[الغرب ليس أمريكا]
د. باسم خفاجي
«إن التخوف الجماعي من الولايات المتحدة يبدو وكأنه الصمغ الوحيد الذي يحافظ على تلاصق الأوروبيين معاً؛ فالصحافة الأوروبية مليئة بالقصص المريرة عن عقوبات الإعدام الأمريكية، وانعدام الرفاهية بين الفقراء، وإطلاق النار في المدارس الثانوية، والسوق التي لا تتسامح مع أحد. أما الصحافة الأمريكية فتتحدث دائماً عن حكم العجائز المسنين في أوروبا، والبطالة المرتفعة، والميزانيات المنخفضة للدفاع. ليس هناك من أي علامات تدل على تجمع الكيانين الذي يصر العالم على دمجهما معاً باسم الغرب» . [الكاتب الإيطالي: جيانا رايوتا]
الغرب ليس كياناً واحداً، ولا تتوافق دوله في الكثير من الآراء والمواقف. وقصور الفهم لهذا الواقع يؤدي إلى أننا نحمل كل الغرب حكومات وشعوباً ودولاً تبعات مواقف أمريكا من المنطقة العربية. وهذا المقال محاولة لوضع أسس الفهم الصحيح لواقع الغرب الذي تشكل العلاقة معه أحد أهم العلاقات الخارجية لدول الأمة الإسلامية. إن للحوار والتفاهم مكاناً هاماً في العلاقة مع الغرب ليس فقط من أجل المسوغات الاستراتيجية والسياسية، وإنما أيضاً من أجل النضوج في الرؤى الدعوية، وتطوير أساليب تقريب الآخرين من المفاهيم الفكرية والدينية الأساسية لهذه الأمة.
وقد درج العالم العربي والإسلامي مؤخراً على استخدام مصطلح «الغرب» مرادفاً لأمريكا، وكأنهما يدلان على معنى واحد؛ ففي حوار مع صديق منذ فترة سألته عن مظاهر العداء بين أمتنا وبين دول مثل الدانمرك أو كندا، واندهش محدثي للسؤال، ونظر إليَّ بتعجب قائلاً: «الغرب وأمريكا شيء واحد.. كلهم أعداء للأمة.. وأمريكا زعيمتهم» .
وهذا التصور يبعد كثيراً عن واقع الغرب في القرن الحادي والعشرين؛ فالغرب ليس كياناً واحداً، ولا تتوافق دوله في الكثير من الآراء والمواقف. وقصور الفهم لهذا الواقع يؤدي إلى أننا نحمِّل كل الغرب حكومات وشعوباً ودولاً تبعات مواقف أمريكا من المنطقة العربية والإسلامية.
ومن النتائج الظاهرة لهذا الخلل في الفهم أننا أصبحنا نحشد كل الغرب في صف الأعداء في هذه المرحلة من تاريخ أمتنا. ونعلن أحياناً الرغبة في الصدام أو العداء لكل الغرب، ونرفض أي محاولة للتقارب أو التفاهم أو مد الجسور الفكرية والثقافية أو التواصل الحضاري مع أي من بلدان الغرب بدعوى أنهم كلهم من أتباع أمريكا.
وأضفنا مؤخراً إلى ذلك أننا أصبحنا نحمِّل الشعوب الغربية مسؤولية مواقف حكوماتها، حتى وإن خالفت الرأي العام لهذه الشعوب، رغم أننا لا نقبل أن نحمل نحن في الشعوب العربية والإسلامية الكثير من مواقف الحكومات السياسية أو الفكرية.
إن الهدف من كتابة هذا المقال هو توسيع دائرة البحث في العلاقات الدولية للأمة مع دول العالم المحيط بنا شرقه وغربه؛ فنحن في حاجة إلى الفهم الصحيح لواقع الغرب الذي نتعامل معه، وتشكل العلاقة معه أحد أهم العلاقات الخارجية لدول الأمة الإسلامية.
- مصطلح الغرب:
الغرب كيان متشعب وغير متماسك أو مترابط فكرياً أو حضارياً، وتجمعه الهوية الجغرافية أكثر من أي رباط فكري أو عقدي أو ديني، رغم وجود بعض السمات المشتركة بين الشعوب وطرق الحكم والتوجهات الثقافية.
والفوارق داخل الدول المكونة للكتلة الغربية أكبر من عوامل تجمعها معاً، وتشهد الأعوام الأخيرة أن أوروبا الغربية مثلاً ـ وهي أحد أهم مكونات الكيان الغربي ـ لا ترضى عن كثير من المواقف السياسية الأمريكية.
وكما لاحظ أحد المراقبين الأوروبيين فإنه «من قوانين البحار إلى اتفاقية كيوتو، ومن اتفاقيات التنوع في المجالات الحيوية إلى تطبيقات المقاطعة التجارية.. ومن النداءات الفظة لإصلاح البنك الدولي وصندوق النقد، ومحكمة الجنايات الدولية.. تظهر الأحادية الأمريكية دليلاً واضحاً على مرض مستعص متواجد في كل مكان، ومتغلل في السياسة العالمية» (١) .
إن أمريكا بالتأكيد أحد أهم رموز الغرب، وكذلك أوروبا الغربية، ولكنهما معاً ليسا إلا جزءاً من كيان الغرب الجديد. الغرب يجمع اليوم دول شرق ووسط وغرب أوروبا، إضافة إلى أمريكا الشمالية، وكذلك دول شمال آسيا، وحتى أستراليا تعتبر نفسها جزءاً من عالم الغرب.
إن هذا الجزء من العالم المسمى بـ «الغرب» يشترك في أكثر من ٤٠ لغة، و١٥ عرقاً من الأعراق، وأكثر من ٥٧ من الدول بعضها يقارب في الفقر والتخلف كثيراً من دول العالم النامي: كألبانيا، واليونان، وجورجيا، وبعضها يعاني من مشكلات وأزمات اقتصادية وعرقية حادة كما في «يوغوسلافيا» السابقة «وأرمينيا» .
