للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

دراسات تربوية

[بين منابر اليأس وينابيع الأمل]

سلمان بن عمر السنيدي

حين ننظر إلى حالنا ونقيم أوضاعنا نرى أن في الأمة أمراضاً وانحرافات

ومنكرات تجب معالجتها والسعي في إزالتها، غير أن الإفراط في الحديث عن

جوانب القصور والتفريط ربما يتحول إلى خطر إذا صاحبه الرضى بالضعف

والقنوط من الإصلاح، ذلك أنه لا يزيد المجتمع إلا وهناً، ولا يجرعه إلا غصصاً،

ولا يَعِده إلا يأساً، فلا يقدم له علاجاً ولا يمنحه دواء، وإنما يصرف همته إلى

قبول المرض واقعاً لا بديل عنه، وأنه داء عمَّت به البلوى، وأنّ تلمس سبيل

العافية مشقة لا تطاق، وأن المتعافي كلف نفسه حرجاً، وخالف للمجتمع عُرفاً،

وخسر من دنياه ما هو في حل من أمره وسعة.

ولذا كان المغرقون في الحديث عن مظاهر الفساد على هذا النحو يشكِّلون أحد

عناصر الفساد والهلاك؛ إذ هم معاول هدم للهمم، وزرّاعون لليأس.

قال صلى الله عليه وسلم: «إذا قال الرجل: هلك الناس. فهو أهلكهُم» [١] .

فهو (أهلكَهم) بفعله حيث نشر اليأس بينهم، وهو (أهلكُهم) وأشدهم هلاكاً،

حيث اقترف هذا الإثم، وزها بنفسه، واغتر بحاله.

ألا قاتل الله اليأس كيف يصنع بأهله وبالناس، إنه داء جديد يزرعه

العاجزون عن الإصلاح بين أفراد الأمة، خدمة مجانية لأعدائها.

* منابر اليأس:

إن من المنابر الإعلامية ما يزرع اليأس؛ حين تلبس لباس الطبيب لتشخيص

الداء، وتطرح تفاصيل صريحة تجذب المستمع والمشاهد؛ بانتقاء أمراض في

الأمة، وتسلِّط الضوء على بعض الجروح بطريقة يخرج المتابع منها بجملة من

الأدواء التي تزرع اليأس أو تمهد له، والتي منها:

الأول: تفريغ شحنة النقد والتوهم بمعالجة قضية واقعية؛ مما يعدّ عند كثير

من الناس سبباً كافياً لعدم إثارتها مرة أخرى.

ثانياً: خلل واضح في انتقاء المشكلات وتشكيل أولوياتها في عقل المتابع،

وتضليل فكره عن أصولها ومصادرها، وتشتيته عن مشكلاته الحقيقية.

ثالثاً: نشر ثقافة الوهن وحب الدنيا، والتصالح مع الضعف، واعتبار الحل

الذكي هو القدرة على التعايش مع المصالح على حساب المبادئ استجابة للضغوط

المادية؛ عند بروز حاجة أو طمع في متع الحياة وما تهوى النفوس.

وعند اختيار قضية ذات أهمية فإن العلاج لا يخلو من انتقائية وتضليل، وبُعد

عن مسلَّمات وحقائق مهمة ليست ضمن قناعات تلك المنابر، وعليه فلا يمكن أن

تتطرق أو تشير إليها؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه، فتاجر المخدرات لا يُتصور منه

أن يطرح حلاً لقضية المخدرات، فإنه وإن شارك في الحديث عن علاجها إلا أنه

سيمارس تضليلاً متقناً، ويكرس اليأس من حل القضية؛ باعتبارها مشكلة عجزت

عنها حكومات ودول رغم مقاومتها بجهود ضخمة.

وعلى هذا المنوال تكرر هذه المنابر هذا العلاج اليائس في مناقشة قضايا

مشابهة في الاقتصاد والإدارة والسلوك والفكر وحلِّها. إنّها تمارس علاج الداء بمبدأ

اليأس من علاجه، وترويض الأمة بعقلانية التعايش معه.

* أسباب اليأس:

اليأس حالة مَرَضيَّة تتولد من جملة أسباب؛ لعل من أبرزها:

١ - قسوة القلب وضعف الصلة بالله:

إن أصحاب القلوب القاسية يلهثون وقت الرخاء وراء الشهوات، ويتفاخرون

بتحصيل اللذات، فإذا أصابتهم الشدة والبلاء والخوف؛ طغت على تفكيرهم

الماديات، وأصابهم الفزع فلا ثقة عندهم بدين، ولا يعتمدون على إيمان بالغيب،

بل تنطمس معالم النور، ولا يزيدهم النظر في حالهم إلا ضيقاً وبؤساً ويأساً يجعلهم

لا يتوجهون إلى الله بالخضوع والتضرع، بل إن قلوبهم القاسية تأبى سلوك سبيل

الطاعة والرجاء فيما عند الله، قال الله عنهم: [فَلَوْلاَ إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا

وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] (الأنعام: ٤٣) .

