للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

دراسات شرعية

المنتقدون على الصحيحين والرد على عليهم

بقلم: أحمد بن حسن آل عامر

ما من كتاب ألّفه أحد من البشر إلا وقد تعرّض للنقد، فلم يسلم من النقد أحد،

وهذا النقد قد يكون صواباً وقد يكون خلاف ذلك، ومن أجلّ الكتب التي تعرضت

للنقد صحيحا البخاري ومسلم.

والذين انتقدوا الصحيحين على صنفين:

الصنف الأول: بعض المعاصرين، وأكثرهم من المبتدعة، كأهل المدرسة

العقلية، والإباضية، والشيعة، وهؤلاء ردوا كثيراً من الأحاديث التي في

الصحيحين؛ لأنها تخالف مذاهبهم أو لا توافق عقولهم وأهواءهم [١] .

وهذا الصنف ليس هو موضوعنا؛ لأن نقدهم قام على أسس هاوية،

واختلافنا معهم غالباً يكون في منهج التلقي؛ مما يجعل الوصول إلى إقناعهم أمراً

صعباً جدّاً [*] .

الصنف الثاني: وهم الذين أتطرق إلى أقوالهم والإجابة عنها، وهم بعض

الحفاظ من أهل العلم ممن تأخروا عن البخاري ومسلم (رحمهما الله تعالى) ،

فاستدركوا عليهما بعض الأحاديث، وقد اعتبروا أن البخاري ومسلم قد أخَلا

بشروطهما فيها، وقد رد عليهم بعض العلماء ممن جاؤوا بعدهم، وهؤلاء نحسبهم

لا يريدون إلا الحق ويبحثون عن الصواب، ولا شك أن الرد عليهم يقتضي

دراسات علمية مطولة وأبحاثاً موثقة في علم الحديث، وهذا المقال مجرد إشارات

وتنبيهات ليس إلا.

وقد ذكر أهل العلم ك (ابن حجر العسقلاني) ، و (النووي) وغيرهما الذين

انتقدوا على الصحيحين، فكان أشهرهم ثلاثة:

الأول: الحافظ (أبو الحسن الدارقطني) (٣٨٥هـ) :

فقد استدرك وتتبع (البخاري) و (مسلم) ، فكان بذلك من المنتقدين، وصنف

في ذلك كتابين:

الكتاب الأول: (الإلزامات) : وهو كتاب ذكر فيه أحاديث يرى أنها على

شرط (البخاري) و (مسلم) ، أو على شرط أحدهما ولم يخرّجاها، وقد بلغت سبعين

حديثاً.

فهو بذلك يُلزم (البخاري) و (مسلم) بإخراجهما [٢] .

الجواب عن هذا النقد:

١- أن هذه الإلزامات من (الدارقطني) (رحمه الله) ليست بلازمة؛ لأن

(البخاري) و (مسلم) لم يلتزما أن يخرجا في صحيحيهما كل حديث صحيح، ولذلك

قال (البخاري) : لم أخرج في هذا الكتاب إلا صحيحاً، وما تركت من الصحيح فهو

أكثر، وصرح (مسلم) أنه ليس كل صحيح أخرجه [٣] .

٢- أن بعض هذه الإلزامات قد أخرج (البخاري) و (مسلم) ما يغني عنها من

طرق أخرى عن صحابة آخرين، وليس معنى هذا أنه لا فائدة من الطرق الأخرى، بل هي تُقوّي الحديث وتزيده صحة، ولكن ما ذكره (البخاري) و (مسلم) طريق

قوي لا يحتاج إلى طريق يقويه، وإن جاء طريق يقويه فهو خير إلى خير، ولكن

لا يُعتبر هذا نقداً.

وعلى هذا: لا يلزم (البخاري) و (مسلم) ما ألزمهما (الدارقطني) .

الكتاب الثاني: (التتبع) : وانتقد فيه (الدارقطني) من أحاديث الصحيحين

مئتي حديث، مما يرى أن له علة، وقد بلغت أحاديثه بالعد ثمانية عشر ومئتي

حديث [٤] .