ويعاني بعض دول الغرب من التسلط الأمريكي السياسي كما تعاني منه كثير من بلدان العالم الثالث، ويمارس الإعلام الأمريكي نفس حيله الماكرة وأساليبه المعروفة في تشويه الحقائق عند أي خلاف مع أي من هذه الدول، كما حدث مؤخراً لفرنسا ـ التي تعرضت لحملة إعلامية شعواء ـ لموقفها المعارض للغزو الأمريكي للعراق؛ فهذا هو المعلق التلفزيوني الأمريكي «مورتون كوندارك» ، يقول عن فرنسا: «إننا أقوى دولة في العالم.. وهناك عدد من الطامحين الصغار والتافهين مثل فرنسا يبغضهم ذلك كالجحيم. وعندما تتاح لهم فرصة إلصاق التهم بنا فإنهم يفعلون» (٢) .
- هل الغرب متوحد سياسياً؟
عند إطلاق مصطلح الغرب دون تحديد للمصطلح فكأننا نتحدث عن كيان مترابط متوحد، أو كأنه كيان يميل إلى التوحد في مواجهة الأعداء الذين يكونون دائماً من الخارج، ولكن الأمر في حقيقته خلاف ذلك تماماً.
فالغرب لم يتوحد طوال تاريخه الطويل، وإنما عاشت شعوبه فترات تاريخية قصيرة جداً من السلام الداخلي بين تلك الشعوب. ولا يفهم لماذا يصر الكُتَّاب والمفكرون العرب اليوم على إشعار الأمة أن هذا الكيان المسمى بـ «الغرب» كيان قوي يجتمع على قلب رجل واحد لضرب الأمة العربية والإسلامية، وكأننا نطلب من هذا الغرب، بل ونسعى إلى إجباره على التوحد ضدنا.
لقد شكلت الصراعات داخل أوروبا وأمريكا معظم إشكالات وحروب العالم، وما سمي بالحروب العالمية لم يكن في حقيقته إلا حروباً بين كيانات الغرب المتصارعة على اقتسام ثروات العالم وخيراته، وحتى داخل الكيانات الغربية الواحدة؛ فإن الحروب الأهلية والعرقية داخل الدولة الواحدة قد أودت بحياة مئات الآلاف من الغربيين.
والخلاف داخل أوروبا نفسها حول المواقف من قضايا السياسة الخارجية والدفاع فيما يتعلق بالعالم العربي والإسلامي أصبح معروفاً، ويتحدث عنه المهتمون بالشأن الأوروبي علناً؛ فقد ذكر المفكر الفرنسي (جاك ديلور) الذي رأس اللجنة الأوروبية من عام ١٩٨٥ ـ ١٩٩٥، والمعروف بأنه صاحب فكرة إنشاء السوق الأوروبية المشتركة في محاضرة أمام أكاديمية العلوم الأخلاقية والسياسية في ٥ يناير ٢٠٠٤، فقال: «اختلف الأوروبيون بشكل مأساوي أمام أزمة يوغوسلافيا، ثم لم يوحد سقوط الشيوعية دول أوروبا الأعضاء إلى الدرجة التي كان يتطلبها التاريخ. وبعد ذلك أكدت الاختلافات حول العراق ما كان معروفاً منذ القدم، وهو أن بلادنا تختلف في مجالات السياسة الخارجية؛ فجزء منها يحلم بما كان، وكأنه ما زال قائماً» (١) .
وهناك العديد من الأمثلة التاريخية على الفوارق الأوروبية والأمريكية، والخلافات الحادة الداخلية التي وصلت إلى حد مشروعات الإبادة، ومثال ذلك: الحرب الأهلية الأمريكية، ومأساة البلقان، والحرب الدينية التي استمرت لقرون ولم تنته حتى الآن في أيرلندا، وكذلك الحال في فرنسا وأسبانيا مع الأقليات العرقية أو الدينية التي لا تزال تحمل السلاح، وتنادي بالتحرر من الكيانات الأكبر داخل الغرب.
وتاريخ أمريكا المعاصر، والذي يمتد للقرون الثلاث الماضية شهد من الحروب مع دول الغرب أكثر بكثير مما شهد من الحروب ضد أي دول أخرى؛ فقد حاربت أمريكا منذ استقلالها كلاً من فرنسا وبريطانيا وأسبانيا، وكانت الحرب العالمية الثانية ضد ألمانيا وإيطاليا واليابان، ولم يكن ذلك إلا منذ نصف قرن.
وطوال القرون الثلاثة التي سبقت نصف القرن الأخير كانت أمريكا في معارك حربية فكرية مستمرة مع أوروبا الغربية بصورة أو بأخرى، وحتى خلال نصف القرن الماضي فقد كانت معركة أمريكا الكبرى هي مع المعسكر الشرقي الذي شمل أوروبا الوسطى والشرقية وشمال آسيا، وهي كلها اليوم من الكيانات والدول التي نحسبها نحن والعالم ضمن الكيان الغربي الجديد.
إن المصالح النفعية قد توحد بين الدول والكيانات من أجل التهام ثروات الشعوب والأمم، ولكنها علاقة نفعية تقوم على المصالح، وليس على الأفكار، وترتبط بتلك المصالح أكثر من ارتباطها بأية روابط ثقافية أو فكرية أو اجتماعية.
ويظهر ذلك من خلال دراسة عن «مشروع عبر الأطلنطي الجديد» الذي صدر في تقرير بوليسي ريفيو Policy Review الصادر في بداية هذا العام الذي يؤكد كاتباه على وجود المشكلات داخل الكيان الغربي، ويعبران عن ذلك بقولهما: «ليست كل الديمقراطيات الأوروبية مزدهرة، وليس الوضع الاقتصادي لكل دول أوروبا مزدهراً» (٢) .
وحتى داخل الكيان الأوروبي توجد الكثير من الفوارق والتخوفات من مشروعات السيطرة المحلية. وفي تلخيص لهذا التخوف ذكرت مؤسسة الاستشراف الاستراتيجي: «إن السؤال الحقيقي في عقول سكان جنوب ووسط أوروبا هو: هل نفضل الحياة في كيان أوروبي موحد تتزعمه فرنسا وألمانيا، أم أن الأفضل أن نحيا حياة ذات استقلال محلي، وتحالف مع الولايات المتحدة في قضايا الأمن فقط» (٣) .