٢ - حب الدنيا:

إن حب الدنيا وحياة الترف تثني همة المرء عن العمل المثمر الجاد؛ لأنه

يكلفه التضحية بشيء من دنياه المحبوبة التي تربى عليها، وسيكلفه التنازل عن

مستوى الرفاهية التي ينعم بها.

إن تعلق الإنسان الشديد بدنياه يجعله يقيس الأحداث بقياسها ويزن الأمور

بميزانها، ويتوقع الأحداث في المستقبل بما جرت عليه عوائدها المادية القريبة،

فتنطمس بصيرته ويهلك بالظن الخاسر لمستقبل هذا الدين وأهله، فيخفي في نفسه

اليأس من انتصاره، ويبحث عن أعذار تخفي ما في قلبه من تعظيم الدنيا وحب

نعيمها وقوة الارتباط بها، قال الله تعالى: [سَيَقُولُ لَكَ المُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ

شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ

لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرَّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً *

بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ

وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً] (الفتح: ١١-١٢) .

٣ - اتباع الهوى:

إن اتباع الهوى يسهل للمرء سلوك سبيل الهوان والذل واستمراء الواقع المر،

والتخلي عن إصلاحه، واليأس من تغييره، بل يصل الأمر إلى ازدراء الجهود

الإصلاحية. وكل ذلك يُسوّغ بمراء وجدل وتسويغات كاذبة، ففي حين يعقدون

آمالاً عريضة على مشاريع دنيوية محتملة، ويعدون له العدة ويضحون من أجلها،

ويشقَون في تحصيلها بالمال والجهد والوقت؛ تراهم يعتذرون عن مشاريع خيرية

وأعمال فاضلة بأعذار واهية، قال الله عن شأنهم: [وَلَوْ أَرَادُوا الخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ

عُدَّةً] (التوبة: ٤٦) ، وقال: [وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ

يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ] (التوبة: ٤٢) ، وقال: [يَعْتَذِرُونَ

إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ] (التوبة:

٩٤) .

إنه كشف وبيان لطبيعة النفوس اليائسة الناكلة عن العمل الجاد التي جعلت من

الذرائع حجة لستر عوارها وضعفها.

* ثمار اليأس:

لليأس ثمرات مُرَّة يتجرعها اليائسون، فلسان حالهم يقول: ليس من بديل

لأحوالهم إلا ما هو أمرُّ وأنكى، وليس بالإمكان أفضل مما كان.

إنهم يستطيبون باليأس ثمرات عفنة حين يألفونها ولا يرضون عنها بديلاً، ومن

جملة تلك الثمرات المُرَّة:

١ - الزهد في الإصلاح:

اليائسون بقدر ما يتحدثون عن حجم المصائب والنكبات، وعمق المشكلات،

وألوان الضعف؛ يهربون من ميدان العمل والإصلاح؛ بحجة أن الإصلاح لا بد له

من جهود ضخمة لا طاقة لهم بها، وأما الأعمال الإصلاحية الفردية اليسيرة ففي

نظرهم لن تغير التيار الجارف، ولن تصلح ما مضى من فساد عبر سنين عديدة فلا

جدوى منها! إنه عجز ويأس وفقدان للهمة، وقد يصل بهم الحال إلى تثبيط

المصلحين الساعين في بيان الحق وتبرئة الذمة، قال الله: [وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ

تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ]

(الأعراف: ١٦٤) .

إن الناكلين عن العمل يحرصون على بث اليأس وتزهيد الناس في الأعمال

الجادة، لأدنى قصور أو خسارة ظاهرية يشاهدونها، [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ

تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَّوْ كَانُوا

عِندَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ] (آل عمران: ١٥٦) .

٢ - الإغراق في اللهو:

ماذا عساه أن يفعل مَنْ زهد في أعمال الخير، وحجب ناظريه تيارُ الانحراف،

ولم ير مخرجاً للحياة سوى التعايش مع لوازمه ومتطلباته، والهروب بالنفس إلى

ميدان اللهو، والتمادي في الاستجمام والإغراق في حياة العبث والتسلية؛ ليصبح

العمل للدنيا هو الاستثناء الجاد في حياته، وإن كان هذا سبيلاً سار فيه أفراد نتاج

فكرهم اليائس، فقد وقعت جماهير من الأمة في هذا الفخ المريح والمستنقع المسلِّي؛

جرَّاء سيرهم وراء اليائسين الكبار الذين يعبثون بعقولهم وأموالهم.

