[رحيل القادة]
د. عادل بن محمد السليم
رئيس مجلس إدارة مجلة البيان
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين.. وبعد:
فإن للموت هيبة عظيمة في نفوس المؤمنين، وهو سُنَّة من سنن الله ـ تعالى ـ في خلقه جميعاً، تدل أبلغ الدلالة على عظمة الله الحي الذي لا يموت، سبحانه وتعالى. قال الله ـ تعالى ـ: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: ٣] ، وقال ـ تعالى ـ في محكم التنزيل: {اللَّهُ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إلاَّ بِإذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إلاَّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: ٢٥٥] .
وكلنا سائر في هذا الطريق عاجلاً أم آجلاً، كبيرنا وصغيرنا، أميرنا ومأمورنا، رجالنا ونساؤنا، وكما قال الشاعر:
للموت فينا سهام جدُّ صائبةٍ من فاته اليوم سهم لم يفته غدا
وقال الآخر:
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوماً على آلة حدباء محمولُ
وموت عظماء الأرض ـ خصوصاً ـ يملأ القلب وجلاً ومهابة وخشية فإن «للموت فزع» ، لما ثبت في صحيح مسلم (١) ، فسبحان من بيده مقاليد الأمور! وسبحان من بيده ملكوت السماوات والأرض!
ولقد كان رحيل خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود ـ رحمه الله ـ حدثاً كبيراً، ومؤثراً جداً على المستوى المحلي والإقليمي والدولي، لما للفقيد وللمملكة العربية السعودية من منزلة كبيرة في قلوب المسلمين، وإنَّ لله ما أخذ، وله ما أعطى وكل شيء عنده إلى أجل مسمى.
تحدث الكثيرون عن مآثر الملك الفقيد، وخصصت الجرائد اليومية والإذاعات والقنوات الفضائية حيزاً كبيراً لاستعراضها والتذكير بها، وحسبي هنا أن أذكِّر بإنجازين اثنين على رأس تلك الإنجازات:
الأول: العناية بطباعة المصحف الشريف؛ وذلك بإنشاء مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف في المدينة المنورة.
ويعد هذا المشروع نقلة نوعية رائدة في ضبط طباعة المصحف وحفظه ونشره، حيث استقطب المشروع مجموعة من كبار القرَّاء وعلماء القراءات، ليصبح أكبر صرح لطباعة القرآن الكريم في العالم، وكان من ثمراته طباعة أكثر من (٢٠٠.٠٠٠.٠٠٠) نسخة انتشرت في مختلف آفاق العالم. كما اعتنى المشروع بالترجمات التفسيرية للقرآن الكريم التي بلغت أكثر من (٣٠) ترجمة لمعاني القرآن الكريم، وتبلغ الطاقة الإنتاجية للمجمع حوالي (عشرة ملايين) نسخة سنوياً، منها مليون نسخة لترجمة تفاسير القرآن الكريم.
الثاني: خدمة الحجيج والعناية بعمارة الحرمين الشريفين ورعايتهما، وتسهيل السبيل أمام العُمَّار والحجاج من جميع أنحاء العالم.
ويعد مشروع توسعة الحرمين الشريفين من أهم المشاريع التي أُنجزت؛ حيث بلغت المساحة الإجمالية لمسطحات التوسعة في المسجد الحرام (٧٦.٠٠٠م٢) لتصبح المساحة الإجمالية للمسجد الحرام كاملاً (٣٢٨.٠٠٠ م٢) مع العناية الفائقة بتسهيل الحركة والانتقال داخل أروقة المسجد وخارجه.
أما المسجد النبوي الشريف فقد بلغت المساحة الإجمالية لتوسعته (٨٢.٠٠٠ م٢) وسوف يتم الاستفادة من سطح التوسعة بمساحة قدرها (٦٧.٠٠٠م٢) . هذا بالإضافة إلى توسعة المنطقة المحيطة بالمسجد النبوي الشريف، وتجهيزها بكافة المرافق والتسهيلات التي يحتاجها المسلمون.