- اختلاف الرؤى الفكرية:
الغرب ليس كياناً واحداً من النواحي الفكرية والعقدية؛ فلا تشترك الدول الغربية في المفاهيم الفكرية أو العقدية إلا بقدر محدود. واختلاف اللغات والتقاليد الاجتماعية له أثر بالغ في اختلاف الرؤى حول مفاهيم الحضارة.
ينظر أغلب الأوروبيين إلى الشعب الأمريكي على أنه من سلالة الفارّين من أوروبا من المجرمين والطبقات الدنيا من المجتمع الأوروبي، بينما ينظر الشعب الأمريكي للشعوب الأوروبية على أنها تمثل ماضي العالم، وهو ماض غير مشرف، ومن الأفضل تجاوزه إلى المستقبل، وأن أبناء أمريكا هم من فروا من التخلف الأوروبي لبناء الحضارة الأمريكية التي أصبحت تسمى اليوم الحضارة الغربية.
كِلا الموقفين به بعض الصواب والكثير من الافتراء، ولكن المهم هنا هو إدراك عمق الهوة الفكرية والثقافية بين شعوب ذلك الكيان الواحد المسمى «الغرب» .
وعندما تحدث دونالد رامسفيلد العام الماضي عن «أوروبا العجوز» فإنه كان يعبر عن مشاعر الشارع الأمريكي بالعموم تجاه أوروبا. فقد نشأت أمريكا منذ بدايتها على أنها مخالفة لأوروبا؛ فهي ديمقراطية وليست ملكية أو أرستقراطية، وهي مثابرة ومكافحة، وليست مترفة، وهي نفعية ولا تهتم بالتقاليد البالية. أوروبا تعني للشعب الأمريكي الثقافة بينما تعني أمريكا لهم الفرصة والإله والطبيعة، أو خليطاً بين كل ذلك (١) .
وتعرِّف الثقافة الأمريكية نفسها أنها الثقافة الأصيلة مقابل الثقافة الأوروبية المعقدة. وأنها الجرأة والقوة في مقابل التردد.. حمرة الانفعال في مقابل رمادية البرود.. موسيقى الجاز في مقابل السيمفونيات.. عروض بروودواي في مقابل عروض الأوبرا.. أفلام الإثارة والحركة في مقابل أفلام الكلام والثرثرة. باختصار: إن الثقافة الأمريكية هي كل ما يناقض الثقافة الأوروبية. ولكن أوروبا أصبحت ترفض أن تكون الشريك المطيع والأقل درجة لأمريكا.
وفي دراسة أجريت عام ١٩٩٤م ظهر أن أكثر من ٦١% من الفرنسيين و٤٥% من الألمان و ٣٢% من الإيطاليين يرون أن الثقافة الأمريكية تشكل تهديداً حقيقياً لثقافتهم (٢) .
وحتى داخل أوروبا الغربية ذاتها يوجد العديد من الفوارق الفكرية والخلافات العقدية والثقافية أيضاً؛ فأوروبا الكاثوليكية لا تحترم أوروبا البروتستانتية والعكس صحيح. وبدأ ذلك منذ قرون، ولم ينته حتى الآن؛ فقد كانت الحرب الدينية بين الكاثوليك والبروتستانت التي استمرت لثلاثين عاماً من ١٦١٨م ـ ١٦٤٨م مقدمة لسلام وستفاليا الذي قسم أوروبا إلى دويلات صغيرة متناحرة. ولم تنته الصراعات التي تختفي تحت شعارات الدين منذ ذلك الحين (٣) . ويظهر ذلك جلياً في الصراع الأيرلندي مع الحكم البريطاني، وكذلك الحال مع إقليم الباسك في أسبانيا.
وأوروبا الأورثوذكسية أيضاً تنظر بعين الاحتقار عقدياً إلى باقي أوروبا، كما هو الحال في صربيا واليونان التي تعتقد شعوبها أن الكنائس الإنجيلية والكاثوليكية قد خانت المسيح، وحرفت الدين، وأصبحت أسيرة للعلمانية اللادينية. وهكذا تتدخل هذه الفوارق في صياغة التوافق الفكري الغربي والأوروبي وعلاقة ذلك أيضاً بالولايات المتحدة.
- الصراعات الاقتصادية:
أما اقتصادياً فمن المهم أيضاً متابعة التطورات الأخيرة في العلاقة بين التحالف الأوروبي الجديد «الاتحاد الأوروبي» وبين زعيمة الحضارة الغربية «الولايات المتحدة الأمريكية» . فلقد أصبح الاتحاد الأوروبي يمثل المنافس الحقيقي والمزعج للولايات المتحدة في كثير من المجالات الاقتصادية والفكرية في عالم اليوم.
إن عدد سكان أوروبا الموحدة اليوم يتجاوز ٨٠٠ مليون نسمة (بعد إضافة دول الكتلة الشرقية) (٤) . وهو ما يزيد عن ضعف عدد سكان الولايات المتحدة الأمريكية. كما تشير أسعار صرف اليورو مؤخراً أنه قد تغلب على الدولار في القوة الاقتصادية، وأنه أصبح أحد أهم عملات العالم وأكثرها استقراراً وقوة.
- القرار العالمي والسياسات الدولية:
ساهم الاتحاد الأوروبي في إقصاء أمريكا عن القرار العالمي في العديد من مجالس الأمم المتحدة والمنظمات العالمية من خلال التحالف مع غيرها لإسقاط المرشح الأمريكي. وكان أبرز هذه المحاولات ما حدث مؤخراً من إسقاط ممثل أمريكا في لجنة حقوق الإنسان بالأمم المتحدة، والتصويت لمندوب السودان في محله بدعم وتأييد أوروبي صيني مشترك.
كانت هذه الانتخابات صفعة قاسية للولايات المتحدة التي دأبت في العقدين الأخيرين على اتهام السودان بمخالفات صارخة في حقوق الإنسان في الجنوب، ونجحت أوروبا أيضاً في الضغط على منظمة العفو الدولية لتعلن مؤخراً أن «الولايات المتحدة تقف حجر عثرة أمام حقوق الإنسان بقدر ما هي مدافع عن هذه الحقوق» (٥) .