٣ - الهروب إلى العدو:

إنه مشهد محزن وغريب، ولكنه في الوقت نفسه متوقع من اليائسين حين

يطلبون من عدوهم حل مشكلاتهم التي هو سببها، ويفسحون له المشاركة في

ترتيب أولوياتهم التي تميزهم عنه، إنهم يحذرون منه، ويحققون ما يرضيه،

ويتعايشون مع خططه وتصوراته! [فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ

يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ] (المائدة: ٥٢) ، إنه حل رخيص وجاهز لا

يحتاج إلى مزيد من الجهد والعناء، بل إنهم يجعلونه الحل العقلاني الأمثل،

والتخطيط الثاقب الذي يقي الأمة نزاعات مدمرة وصراعات جارفة، فما أرخص

المبادئ عند اليائسين من الإصلاح!

إن المحافظة على الوضع الراهن منتهى تفكير اليائسين، أما أن يفكروا في

السعي إلى مستوى أعلى لحال الأمة؛ فهو عندهم ضرب من الجنون، ونوع من

التطرف وفوضى فكرية يجب تقييدها.

* ينابيع الأمل:

إن رصيد الأمة العقدي والفكري والتاريخي مليء بينابيع الأمل التي لا تنضب

ولا تجف، وكلما ارتوى منها الناهلون فجَّرت فيهم الأمل والنور واليقين والثقة بالله،

وإن من أعظم منابع الأمل التي ينهل منها العلماء المصلحون ورواد الأمة؛

المنابع التالية حيث نستحضرها أشد ما تكون الحاجة إليها:

أولاً: عقيدة القضاء والقدر:

فالله سبحانه خلق الخلق وكتب المقادير، بيده الملك، يدبر الأمر، لا معقِّب

لحكمه، ولا راد لقضائه، أحاط بكل شيء علماً، قال سبحانه: [وَعِندَهُ مَفَاتِحُ

الغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ

حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ] (الأنعام: ٥٩) ،

وقال: [وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً] (الجن: ٢٨) ، وقال: [وَلَوْ

شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ] (البقرة: ٢٥٣) ، إن هذه العقيدة

فجَّرت في نفوس الصحابة آمالاً فسعوا إلى تحقيقها، وجدُّوا في بلوغها، لم يثنهم

عائقٌ، ولم يصدهم وهمٌ، ولم يرهبهم تهديدٌ، فغيَّروا الدنيا وسادوا بهذه العقيدة،

وكانوا لمن بعدهم مصدر إلهام وعز يزرع الأمل، وينشر النور، ويبدد ركام اليأس.

ثانياً: حقيقة الحياة:

خلق الله الدنيا مرحلة بعدها مراحل، فليست نهاية المطاف، وليست محلاً

لمقارنة المكاسب والخسائر، وليست الميدان الأخير، إنما هي اختبار وعمل، وكل

ما فيها يؤول يوم القيامة إلى حساب؛ فجنة أو نار، قال سبحانه: [اعْلَمُوا أَنَّمَا

الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ

أَعْجَبَ الكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَراًّ ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ

وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الغُرُورِ] (الحديد: ٢٠) .

إن حس المؤمن ليختلف في نظرته للحياة وتقييمه لأحداثها عن الكافر الذي لم

يحسب للآخرة حساباً في أعماله، وإن المؤمن ليتسامى بنظرته وهو يرى هذا العالم

يتخبط بجهله كالصبي الذي يفرح ويحزن من أجل حلوى يظفر بها! وصدق الله إذ

يقول: [زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا

فَوْقَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ] (البقرة: ٢١٢) ، [اللَّهُ

يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ

مَتَاعٌ] (الرعد: ٢٦) ، وحينما يشتد الكرب ويخير المؤمن بين دينه ودنياه؛ فإن

الأمر عنده لا يقبل الجدل، فحياته رخيصة في سبيل الله، وهذا ما أعلنه السحرة

يوم أن آمنوا بموسى فقابلوا تهديد فرعون بقوة الواثق وحسم الجازم، حيث قالوا:

[فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الحَيَاةَ الدُّنْيَا] (طه: ٧٢) ، إن المؤمن

عظيم الروح، كبير القلب، كبير العقل حين ينظر إلى رسالته في الدنيا فيجدها

معلقة بالله موصولة بأمره، محددة المسار، واضحة الطريق، غاية المؤمن أن

يرضي الله فيتوجه إليه، ويسأله الصبر، ويستمد منه العون. فكيف يتسرب إليه

اليأس وهو على نور من الله، [قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ * وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ

آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ] (الأعراف:

١٢٥-١٢٦) .