أما مسجد قباء فحظي بأكبر توسعة حيث كانت مساحته (١٣٥٢م٢) وأصبحت بعد التوسعة (٧٤٦٥م٢) بزيادة قدرها ٥٥٠% تقريباً.
إنَّ خدمة الحجيج وتعظيم بيوت الله ـ عز وجل ـ وإعادة مجدها ووظيفتها في الأمة من أعظم الواجبات وأجل الحرمات التي يجب أن تتضافر حولها الجهود، وتوفر لها الإمكانات المادية والتقنية والبشرية.
إنَّ لهذا البلد المبارك (المملكة العربية السعودية) خصوصية تميزه عن سائر البلدان؛ فهو يحتضن أشرف بقعتين على وجه البسيطة: مكة المكرمة، والمدينة المنورة؛ فهما أرض النبوة، وفيهما تعلقت أفئدة المسلمين بمختلف أعراقهم وألوانهم في شرق الأرض ومغربها، وقدر هذه الجزيرة أن تكون إسلامية؛ ليس ذلك فحسب، بل أن تكون حامية لحمى الإسلام، رافعة لراية التوحيد، وقد بذرت البذور الأولى لهذه النبتة الشامخة منذ التأسيس الأول والتلاحم الأمثل الذي أصَّله الإمامان محمد بن سعود ومحمد بن عبد الوهاب ـ رحمهما الله تعالى ـ حيث تعاهدا على تطبيق الشريعة الإسلامية، وسياسة الناس بكتاب الله ـ عز وجل ـ وسنة النبي -صلى الله عليه وسلم -، تحقيقاً لقول الله ـ عز وجل ـ: {إنِ الْحُكْمُ إلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ إيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف: ٤٠] . ومنذ ذلك الحين انطلقت الدعوة السلفية التجديدية المباركة من هذه البلاد إلى أرجاء المعمورة. وفي العصر الحديث ساهمت المملكة العربية السعودية في دعم مسيرة الدعوة عبر بناء المساجد والمراكز الإسلامية، ونصرة قضايا المسلمين في فلسطين والبوسنة والهرسك وغيرها.
واختيار الملك فهد بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ للقب خادم الحرمين الشريفين تأكيد لهذه الخصوصية، وترسيخ للتلاحم الوثيق الذي يجب أن يكون بين الدين والدولة في هذا البلد. كما أن اختيار الملك عبد الله بن عبد العزيز ـ رعاه الله ـ لهذا اللقب أيضاً استمرار لهذا التأكيد وإلجام لمن يدفعون بهذا البلد العزيز بعيداً عن هوية الأمة وثوابتها العقدية، ويريدون إلباسها لباس الشرق تارة، ولباس الغرب تارة أخرى. قال الله ـ تعالى ـ: {وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} [الشعراء: ١٥١ - ١٥٢] .
وعندما تولى خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز ـ رعاه الله ـ مُلك المملكة العربية السعودية أكد ذلك في كلمته الأولى للشعب عندما قال: «أعاهد الله ثم أعاهدكم أن أتخذ القرآن دستوراً والإسلام منهجاً» وهذا ما نحسبه ـ بإذن الله ـ الطريق الأقوم لتعزيز التعاون الوثيق بين مختلف فئات الشعب ولحماية راية الأمة، وعقيدتها، وتنميتها علمياً وحضارياً، لتكون شامة شامخة بين الأمم، خاصة في هذه المرحلة الحرجة التي تكاثرت فيها الفتن، واستهدفت الأمة بأعز ما تملك، وأجلب عليها أهل الأهواء بخيلهم ورجلهم، والله نسأل أن يحفظ لبلدنا تماسكه وأمنه ورخاءه، وأن يعز دينه وينصر أولياءه.
وصلى الله على محمد وآله وسلم.
(١) كتاب الجنائز، (٢/٦٦٠ ـ ٦٦١) ، رقم (٩٦٠) .