كما كان للموقف الأوروبي من احتلال العراق أثراً واضحاً في اهتزاز السيادة الأمريكية في الأعوام الأخيرة تحت وطأة هذه المنافسة الأوروبية المتعددة التوجهات والحادة أيضاً. ولا شك أن الاتحاد الأوروبي قد ساهم في إقصاء أمريكا عن القرار العالمي بخطى أكثر نجاحاً من العالم العربي الذي اكتفى بالتباكي ورصد المصائب وتوثيقها بدلاً من العمل على تجاوزها والتصدي لها كما يفعل الاتحاد الأوروبي.
ولا يعني ذلك بالضرورة أن الاتحاد الأوروبي يقف في صف الأمة العربية والإسلامية، وإنما علينا أن ندرك أن هناك فوارق جوهرية في المنطلقات السياسية لدول هذا الكيان، وعلينا أن نبذل الجهد لفهمها واستثمار ما نستطيع منها لخدمة قضايانا، ووضوح الرؤية في مواجهة ما لا نرضى عنه من سياسات أو مواقف، وعدم حشدها بالضرورة في الموكب الأمريكي لمعاداة الأمة العربية والإسلامية.
ليس من صالح أمتنا أن نكثر من أعدائها، أو أن نحاول زيادة أو تقوية صفوفهم. ومن المهم في هذا السياق أن نرصد التغييرات السياسية وأسبابها، وألا نسارع بإلقاء الأحكام وتعميم الاتهامات دون وضوح أو حاجة.
- كيف ينظر الأوروبيون للقوة الأمريكية؟
العقل الجمعي للشعوب الأوروبية ينظر بحذر إلى القوة العسكرية الأمريكية، ولا يعتبرها بالمجمل قوة خير؛ فقد عانى الأوروبيون من الجيوش الأمريكية الكثير؛ فهل ينسى الشعب الألماني مثلاً أن الطيران الأمريكي قصف مدينة درسدن الألمانية في مايو ١٩٤٥م، رغم أن الزحف الروسي كان قد تجاوزها، ولم تعد ـ لهذا السبب ـ تشكل هدفاً عسكرياً، وقد أدى القصف إلى قتل ١٥٠ ألف شخص مدني، وأسفر عن تخريب ٦٠% من أبنيتها (١) .
وهل تنسى أسبانيا أن الولايات المتحدة الأمريكية حاربتها ١٤ عاماً متواصلة منذ عام ١٨٩٨م في معاركهما حول الاستيلاء على الفلبين (٢) .
وهل ينسى اليونانيون أن الولايات المتحدة أشعلت حرباً أهلية في اليونان عام ١٩٤٩م ذهب ضحيتها ١٥٤ ألف شخص، وأودع حوالي ٤٠ ألف إنسان في السجون، و ٦ آلاف أعدموا بموجب أحكام عسكرية، وقد اعترف السفير الأمريكي الأسبق في اليونان «ماكويغ» بأن جميع الأعمال العسكرية والتأديبية التي قامت بها الحكومة العسكرية في اليونان في الفترة ما بين عام ١٩٤٧ ـ ١٩٤٩م كانت مصدّقة ومهيأة من واشنطن مباشرة.
وماذا عن شعب صربيا الذي قُصف بالطائرات الأمريكية؛ رغم أن ذلك كان لتخفيف وطأة المذابح العرقية على مسلمي المنطقة، إلا أن ذلك الشعب الأوروبي يدرك تماماً أن أمريكا لا يمكن أن تكون حليفاً لأحد، إنه كيان يتحرك وفق مصالحه النفعية الخاصة، ولا يقدِّر قيمة الإنسان إلا من خلال المعايير النفعية فقط.
ففي دراسة أجراها معهد «بيو» الشهير للدراسات الإحصائية، ونشرت في مجلة «رؤى حول العالم المتغير» وجد أن نسبة الفرنسيين الذين يحملون تصورات إيجابية عن الولايات المتحدة قد انخفضت من ٦٢% عام ٢٠٠٠م إلى ٤٣% عام ٢٠٠٣م، بالمثل فإن نظرة الألمان الإيجابية للولايات المتحدة هبطت من ٧٨% إلى ٤٥% في نفس الفترة (٣) .
وكما عبر عن ذلك أحد أساتذة الجامعات الأمريكية قائلاً: «المشكلة ليست في أن أمريكا لا تؤمن بحقوق الإنسان، المشكلة في تعريفها للإنسان» (٤) .
- المنافس الأوروبي القادم:
إن أوروبا تقف اليوم موقف العداء والحذر الشديد من التصورات الاستعمارية الأمريكية، كما أن الخلاف امتد إلى مجالات كثيرة من الجوانب الاقتصادية إلى قضايا حماية البيئة؛ فأمريكا عارضت الغرب بأكمله عند رفضها للتوقيع على معاهدة كيوتو الخاصة بحماية العالم من ظاهرة الدفء العالمي Global warming التي تهدد مستقبل البشرية.
إن بعض القيادات الأمريكية تدرك أن الوقت قد حان لأوروبا لمنافسة أمريكا على مراكز الصدارة العالمية؛ ففي محاضرة ألقاها مندوب أمريكا السابق لدى الأمم المتحدة (وليم فاندل هافيل) في الأكاديمية الأمريكية في برلين، أكد على ضرورة أن تتولى أوروبا قيادة الأمم المتحدة وليس أمريكا، ووصف الوضع الحالي للتأثير الأمريكي على الأمم المتحدة أنه «تأثير مدمر بدرجة متزايدة» ، وسوغ موقفه بأن قيادة أوروبا للأمم المتحدة ستقلل من تأثير الكونجرس الأمريكي على الأمم المتحدة الذي يهدف إلى «زعزعة المبادئ» التي قامت عليها الأمم المتحدة من أجل تقليل خطر الأمم المتحدة كعائق أمام الهيمنة الأمريكية على السياسات العالمية، وتهميش دور الأمم المتحدة في مواجهة فرض السيطرة الأمريكية على العالم (٥) .