ثالثاً: انتصار المبدأ:

للمؤمنين مفهوم خاص للنصر، فانتصارهم مرتبطٌ بدينهم، فالمؤمن لا يقاتل

حمية ولا عصبية، ولا ليقال شجاع، ولا لأرض ولا لقبيلة ولا لحزب، إنما يقاتل

لتكون كلمة الله العليا، إن انتصار المؤمن انتصار دينه، وانتصار دينه انتصاره،

إنه لا معنى عند المؤمنين لنصر لا يعز الله فيه الدين، وإنه لمعنى جلي للنصر ذلك

اليوم الذي يدخل الناس فيه في دين الله أفواجاً، فحين ذكر الله أصحاب الأخدود

الذين أحرقوا كل المؤمنين قال الله عن نهاية الطائفة المؤمنة: [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا

وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الفَوْزُ الكَبِيرُ] (البروج:

١١) ، فسمى نهايتهم فوزاً ووصف هذا الفوز بأنه كبير. أي تميز للمؤمن بهذا

المعنى العزيز المتفرد؟! إن البشرية لتقف صاغرةً أمام هذا المعنى الضخم الكبير،

إنه معنى لا يزعزعه التهديد ولا الترغيب، إنه معنى يوجه المؤمن نحو إيمانه

وعمله الصالح، وأن يكون ذلك محط نظره الأول، وأن تكون أولويات حياته

منطلقة من هذا الهدف من أجل تحقيق الفوز الكبير، وهذا حرام بن ملحان - رضي

الله عنه - غلب عليه هذا المعنى، فلم يجد ما يفوه به بعد أن طُعن إلا أن يقول:

«فزت ورب الكعبة» [٢] .

وبهذا يتحرر المؤمن من ربقة الجاهلية التي تحاصره بماديتها الضخمة من

أجل طعنه برمح اليأس ونزع الأمل من قلبه؛ عسى أن يكلّ عن العمل لدينه، أو

يمل من الثبات على مبدئه.

رابعاً: بشائر الصبر:

إن صبر المؤمنين ينبوع يحفظ لهم ثباتهم على الدين حتى ينجلي الكرب،

وهم لم يتركوا من دينهم ما يلامون عليه، ومن أروع الأمثلة على ذلك حصار

الشِّعب الذي دام ثلاث سنين والرسول صلى الله عليه وسلم يتحمل شدته ويشاركه

في ذلك من معه من قومه، وينتهي الحصار ورسول الله صلى الله عليه وسلم صابرٌ

ثابتٌ لم يترك شيئاً من دعوته، ولم يغير حرفاً من منهجه، ولم يحذف كلمة واحدة

كانت تُغضب الكفار.

إن الصبر بالثبات على المبدأ ثمرة عظيمة للصبر، ونصرٌ يسبق النصر..

[فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ] (الروم: ٦٠) .

ولذلك فإن المؤمن يسعد بصبره على مبدئه، وتطمئن نفسه بما جرى وبما

يجري، حيث يستلهم فيضاً إلهياً يتنزل عليه بالسكينة والرحمة والبشرى، فما

أعمقها من معاني تفجر في النفس ينابيع الأمل تحت مطارق المحن والبلوى،

[الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن

رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ] (البقرة: ١٥٦-١٥٧) .

خامساً: النصر القادم:

إن ترقب النصر القادم الذي وعد الله عباده وعداً لا يخلفه في قوله: [وَكَانَ

حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ] (الروم: ٤٧) ؛ من أجلى ينابيع الأمل وأقواها،

حيث تدفعه نحو العمل لدينه المنصور ومبدئه الظافر، وقوله: [وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ

آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ

وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ

يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ] (النور: ٥٥) ، لقد

أعلنها صلى الله عليه وسلم في وقت الشدة لتشد أنظار المؤمنين إلى المستقبل

المحتوم؛ مهما كان الواقع يفرض على الناس أقسى الظنون، فعن البراء بن عازب

- رضي الله عنه - أنه قال: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق،

وعرض لنا صخرة في مكان من الخندق لا تأخذ فيها المعاول، فشكوها إلى

رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم هبط إلى

الصخرة فأخذ المعول فقال: بسم الله. فضرب ضربةً فكسر ثلث الحجر، وقال:

الله أكبر! أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر من مكاني هذا.

ثم قال: بسم الله. وضرب أخرى فكسرت ثلث الحجر، فقال: الله أكبر! أعطيت

مفاتيح فارس، والله! إني لأبصر المدائن وأبصر قصرها الأبيض من مكاني هذا.

ثم قال: بسم الله. وضرب أخرى فقلع بقية الحجر، فقال: الله أكبر! أعطيت

مفاتيح اليمن، والله! إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا» [٣] .