الجواب عن هذا النقد:

أن هذه الاستدراكات من (الدارقطني) هي في الصناعة الحديثية لا في المتون، وليس معنى هذا أنه لا قيمة للانتقادات في الصناعة الحديثية، فرب محدث يرحل

من أجل سند الحديث الواحد، والمتن ثابت لديه من طريق آخر [٥] .

وقد كان منهج (الدارقطني) في التتبع يدور مع القرائن ولا يلتزم طريقاً معيناً، فأحياناً يرجح بالكثرة، وأحياناً بالحفظ، وقد توخى بمسلكه هذا طريق فحول

العلماء والنقاد، مثل: (عبد الرحمن بن مهدي) ، و (يحيى القطان) ، و (أحمد بن

حنبل) وأمثالهم [٦] .

الثاني: (أبو مسعود الدمشقي) (٤٠١هـ) :

ذكر (النووي) أن من المنتقدين (أبا مسعود الدمشقي) ، وأن له استدراكاً على

الصحيحين، وقد يكون المقصود بذلك: كتاب (أطراف الصحيحين) له، وهذا

الكتاب لا ندري هل هو مخطوط أم مفقود، وعلى هذا لا نستطيع الرد عليه؛ لعدم

معرفة ما الذي انتقده (أبو مسعود الدمشقي) على الصحيحين.

الثالث: الحافظ أبو علي الغساني (٤٩٨هـ) :

ألف كتابه (التنبيه على الأوهام الواقعة في الصحيحين من قِبَل الرواه) قسم

البخاري.

وموضوع كتاب (الغساني) (رحمه الله) هو التنبيه على الأوهام الواقعة في

الصحيح، وذلك فيما يخص الأسانيد وأسماء الرواة، والحمل فيها على الرواة عن

(البخاري) ، لا ممن هم فوق (البخاري) أو من (البخاري) نفسه إلا في مواطن قليلة.

فيقول (رحمة الله تعالى عليه) : (هذا كتاب يتضمن التنبيه على الأوهام

الواقعة في المسندين الصحيحين، وذلك فيما يخص الأسانيد وأسماء الرواة،

والحمل فيها على نقلة الكتابين عن (البخاري) و (مسلم) (رحمهما الله) وبيان

الصواب في ذلك) [٧] .

ومن خلال قوله (رحمه الله تعالى) فإنه لا يعتبر من المنتقدين كما ذكر ذلك

الحافظ (ابن حجر العسقلاني) عن (النووي) ؛ إذ إن الأوهام التي ذكرها ليست من

(البخاري) نفسه ولا ممن هو فوقه، وإنما هي من الرواة عن (البخاري) .

وعلى هذا يخرج (أبو علي الغساني) من المنتقدين على الصحيحين.

والخلاصة من هذا المبحث: أن الأحاديث الواردة في الصحيحين صحيحة،

لا مطعن فيها؛ ولذلك نقل (النووي) إجماع العلماء على صحة الأحاديث الواردة في

الصحيحين كما في كتابه (تهذيب الأسماء واللغات) .

ونقل الإجماع كذلك (سراج الدين البلقيني) ، وكذلك شيخ الإسلام (ابن تيمية) .. وغيرهم كثير، وأما ما انتقد به بعض العلماء على الصحيحين فقد أجاب عليها

العلماء كما ذكرنا سابقاً.

وفق الله الجميع إلى ما يحبه ويرضاه.


(١) مكانة الصحيحين، لإبراهيم ملا خاطر، ص ٣٠١.
(*) هناك دراسات لعدد من الباحثين والدارسين في مناقشة هذه الفئات، منها: كتاب (أعاصير في وجه السنة) ، للأستاذ (صلاح الدين مقبول) .
(٢) الإلزامات، للدارقطني، ص ١١٦، ٣٨١.
(٣) هدي الساري (مقدمة فتح الباري) ، لابن حجر العسقلاني، ص ٣٦٤.
(٤) التتبع، للدارقطني، ص ٣٨٢.
(٥) المصدر نفسه، بتحقيق الشيخ مقبل الوادعي.
(٦) بين الإمامين مسلم والدارقطني، للدكتور ربيع المدخلي، ص ٣٠.
(٧) التنبيه على الأوهام، لأبي علي الغساني، ص ٤٣.