وفي دراسة متميزة للكاتب الأمريكي (كين سانز) نشرت في جريدة «آسيا تايمز» الصادرة من هونج كونج ركز الكاتب على أنه رغم القواسم المشتركة بين التطور المدني والحضاري لكل من الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة الأمريكية فإن هذه الفوارق لا تمثل صوراً متغيرة لنظام واحد، وإنما هي تمثل نظامين مختلفين تماماً لقيادة العالم. نظرة أوروبا وأمريكا للعالم ليستا لهجتين مختلفتين للغة واحدة؛ إنهما لغتان مختلفتان تماماً كما يقول (١) .
- تاريخ العلاقة مع الغرب:
إن تاريخ العلاقة العربية والإسلامية مع الغرب شهد فترات من الصراع الحاد الذي كان منطلقه الدين في بعض الأحيان كما حدث فترة الحملات الصليبية، والاستعمار في أحيان أخرى كما حدث أعقاب سقوط الدولة العثمانية. وكانت هذه الفترات من العلاقة مع الغرب فترات مظلمة.
والأطماع الاستعمارية والأحقاد الدينية لا تزال موجودة في هذا الكيان الغربي، ولكنها اليوم تختلط أيضاً برؤى فكرية أخرى ترتبط بالمصالح والمنافع أكثر من ارتباطها بالدين، وترتبط بالحوار أكثر من ارتباطها بالاستعمار.
وحتى في الماضي فقد مرت فترات من الحوار الحضاري والتفاهم الفكري مع الغرب امتدت لقرون رغم اختلاف التوجهات والعقائد. واليوم يحيا العالم على ثمرات تلك الفترات من الحوار والتبادل الفكري والثقافي.
فعندما بدأ الغرب انطلاقته المدنية والعمرانية كان للعلوم الإسلامية الأثر الأكبر في توجيه تلك الانطلاقة في مراحلها الأولى التي اعتمدت بشكل كبير على علماء المسلمين في شتى العلوم والمعارف المدنية. ولذلك فإن العلاقة مع الغرب ليست أحادية التوجه، وليست أيضاً علاقة سطحية ساذجة تعتمد على الحب أو الكراهية فقط، أو القبول التام أو الرفض المطلق أيضاً، رغم أهمية مثل تلك المشاعر في الجوانب العقدية من العلاقة.
- الموقف الشرعي من العلاقة مع الغرب:
ولكي نكون علاقة صحيحة مع الكيان الغربي فلا بد أن تنسجم هذه العلاقة من ناحية منطلقاتها الفكرية والعقدية مع أصول الشريعة التي تحكم علاقة المجتمع المسلم بغيره من المجتمعات. وقبل أن نتعرض لهذه القواعد الأساسية فمن المهم أن نوضح اهتمام الأمة الإسلامية منذ فجر هذه الدعوة بالعالم المحيط بها، ومحاولة فهمه فهماً صحيحاً.
لقد كان في سبب نزول الآيات الأولى من سورة الروم بيان أن هذه الأمة لا تنعزل عن العالم الذي تعيش فيه، بل كان من همومها ومهام قيادتها استشراف مستقبل القوى العالمية التي كانت تحرك سياسة العالم في ذلك الوقت.
وعندما أرسل النبي # أحد الصحابة إلى اليمن لكي يعلِّم قومها الإسلام أخبره بشأن هؤلاء القوم وصفاتهم النفسية وأنسب الطرق وأسرعها إلى قلوبهم وعقولهم، ولم يكن ذلك ممكناً دون معرفة الآخر معرفة صحيحة واقعية ومعاصرة أيضاً.
أما أسس العلاقة مع الدول والكيانات غير المسلمة فهي تحتاج إلى أن تُبسط في مقال مستقل، ولكن من المناسب في هذا المقام بيان بعض الأطر العامة التي تحكم علاقة المجتمع المسلم بالمجتمعات غير المسلمة، سواء في النواحي السياسية أو الاجتماعية أو الثقافية.
وأول هذه الأسس وأهمها: هو الحفاظ على تميز الذات المستمد من الارتباط بالشرع ووضوح معالم المحبة والبغض بين الأمة الإسلامية وغيرها من الأمم؛ ويثبت ذلك من خلال مفاهيم الولاء والبراء التي تجمع بين أبناء الأمة برباط المودة، وتحكم العلاقة مع الآخر ضمن أطر الدعوة من جانب، والبراءة من كل ما يخالف الدين من جانب آخر.
كما أن العلاقة بين الحق والباطل قديمة وباقية، وتستدعي دائماً أن تحافظ الأمة على العدل، وأن تتحمل مسؤولية تقريب الخلق وعموم البشرية من خالقها، وتدافع عن هويتها بكل طريق ممكن ـ فيما لا يخالف الشرع ـ ويحفظ أصول الدين؛ ومن ذلك إقامة الجهاد، والحفاظ على عزة الأمة وحرمة مقدساتها (٢) .
ويلي ذلك أن الأصل في العلاقة مع غير المسلم ـ وخاصة من لا يحارب الأمة أو يستهدف دينها ـ هو الحوار وحسن المعاملة. {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: ٨] . ولا يعني ذلك التهاونَ في الدين أو التنازلَ عن المسلَّمات، وإنما يعني طرحها وشرحها بأفضل الأساليب الممكنة التي تجمع بين الاعتزاز بالقيم والحفاظ عليها من ناحية، والاهتمام بفهم الآخر وطرق إدارة المجتمعات غير الإسلامية دون انفعال من ناحية أخرى.
- قصور في فهم الغرب:
إن الأمثلة على قصورنا في فهم آليات المجتمعات العالمية توقعنا دائماً في الكثير من الافتراضات الخاطئة، والتعميمات غير المفيدة؛ ففي الفترة الأخيرة يكتب في الكثير من الصحف العربية مثلاً أن تغير سياسات الهجرة في أوروبا وأمريكا هدفه الوحيد والأساس هو تقليل التواجد العربي الإسلامي في الغرب، ومحاربة الإسلام وأهله عن طريق تلك القوانين التي تهدف إلى تضييق دوائر الهجرة القانونية ومقاومة الهجرة غير القانونية إلى الغرب.
ومن يتابع الموقف الاقتصادي الأوروبي طوال الأعوام الماضية وتفشي البطالة وسوء أوضاع المهاجرين غير القانونيين لا يعجب أن تسن دول أوروبا قوانين تحاول الحد من ذلك، والعالم أجمع ينحو في الأعوام الأخيرة إلى نفس التوجه، وهو تقليل الهجرات غير القانونية.