سادساً: حتمية الابتلاء:

وفي حتمية البلاء الذي كتبه الله على عباده منبع للأمل، فلا يدهش المؤمن

بنزول البلاء، ولا ينهار ولا يحبط حين يواجه الكروب، إن تقرير حتمية البلاء

يجعل المؤمن مترقباً للشدائد مستعداً لها ومدركاً لحكمتها، ومدركاً أنّ مقدرها هو

القادر على دفعها، قال سبحانه: [أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ

خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا

مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ] (البقرة: ٢١٤) ، ولذلك كان

الصحابة رضوان الله عليهم يدركون هذا الأمر إدراكاً جيداً، فهم يبادرون في تحليل

الموقف وفق هذا الاعتبار، قال الله عنهم: [وَلَمَّا رَأَى المُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا

هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً]

(الأحزاب: ٢٢) ، فكان قولهم في تلك اللحظة الأولى التي وقعت أعينهم فيها على

مشهد الأحزاب معبراً عن نفسية تستوعب الحدث؛ دون أن تصاب بصدمة تفقد

التوازن أو تصيب بالهلع والجزع أو يتسرب إليها اليأس، بل بكل ثقة وعزم يتم

ربط الحدث بالوعد المترقب، وكان لهذا أثر بالغ في رفع المعنوية وزيادة الإيمان

المتناسق مع التسليم لله ولرسوله. ولذلك قال ابن القيم - رحمه الله -:

والحق منصورٌ وممتحنٌ فلا ... تعجب فهذي سنة الرحمن

وليس هذا الوعد بنزول البلاء مدخل لليأس والخنوع وترقب الإخفاق،

وتوالي المحن، بل على العكس من ذلك، في الابتلاء حكم عظيمة وثمرات كبيرة

اقتضت حكمة الله أن لا تحصل إلا به. ففي طياته منحٌ لا يعلمها إلا الله؛ فمنها

تمييز الصف المؤمن، ورفعة درجات المؤمنين ومنازلهم في الجنة.

سابعاًًً: رصيد الفطرة:

في الناس خير ينمو وينتشر في مجالات شتى برغم انتفاش الباطل وصولته،

فلا تكاد ترى شريحة من الناس إلا فيها مَنْ توجه إلى الله، ولا تكاد ترى مجالاً في

الحياة إلا وفيه مشروع خيري؛ لا فرق في ذلك بين الرجال والنساء والصغير

والكبير والغني والفقير، إن شرع الله مهيأ أن يعرض على كل أحد مهما كان

عصيانه وسلطانه، وكل إنسان مرشح للاستقامة على دين الله، حتى غير المسلمين

فيهم إقبال على الدخول فيه، حيث يشعر الإنسان أن استقامته عليه عودة إلى فطرته.

إن دين الإسلام منذ أن انتشر في مكة لم يعرف الانحسار العددي، وهو الآن

أسرع الأديان انتشاراً، إن رصيد الفطرة مصدر ضخم للأمل، يجدد للمسلم آماله

وتطلعاته لمستقبل هذا الدين.

ثامناً: عمل المؤمن لا يضيع:

إن من أعظم منابع الأمل عند المؤمنين أن أعمالهم لدينهم لا تضيع مهما كانت،

ومهما تنوعت، ومها خفيت؛ إن المؤمن بإخلاصه لله واتباعه لسنة نبيه صلى الله

عليه وسلم يكون حقيقاً لنيل الأجر من ربه، قال الله تعالى: [مَا كَانَ لأَهْلِ المَدِينَةِ

وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُوا عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ

ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَطَئُونَ مَوْطِئاً

يَغِيظُ الكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ

أَجْرَ المُحْسِنِينَ * وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ

لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] (التوبة: ١٢٠-١٢١) .

تاسعاً: في التاريخ عبرة:

في التاريخ ينابيع للأمل، وأمثلة وعبر، تشعل في النفس ثقةً عميقة بالنصر،

من غير تهور عاجل، ولا يأس قاتل، فالتاريخ مليء بالمتغيرات، لكن عجلة

التاريخ ربما تمر على جيل كامل أو أجيال فيدركون أول الأحداث ولا يدركون

آخرها، وهذا ما يجعل عجلة الإنسان الفطرية تسارع في استبطاء النصر،

واستعجال الظفر، لقد عاش نوح ينتظر الفرج تسعمائة وخمسين عاماً، وفتح

رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة بعد إحدى وعشرين سنة مضت على البعثة،

وهو نبي مؤيد بالوحي، بل إن كنوز فارس والروم واليمن لم تظفر بها أمته إلا

بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، إنه درس التاريخ الأكبر، قال تعالى: [حَتَّى إِذَا

اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا

عَنِ القَوْمِ المُجْرِمِينَ] (يوسف: ١١٠) .

وإن التاريخ لينادي اليائسين لينظروا في أحقابه.. كم دولة قويت بعد ضعف!

