر نعم الله عليه (وأصل الشكر)

ظهور أثر الغذاء في أبدان الحيوان ظهوراً بيناً. يقال: شكرت الدابة: أي سمنت

وظهر عليها العلف، وكذلك حقيقته في العبودية: وهذا ظهور أثر نعمة الله على

لسان عبده: ثناء واعترافاً، وعلى قلبه: شهوداً ومحبة، وعلى جوارحه: انقياداً

وطاعة. والشكر مبني على خمس قواعد: خضوع الشاكر للمشكور، وحبه له،

واعترافه بنعمته، وثناؤه عليه، وأن لا يستعملها فيما يكره [١] ، وقد كان ذلك من

إبراهيم -عليه السلام-.

٥- الحلم:

قال تعالى: [إنَّ إبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ] .

والحلم: ضبط النفس والطبع عن الهيجان عند الاستثارة. والحليم: الكثير

الحلم وموقف إبراهيم من مقالة أبيه [لأَرْجُمَنَّكَ] ومن العتاة قوم لوط حينما مرت

به الملائكة وأخبرته بما أمرت بها قال: [فلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وجَاءَتْهُ

البُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ * إنَّ إبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ] ، ولم يكن حلم إبراهيم

ذريعة يتذرع للسكوت عن المنكر بل كان يعلن الحق وينكر الباطل [وتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ

أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ] .

٦- أوّاه:

قال الراغب الأصفهاني: (الذي يكثر التأوه وهو أن يقول: أوّه وكل كلام

يدل على حزن يقال له التأوّه، ويعبر بالأوّاه، عمن يظهر خشية الله تعالى) [٢] ،

والذي يتحقق من معنى الأوّاه أنه الخاشع الدعّاء المتضرع، وكثرة تأوّه إبراهيم

وتضرعه بين يدي ربه قد ذكرت في آيات كثيرة تدل على تحقيق إبراهيم [رَّبَّنَا

عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وإلَيْكَ أَنَبْنَا وإلَيْكَ المَصِيرُ] وجدير بمن سلك طريق الدعوة أن يجعل

تعجيل الإنابة من أبرز سماته ليكسب عون ربه وتسديده ومحبته.

٧- السخاء:

قال تعالى: [هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إبْرَاهِيمَ المُكْرَمِينَ * إذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ

فَقَالُوا سَلامًاً قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ * فَرَاغَ إلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ

إلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ] فذكر أن الضيف مكرمون لإكرام إبراهيم لهم، ولم يذكر

استئذانهم ليدل على أنه قد عرف بإكرام الضيفان، مع أنهم قوم منكرون لا يعرفهم

فقد ذبح لهم عجلاً واستسمنه، ولم يعلمهم بذلك بل راح: أي ذهب خفية حتى لا

يُشعر به، تجاوباً لضيافة، فدل على أن ذلك كان معداً عندهم مهيئاً للضيفان،

وخدمهم بنفسه، فجاء به ومرّ به إليهم ولم يقربهم إليه، وتلطف مبالغة في الإكرام

فقال: [أَلا تَأْكُلُونَ] . قال ابن القيم: " فقد جمعت هذه الآية آداب الضيافة التي

هي أشرف الآداب، وما عداها من التكلفات التي هي تَخَلف وتكلف: إنما هي من

أوضاع الناس وعوائدهم، وكفى بهذه الآداب شرفاً وفخراً فصلى الله على نبينا

وعلى إبراهيم وعلى آلهما وعلى سائر النبيين " [٢] .

٨- الصبر:

كان إبراهيم مثلاً يحتذى في الصبر حتى استحق أن يكون من أولي العزم

الذين أمر رسولنا - صلى الله عليه وسلم - أن يصبر كصبرهم [فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ

أُوْلُوا العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ] . وكان صبر إبراهيم شاملاً لابتلاءات كثيرة، سيأتي بيان

جملة منها بإذن الله.

٩- رعايته لأهله:

لم يكن إبراهيم ممن يلتفت إلى الناس بدعوته ويترك أهله، بل بدأ بهم

وخصهم بمزيد الرعاية والعناية وقد قال الله لمحمد - صلى الله عليه وسلم -

[وأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ] وكذلك كان إبراهيم، فدعا أباه [يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا ... لا يَسْمَعُ ولا يُبْصِرُ] ، ووصى أبناءه بالتمسك بالدين [ووَصَّى بِهَا إبْرَاهِيمُ بَنِيهِ ويَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إلاَّ وأَنتُم مُّسْلِمُونَ..] ، وكان يدعو [واجْنُبْنِي وبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ] ، ويتضرع بقوله: [رَبَّنَا إنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ وارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ] .

١٠- شجاعته:

واجه إبراهيم قومه ولم يخش كيدهم وقال مقسماً: [وتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم

بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ] ، وقوله لهم: [أُفٍّ لَّكُمْ ولِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ..] .

وكان ذلك لعلم إبراهيم بأن معه القوة التي لا تهزم، وأن ما أصابه لم يكن

يخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه فرسم للدعاة منهجاً في الشجاعة المنضبطة

بضوابط الشرع بلا تهور يحتذونه في مواجهة الباطل من إقرار الحق.

١١- تحقيقه الكامل لعقيدة الولاء والبراء:

قال تعالى عن [فَمَن تَبِعَنِي فَإنَّهُ مِنِّي] ، وقال: [وإذْ قَالَ إبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ

وقَوْمِهِ إنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إلاَّ الَذِي فَطَرَنِي فَإنَّهُ سَيَهْدِينِ] فكل عدو لله وإن

قربه النسب تجب البراءة منه، وكل ولي لله وإن باعدت به الأوطان والأزمان

تجب موالاته ومحبته وقد أمرنا أن نتأسى بإبراهيم في ذلك: [قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ

حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ والَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ ومِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ

اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وبَدَا بَيْنَنَا وبَيْنَكُمُ العَدَاوَةُ والْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وحْدَهُ..] .

١٢- سلامة القلب:

قال تعالى: [وإنَّ مِن شِيعَتِهِ لإبْرَاهِيمَ * إذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ] وسلامة

القلب نوعان: كلاهما داخل في مضمون الآية، أحدهما: في حق الله وهو سلامة

قلبه من الشرك، وإخلاصه العبودية لله، وصدق التوكل عليه. والثاني: في حق

المخلوقين بالنصح لهم وإيصال الخير إليهم، وسلامة القلب من الحقد والحسد وسوء

الظن والكبر وغير ذلك.

وبعد فهذه جملة مختصرة من الصفات الدعوية لإبراهيم عليه السلام سائلاً الله

تعالى أن يوفقنا لاتباع ملته والسير على منهجه وبالله التوفيق.

-يتبع -


(١) انظر مدارج السالكين.
(٢) وقال السمين الحلبي: " الأواه: الذي يكثر قول: آه آه، والتأوه كل كلام يظهر منه تحزن، وقوله [أْوَاه] [التوبة ١١٤] ، قيل: هو المؤمن الداعي، وقيل من يخشى الله تعالى حق خشيته، والأواه: الكثير التأوه خوفاً من الله تعالى، (عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ، ص ٣٣/طبعة اسطنبول) .
(٣) التفسير القيم ٤٤٦
-البيان-.