ولكن العديد من كُتَّابنا ومفكرينا قرروا أن هذا التغير الأوروبي أو حتى الأمريكي مرجعه الأساسي والوحيد هو الخشية من تنامي الإسلام في أوروبا الغربية. هناك بالقطع من السياسيين الأوروبيين من يعتقد ذلك، ويتمنى الخلاص من الإسلام في القارة الأوروبية، ولكنهم في واقع الأمر قلة، ولا تملك السيطرة على صناعة القرار الأوروبي، وإنما تحاول التأثير عليه شأنها في ذلك شأن كل القوى الضاغطة، ولا يوجد ما يمنعنا من أن يكون لنا كيان ضاغط مقابل لمثل هذه التوجهات.
ومن يتابع مثلاً موضوع الهجرات غير القانونية في العالم يدررك أنها مشكلة مزمنة وذات أبعاد أمنية اجتماعية واقتصادية مزعجة؛ ولذلك تحاول الكثير من دول العالم تقييد هذه الهجرات والحد منها.
والمحزن أن معظم دول العالم العربي والإسلامي لها قوانين صارمة في هذه المجالات، وتوجه بالدرجة الأولى ضد أبناء الأمة من المسلمين مثلاً من الدول المجاورة. ولا نتهم أحداً منها بمعاداة الإسلام أو الأمة، وإنما نتفهم مواقفها على مضض أحياناً، وبالقبول والتشجيع أحياناً أخرى.
فرغم أن أوروبا الغربية تضيِّق في قوانين الهجرة إليها والإقامة فيها، إلا أن كندا مثلاً ـ وهي من الغرب أيضاً ـ تستوعب الكثير من العرب والمسلمين، وترحب بهم للهجرة والإقامة والعمل، وخاصة بعد أن بدأت الحكومة الأمريكية في إجراءات الاضطهاد القانوني والتمييز ضد العرب والمسلمين في الولايات المتحدة بعد أحداث سبتمبر؛ أليست كندا من الغرب أيضاً؟ وأليس من المناسب أن نقر بأن الغرب ليس كياناً واحداً؟
وحتى عندما تناصرنا بعض هذه الدول نهزأ بالمساندة أو المساعدة، وندعي أنها من الحيل الماكرة للغرب، أو أنها ليست مساندات ذات قيمة؛ فكثير من الدول الغربية يساند القضية الفلسطينية، ويتحايل على إجراءات المقاطعات الاقتصادية الأمريكية تجاه دول أمتنا، وأغلبها عارض بوضوح وصراحة الحملة الأمريكية على العراق.
ورفضت معظم دول الكيان الغربي مشاركة أمريكا في التمييز ضد المسافرين من أبناء الأمة الإسلامية بدعوى مقاومة الإرهاب، ورفض بعضها تسليم من تطالب بهم أمريكا في حربها المسماة بالحرب على الإرهاب، وغير ذلك من الكثير من المواقف التي تؤكد أن الغرب ليس كياناً واحداً، وأن زعيمته «أمريكا» غير قادرة على إحكام قبضتها على قيادة هذا الكيان.
- فرض القيم الغربية:
الغرب لا يسعى بمجمله إلى فرض قيمه على مجتمعاتنا؛ فمعظم دول هذا الغرب تعاني من انقسامات حادة في مجال القيم والأخلاق العامة، ولم يسمع أحد أن النرويج أو فنلندا أو كندا مثلاً يهدفان إلى غزو الثقافة العربية الإسلامية وتحويلها إلى ثقافة وقيم أسكندينافية أو كندية. ولم تعرف هذه الدول بعداء فطري للأمة أو موقف كراهية مبدئي من أبناء أمتنا.
قد توجد هذه الكراهية في أفراد أو مجموعات بعينها في تلك المجتمعات، ولكن يوجد في مقابلها أيضاً أفراد ومجموعات تحمل رؤى مناقضة لذلك.
لا بد أن نميز بين الغزو الإعلامي الأمريكي ومحاولة الولايات المتحدة تغيير قيم العالم لتناسب المزاج الأمريكي وبين باقي دول الغرب التي تعاني من هذا الغزو بدرجة مقاربة لمعاناتنا في العالم العربي.
لقد رفضت فرنسا التوقيع على معاهدات حقوق الملكية الفكرية الدولية إلا بعد إضافة ما سمي بـ «الاستثناء الفرنسي» الذي يسمح لفرنسا والدول المتحدثة باللغة الفرنسية من تحجيم التأثير الإعلامي الأمريكي على ثقافة وأخلاق تلك الدول. وللأسف لم نسمع عن «الاستثناء العربي أو الإسلامي» ؛ لأننا نكتفي في عالم اليوم بتمثل عقلية الضحية، والتسابق في وصف وتوثيق أنواع الظلم الذي نعانيه.
وفي بعض أنحاء أوروبا فإن العداء لأمريكا يتجاوز معاداة الإدارة الأمريكية، ويركز على معاداة الإنسان الأمريكي نفسه، وقد كتب ذلك (راسل بيرمان) في دراسة نشرت بمجلة مركز هوفر الفكري قائلاً: «إن ظاهر معاداة الغرب لأمريكا هي ظاهرة أكثر تعقيداً من معاداة الإسلاميين لها، وهي معاداة شخصية متجذرة في العقل الغربي. إن الدول الإسلامية لا تحب قوة أمريكا ولا غرورها.. ولا حتى نجاحها. أما في الغرب غير الأمريكي فإن الاعتراض الرئيس هو الشعب الأمريكي» (١) .
ويعبر عن النقطة نفسها المخرج الألماني المسرحي (بيتر زادك) فيقول في مقابلة أجريت معه في «مجلة دير شبيجل» الألمانية في يوليو ٢٠٠٣م: «أعتقد أنه من الجبن أن نفرق بين الإدارة الأمريكية الحالية وبين الشعب الأمريكي. إن إدارة بوش قد تم انتخابها بصورة أو بأخرى بشكل ديمقراطي. ومعظم الشعب الأمريكي أيد غزو العراق؛ ولذا فإنه من المناسب تماماً أن تكون ضد الأمريكان اليوم بنفس الدرجة التي كان بها العالم ضد الألمان في الحرب العالمية الثانية، وبهذا المعنى فإنني ضد الأمريكان» .