وكم من أخرى ضعفت بعد قوة! قال تعالى: [الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى

الأَرْضِ وَهُم مِّنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لله الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ

وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ] (الروم:

١-٥) ، إن عجلة التاريخ تسير وفق سنن ربانية لا تتخلف. وفي التاريخ

أحداث مؤلمة ومصائب جمة مرَّت على أقوام مضوا، فكأن التاريخ ينادي كل

مصاب ومنكوب: حنانيك! فبعض الشر أهون من بعض، إن مع العسر يسراً،

وإن بعد الكرب فرجاً.

إنه لا عجب بعد هذه الينابيع أن يحرّم الإسلام على أتباعه اليأس من روح الله،

قال تعالى حكاية عن يعقوب - عليه السلام -: [وَلاَ تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ

يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ القَوْمُ الكَافِرُونَ] (يوسف: ٨٧) ، وقال تعالى حكاية عن

إبراهيم - عليه السلام -: [وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ] (الحجر:

٥٦) .

* ميادين العمل:

وإن تلك المنابع الفياضة بالأمل في قلب المؤمن لتدفعه إلى ميادين خصبة

للعمل؛ وتفجر فيه طاقاته الكامنة، وتسارع خطاه ليبلغ رسالة ربه بكل ما أوتي من

قوة، وكلما كان الإيمان بتلك المنابع عميقاً كان الأثر الظاهر في سلوك الإنسان قوياً

ومستمراً يتجدد معه في كل حال، وسر عمل المؤمن حياة روحه، وصورة أعماله

عبادة يتقرب بها إلى الله، وخير ما يقضي المؤمن حياته به عمل يوفقه الله إليه

يختم به حياته؛ وما يلي بيان لذلك وتفصيل.

* حياة الروح:

ليس أشد على الأمة من الفراغ الروحي الذي ينهك طاقاتها ويبدد قدرات

شبابها، فالروح الميتة لا تنعشها الصدمات لو تغيرت الأحوال واشتدت الأزمات،

ولا شيء يسد حاجة الروح ويحييها مثل العبادة لله وحده.

إن الحاجة للتعبد لله قائمة في كل وقت، وأشد ما تكون في الأزمات والمحن،

حيث يصاب الناس بالقلق، والاضطراب والخوف من المستقبل، والفزع من

المجهول، والتوجس من الأحداث، فلا يملأ أرواحهم سكينة وطمأنينة كالعبادة،

ومع ذلك فإن العبادة الخاشعة الخالصة التي تتحقق فيها خصال العبودية تمنح المؤمن

قلباً ثابتاً وعقلاً متزناً ورأياً ثاقباً يرى الأمور بعين البصيرة، فتمنحه التوازن

المطلوب في مواجهة الأحداث، فيسير بخطى ثابتة، ويؤدي دوره في نصرة الحق

بمنطلقات واثقة، يحتسب فيها خطواته، ويغتنم فيها أوقاته، قال الله تعالى:

[وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا

رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ] (هود: ١٢٣) . ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:

«العبادة في الهَرْج كهجرة إليّ» [٤] . إنه تشبيه بليغ، حيث يناسب حال الغافل عن

العبادة المصاب بالوهن، وضعف الهمة، وفقدان لذة العبادة حال من لم يهاجر إلى

النبي صلى الله عليه وسلم. ويناسب حال المتعلق بالعبادة المتلذذ بها، المتمسك

بهدي النبي صلى الله عليه وسلم؛ حال المهاجر إليه الذي يعيش معه، ويقتدي

به، ويأنس بالقرب منه.

* العبادة في الهَرْج والفتن:

ومن أجل استظهار أوجه العمل بالحديث السابق؛ فإن العبادة في الهَرْج تكون

على ثلاث مراتب:

الأولى: الثبات على الدين وحفظ الشرع والاستقامة على الجادة؛ مهما كثرت

الصوارف، أو طغت المغريات، أو لاح تهديد، أو عرض ترغيب، أو زين

منصب من أجل الصمت عن باطل والرضا بالمنكر، قال الله تعالى: [وَإِن كَادُوا

لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً * وَلَوْلا أَن

ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحَيَاةِ وَضِعْفَ المَمَاتِ ثُمَّ

لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً] (الإسراء: ٧٣-٧٥) .

الثانية: أن يفعل المؤمن عبادة كان هاجراً لها فيتعبد الله بها زيادة في طلب

الأجر، وتقرباً إليه؛ فإن لكل عبادة فضلاً ومزية وأثراً، فلعله أن ينال ذلك،

خاصة في أوقات الهَرْج والفتن وغفلة الناس ورقَّة الدين، وضعف الاستقامة على

الشرع، وتخلي الناس عن واجباته وسننه.

الثالثة: أن يزيد المؤمن من عبادته التي هو عليها، فيزيد من صلاته،

ويزيد من صلته وبره، ويزيد من نفقته وصدقته، ويزيد من دعوته وتعليمه.