- الغرب.. أم أمريكا؟
هل أدعو اليوم إلى التقرب من الغرب والارتماء في أحضان أوروبا الغربية، واستبدال مستعمر بآخر؟ لا؛ وإنما أدعو فقط إلى محاولة فهم الغرب، وإلى تجنب السطحية والتبسيط الزائد في تقييم مواقف الأمم والشعوب، وعدم تحميلها ما يحتمل من التفسيرات.
أدعو أيضاً إلى استثمار التغيرات العالمية لصالح أمتنا، ولتقليل عدد أعدائها وليس زيادة عددهم. إن أحد أهم عناصر الفعالية في السياسة الأمريكية يكمن في حشد الدول والشعوب لمناصرة الموقف الأمريكي وإلزام الأمم بذلك، وقد سئم العالم من هذا الأسلوب. وتسعى بعض دول العالم اليوم إلى التحالف معاً للحد من الهيمنة الأمريكية، فَلِمَ لا نشارك في مثل هذه التحالفات؟
ويعبر عن هذا التوجه الجديد الكاتب الأمريكي جون إيكنبري قائلاً: «تقوم بعض الدول اليوم بإجراء تعديلات طفيفة، وتكوين بدائل أخرى ومختلفة للتحالف مع الولايات المتحدة. وقد لا تبدو هذه الخطوات الصغيرة هامة اليوم، ولكن الأرضية سوف تهتز وتتغير، سوف يتفتت ويختفي نظام ما بعد الحرب الذي تزعمته الولايات المتحدة» (١) .
إن كثيراً من دول أوروبا ترى في أمريكا العدو الحقيقي لها، فَلِمَ لا نتعاون معهم على إسقاط هذا الكيان الذي يريد الهيمنة على العالم أجمع، وبعد ذلك يكون لكل حادث حديث؟ أنا لست مع حرق المراحل، وحلفاء اليوم قد تتغير العلاقة معهم في الغد، فَلِمَ لا نتعاون اليوم على القواسم المشتركة التي تنفع أمتنا؟
لقد أثنى رسول الله # على حلف الفضول الذي كان يهدف إلى نصرة المظلوم، ورد الحقوق إلى أهلها، وتحجيم سطوة بعض القبائل على الأفراد والمجتمعات، وكان تحالفاً خارج دائرة الإسلام، بل كان قبله، ولكن نبي الأمة أوضح لنا أهمية التحالف لخدمة المصالح المشتركة؛ فقال في حديثه عن هذا الحلف: «لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفاً ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أُدعى به في الإسلام لأجبت» (٢) .
لقد صدر مؤخراً كتاب نرويجي بعنوان: «الخوف من أمريكا: تاريخ أوروبا» ، ويرى كاتباه أن معاداة ومقاومة أمريكا هو القاسم المشترك في الفكر الأوروبي المعاصر. إن أمريكا هي الآخر الذي يتحدد من خلاله وبمواجهته كل ما هو أوروبي، بل إنهما يذهبان إلى القول: «إنه من المستحيل إن تقنع نرويجياً بأن يقول أن الأمريكيين أذكياء. إن كراهيتنا للأمريكيين تتفوق كثيراً على بغضنا للمسلمين والأفارقة (٣) ، ويدل الكاتبان على حقيقة هذه المشاعر بملاحظة ذكية مفادها أنه في أي مدينة من مدن أوروبا لا يخجل الناس من الاستهزاء بالأمريكيين علناً، وحتى في الدوائر الاجتماعية المحترمة، بينما لا يمكن أن يهزأ أحد علناً بالباكستانيين أو الأفارقة رغم وجود مشاعر بغض لهم، ولكنها لم تصل من الشيوع والقبول العام إلى الدرجة التي وصلتها مشاعر كراهية الأمريكان.
وإذا كانت هذه هي حقيقة المشاعر الغربية تجاه أمريكا، فَلِمَ لا نحسن استغلال ذلك لمصالح أمتنا؟ ولا يعني هذا أن الغرب يحب الخير لأمتنا، ولكنه يشترك معها في الرغبة في الحد من الهيمنة الأمريكية، وفي هذا فوائد كبيرة لكلا الجانبين.
- مشروع الشرق الأوسط الكبير:
إن الولايات المتحدة تتحرك اليوم نحو مرحلة جديدة من مراحل التآمر على العالم العربي والإسلامي! فلقد أوشكت مرحلة السيادة والهيمنة العسكرية على الانتهاء بالنجاح، وستبدأ في الأعوام القادمة مرحلة التفكيك من الداخل، أو محاولة تفتيت البنية التحتية الاجتماعية والهوية القومية والدينية للمنطقة العربية والإسلامية.
ولذلك يجري إغراق المنطقة بمشروعات الإصلاح الأمريكي مع الهجمة التي تهدف إلى إيجاد بديل غربي للسلطات التي تحكم المجتمع العربي والإسلامي سواء كان ذلك يعني السلطة السياسية أو القضائية أو الدينية.
لقد قررت أمريكا وحدها أن الشرق الأوسط يحتاج إلى تغيير، وأعلنت عن مشروع «الشرق الأوسط الكبير» دون مشورة الحلفاء الأوروبيين، بل إن معارضتهم لتفصيلات المشروع كانت معروفة للإدارة الأمريكية التي قررت تجاهلها تماماً، كما حدث من قبل عند اتخاذ قرار احتلال العراق. لقد أبدى عدد من دول الغرب مؤخراً استعداد بلاده لمعاونة العرب في مقاومة هذا المشروع وإسقاطه، وهذا هو ثمن التجاهل الأمريكي للحلفاء.
لم تتعاطف أوروبا الغربية مع تصورات الولايات المتحدة لمشروع الشرق الأوسط الكبير؛ فبعد أيام من صدور مبادرة الشرق الأوسط الكبير الأمريكية على لسان (دونالد رامسفيلد) وزير دفاع الولايات المتحدة، والسيناتور (ريتشارد لوجار) رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكي، قدمت مبادرة (يوشكا فيشر) وزير الخارجية الألمانية أمام مؤتمر ميونيخ للسياسات الأمنية حول الإصلاح الديمقراطي في الشرق الأوسط التي تطورت إلى مشروع فرنسي ـ ألماني مشترك قدم إلى مجلس وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي في بروكسل.
إن المخطط الأمريكي للمنطقة يهدف إلى إضعاف جميع السلطات المحلية وتقديم بدائل أمريكية لها، سواء من ناحية فرض نماذج ديمقراطية غربية على الواقع السياسي العربي والإسلامي، أو إقامة محاكم بديلة وحث المواطنين على اللجوء إليها، والبعد عن التحاكم إلى المحاكم المدنية أو الشرعية في الدول.
كما يهدف هذا المشروع إلى تقليص جميع السلطات المتاحة للمؤسسة الدينية، سواء من خلال التعليم أو العمل الخيري أو منابر الإعلام والدعوة، واستبدال كل ذلك بإسلام معدل يوافق الرؤى السياسية الأمريكية لدور الدين في منطقة الشرق الأوسط، وخصوصاً فيما يتعلق بموضوعات الجهاد واستعادة المقدسات، ورفض التخلي عن الهوية الإسلامية أو القومية للأمة، أو حتى الحقوق الإسلامية المكتسبة للمرأة.
ولذلك فلا بد أن نتحالف مع جميع دول العالم لنقاوم هذا المشروع، وقد نجد من الدول الغربية من يرى مشاركتنا في هذا الجهد من أجل أن يساهم ذلك في إسقاط هيبة الكيان الأمريكي، وهو هدف تسعى الكثير من الدول الأوروبية مؤخراً إليه.
لقد أدرك بعض حكام العالم الإسلامي منذ بداية القرن الماضي مسألة المصالح ودورها في الفكر الغربي، وأنها مقدمة على المعتقدات والأفكار، ولكن للأسف فإن أغلب من تسلح بهذا الفهم كان ممن لا يسعى بالضرورة إلى توحيد الأمة وجمع شملها؛ ولذلك فقد نجح محمد علي في استخدام فرنسا في مواجهة الإنجليز بشكل كبير، وقام بفتح علاقات واسعة مع الحكومة الفرنسية في ذلك الوقت، وأسهمت تلك العلاقات في النهضة العسكرية والصناعية والمدنية في مصر في القرن التاسع عشر. وأرسل محمد علي المبعوثين إلى فرنسا للتعلم منها، رغم أن هؤلاء المبعوثين خُدعوا بشعارات الحرية والمساواة في مقابل فهم قواعد اللعبة السياسية التي تحتكم إلى المصالح والمنافع أكثر من احتكامها إلى المبادئ.
وهكذا كانت المصالح تحرك الاتفاقات وليس المبادئ، وبصرف النظر عن موقفنا الفكري من ذلك، سواء بالرضا أو بالرفض فإن هذا هو واقع العالم في ظل هيمنة النموذج الحضاري المدني الغربي على السياسات العالمية.
- أمريكا ليست هي الغرب:
إن أمريكا ليست هي الغرب، والغرب ليس أيضاً أمريكا، وبينهما من العداء المتنامي ما يمكن أن تستثمره أمتنا لصالح قضايانا. والمنافس القادم على الصدارة العالمية قد يكون من الغرب أيضاً، ولكنه لن يكون حليفاً أمريكياً، وأعني بذلك الاتحاد الأوروبي. وهذا الاتحاد مواقفه الحالية أكثر اعتدالاً من قضايا أمتنا، وله من المصالح الاقتصادية والاجتماعية مع الأمة ما يدفعه إلى التقرب منها ومحاولة كسب ودها.
الغرب لا يزال طامعاً في ثرواتنا وأسواقنا، وليس بالضرورة حليفاً مناصراً لنا على المدى الطويل، ولكننا في هذه المرحلة قد نجني الكثير من محاولة الفهم، واستثمار الواقع السياسي والتنافس العالمي بين القوى لخدمة قضايانا.
- مستقبل العلاقة مع الغرب:
إن مراجعة تاريخ العلاقة مع الغرب يشهد أن هذه العلاقة مرت بتغيرات وتقلبات كثيرة ومتباينة. أحياناً كانت العلاقة تنطلق من مبادئ الحوار والتفاهم، وأحياناً أخرى كان الصدام والصراع تحت شعار الدين أو الاستعمار هو سمت هذه العلاقة. والعلاقة اليوم مع الكيان الغربي تحمل بذور جميع المراحل السابقة، وبإمكاننا أن نغذي وننمي الصورة التي نريد لهذه العلاقة، وليس بالضرورة الصورة التي يفرضها علينا الآخرون.
الكثير يعتقد أن مستقبل العلاقة مع الغرب سيؤول إلى الصراع دون شك، وقد يكون ذلك صحيحاً، ولكن لماذا نحرق المراحل ونستبق التاريخ والأحداث؟ ولماذا لا نستثمر الواقع استثماراً أفضل مع بقاء الحذر في العلاقة والتروي في فهم الآخر؟
إن قراءة السيرة الإسلامية والاستشراف النبوي للمستقبل يقطعان أنه سيأتي زمان يتقبل فيه أبناء الغرب معتقدات هذه الأمة ودينها وثقافتها، ولن يحدث ذلك رغماً عن أبناء الغرب بل برضاهم وقبولهم؛ فأمتنا لا تفرض معتقداتها أو أفكارها على غيرها.
قد تخضع الحكومات والدول لسيطرة غيرها بمنطق القوة والسلاح، أما الشعوب والأفراد والإنسان الغربي فإنه لن يقبل مقومات الحضارة الحقيقية لهذه الأمة والمستمدة من دينها إلا مختاراً طائعاً.
إن للحوار والتفاهم مكاناً هاماً في العلاقة مع الغرب، ليس فقط من أجل المسوغات الاستراتيجية والسياسية، وإنما أيضاً من أجل النضوج في الرؤى الدعوية، وتطوير أساليب تقريب الآخرين من المفاهيم الفكرية والدينية الأساسية لهذه الأمة. ولم ينهنا الخالق عن حُسن التعامل مع من لا يكنُّون لهذه الأمة العداء أو يحاربونها في معتقداتها، وما أكثرهم في عالم الغرب!