* ميادين رحبة:

والعبادة ليست قاصرة على معنى محدود أو مشاعر ظاهرة، بل هي بمعناها

الشامل: كل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.

والعبادة تنقسم من حيث الأثر إلى قسمين:

الأول: عبادات قاصرة النفع على فاعلها؛ كالتسبيح والصلاة والاعتكاف

والعمرة.

والثاني: عبادات يتعدى نفعها؛ كالصدقة والدعوة إلى الله والأمر بالمعروف

والنهي عن المنكر.

وتنقسم العبادة من حيث الاجتماع إلى نوعين:

الأول: ما يقوم به الفرد؛ كالإخلاص وأعمال القلوب.

والثاني: ما تقوم به الجماعة من الناس؛ من التعاون على البر والتقوى.

وتنقسم الأعمال من حيث الهم بالفعل إلى حالات [٥] :

الأولى: الهمّ بفعل الحسنة ثم فعلها؛ فأجرها مضاعف إلى سبعمائة ضعف.

والثانية: الهمّ بالحسنة دون فعلها؛ فأجرها حسنة كاملة.

والثالثة: الهمّ بالسيئة ثم تركها خوفاً من الله؛ فأجرها حسنة كاملة.

ومن العبادات ما ينقطع أجرها بانقطاعها، ومنها ما يبقى نفعها فيستمر أجرها؛

كالعلم النافع، والصدقة الجارية، والولد الصالح يدعو لوالديه [٦] .

ومن العبادات ما تكون قليلة في ظاهرها، ولكنها عظيمة بالنية الصالحة،

ومنها ما يكون كبيراً أمام الناس، ولكنها صغرت بالنية الفاسدة، ولذلك قال

عبد الله بن المبارك - رحمه الله -: «ربَّ عمل صغير تعظمه النية، وربَّ عمل

كبير تصغره النية» [٧] .

وتنقسم الأعمال من حيث النية إلى قسمين:

أولاً: أعمال يجب فيها الإخلاص؛ كالصلاة والزكاة وطلب العلم الشرعي.

ثانياً: أعمال تصبح عبادات بحسن النية والاحتساب؛ كالأكل، والنفقة على

الأهل، والجماع، وطلب العلوم الطبيعية، والترويح.

ولذلك قال الفضيل بن عياض - رحمه الله -: «عبادات الغافلين عادات،

وعادات الذاكرين عبادات» .

ومن العبادات ما يكون أوْلى بقوم دون قوم، وقد يكون مختصاً بهم كالجهاد

على أهل الثغور، وكالاحتساب باليد على أهل القدرة، وكالفتوى وبيان الدين على

العلماء، وكالدعوة والتعليم على الخطباء والمعلمين والمرشدين، وكحراسة العقيدة

والشرع على المرصَدين على مناهج العلم والإعلام، وكحراسة أبواب الفضيلة على

العاملين في مواطن الشبه، وموارد الاختلاط، وغياب الرقيب.

هكذا يعيش الإنسان في ميدان العبادة الرحب، لا يكاد ينقطع من عبادة إلا

ويدخل في أخرى. ولئن تساءل المسلم كيف يحدد مساره بين تلك الميادين الرحبة،

وكيف يمارس سبيله في نصرة دينه وعبادة ربه، أمام مشاريع متنوعة ومجالات

عملية كثيرة، فعليه أن يحصر أعمال الخير وأبواب الطاعات والمجالات الخيرية،

ثم يقوم بتحديد الأعمال التي يستطيع القيام بها، ثم يحدد أهم تلك الأعمال وأعظمها

أجراً، ثم ليترك ما يشغله عنها وما يصرفه عن فعلها، وليغتنم أمره؛ فإن العمر

قصير، والفرص لا تدوم، والموفق من وفَّقه الله.

* مزيداً من العبادة:

وكلما زاد العناء وعظمت التكاليف زادت الحاجة إلى العبادة، قال الله تعالى:

[يَا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ

وَرَتِّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلاً * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً] (المزمل: ١-٥) ، ويتكرر

الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأنواع من العبادة كلما تكرر ذكر كيد الأعداء

ومكرهم، قال الله تعالى: [فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا

تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ] (هود: ١١٢) ، [وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ

وَهُوَ خَيْرُ الحَاكِمِينَ] (يونس: ١٠٩) ، [وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً

وَدُونَ الجَهْرِ مِنَ القَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الغَافِلِينَ] (الأعراف: ٢٠٥) .

* من صور الخذلان:

وإن من الخذلان أن يحرم العبد من عبادات ميسرة له، بكسله أو عجزه أو

ظنون وأوهام تصرفه عن العبادة؛ كانشغاله بالجدل والمراء، والحديث عن أهل

العلم والعمل دون الانشغال بالأعمال النافعة، وربما عد النقد وتلمس المثالب عملاً

ومسوغاً له؛ لإهمال أبواب من الخير بين يديه وتحت طائله، ومن الناس من

اقتصرت أعماله الخيرية على المشاركة الوجدانية بالفرح بأعمال الصالحين والحزن

على المصائب، ومن الناس من فيه همة وعزيمة وجلد، لكنها برفقة البطالين

تحولت إلى بطولات في ميادين أحسن أحوالها الإباحة؛ في سفر وأنس وصيد

ورحلات وسهرات، والله المستعان.

ومن صور الخذلان تعلق المرء بعبادة لم تتيسر له، فيفكر بالتعبد بها مع

هجر غيرها المتيسر، وذلك كحال من حيل بينه وبين الجهاد، وهو يتطلع إليه

فيغفل عن طلب العمل والدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،

ويزهّد الناس فيها تعلقاً بالجهاد الذي يُعذر بتركه، أو ينشغل بمباحات عن السنن

والفرائض، أو يتشبث بأعمال قليلة النفع لا تصلح له ولا يصلح لها؛ تشتت قلبه

وتشغل غيره بما لا يجدي في الآخرة إلا قليلاً.

* من صور التوفيق:

من صور التوفيق أن يستمر المؤمن على عمل خير وبر ويداوم عليه، فيثمر

مع المداومة ثمرات عظيمة، ويبارك الله فيه على قلَّته، فعن عائشة - رضي الله

عنها - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أحب الأعمال إلى الله أدومها

وإن قلّ» [٨] .

قال ابن رجب - رحمه الله -: «من مشى في طاعة الله على التسديد

والمقاربة فليبشر، فإنه يصل ويسبق الدائب المجتهد في الأعمال، فليست الفضائل

بكثرة الأعمال البدنية، لكن بكونها خالصة لله عز وجل صواباً على متابعة السنة،

وبكثرة معارف القلوب وأعمالها. فمن كان بالله أعلم، وبدينه وأحكامه وشرائعه،

وله أخوف وأحب وأرجى؛ فهو أفضل ممن ليس كذلك وإن كان أكثر منه عملاً

بالجوارح» [٩] .

ومن أعظم التوفيق أن يكون المؤمن مباركاً أين ما حلّ وارتحل، يتقرب إلى

الله بعبادة تناسب الوقت أو المكان أو الحال بقول أو فعل أو احتساب أو ترك أو

دعوة أو أمر.

وأعظم التوفيق أن يموت المؤمن وقد ختم حياته بخير أعماله مسلماً لله ظاهراً

وباطناً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله إذا أراد بعبده خيراً

استعمله قبل موته. قالوا: يا رسول الله! وكيف يستعمله؟ قال: يوفقه لعمل

صالح ثم يقبضه عليه» [١٠] . ولهذا كان من دعاء يوسف - عليه السلام -:

[تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ] (يوسف: ١٠١) .

وأرجى ما يكون ذلك إذا علق العبد قلبه بالله، واتخذ لنفسه مشروعاً إصلاحياً

يتقرب به إلى الله وينفع به المسلمين، يعيش معه، فيغلب على اهتمامه، ويسيطر

على تفكيره، ويسعى جاداً إلى نجاحه؛ صابراً على الطريق وإن طال، قال تعالى:

[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] (آل

عمران: ٢٠٠) .


(١) رواه مسلم، رقم ٢٦٢٣، وأبو داود، رقم ٤٩٨٣، قال النووي: روينا (أهلكهم) بالوجهين، شرح النووي على مسلم، ١٦/١٧٥.
(٢) القصة في صحيح البخاري، رقم ٢٦٤٧، ومسلم، ك ٣٣، بـ ١٤٧.
(٣) رواه أحمد، ٤/٣٠٣، وقال ابن حجر: بإسناد حسن الفتح، ٧/٤٥٧.
(٤) رواه مسلم، رقم ١٩٤٨، والترمذي، رقم ٢٢٠١، وابن ماجه، رقم ٣٩٧٨٥، عن معقل بن يسار رضي الله عنه.
(٥) ويدل على ذلك الحديث الذي رواه البخاري، رقم ٦١٢٦، رواه مسلم، رقم ٢٣٠.
(٦) ويدل على ذلك الحديث الذي رواه مسلم، رقم ١٦٣١.
(٧) إحياء علوم الدين، ٤/٣٦٤، جامع العلوم والحكم، ١/١٣.
(٨) رواه مسلم، ح/٦٤٦٤.
(٩) المحجة في سير الدلجة، ٥٢، ٥٣.
(١٠) رواه أحمد، رقم ١٢٢١٤، وقال محقق المسند: صحيح على شرط الشيخين، ١٩/٢٤٦، ورواه الترمذي، رقم ٢١٤٢، وقال: حديث حسن صحيح.