قضايا ثقافية
التفكير العلمي والإبداعي..
حول التفكير: مقدمات عامة
(١/٣)
عبد الله بن عبد الرحمن البريدي
مدخل:
يجسد التفكير نعمة عظيمة وهبها الله تعالى للإنسان ليتعرف عليه ويعبده،
وليعمر الأرض ويقيم البناء الحضاري على هدي الرسالات النبوية. ولقد امتاز
الإنسان بها وتفرد عن بقية المخلوقات، وهي نعمة لا ينفك عنها إنسان عاقل، ولا
يتصور خلو الحياة الإنسانية منها لحظة من الزمن. ومن هنا تتجلى أهمية التفكير
في حياتنا الخاصة والعامة.. الدينية والدنيوية.. العلمية والعملية.. ومن هذه
الأهمية تنبثق ضرورة مراجعة أساليب التفكير السائدة، لتحديد ما إذا كانت قادرة
على تحقيق هدف العبودية الشاملة؛ أم أنها تحتاج إلى إعادة بناء وهيكلة؛ وذلك
بعد القيام بعملية هدم للأساليب المغلوطة، وفل للقيود الذهنية، وتكسير للحواجز
العقلية التي قد تعيق التفكير السليم والإنتاج الإبداعي.
والتفكير قضية معقدة من حيث ماهيتها، ومنهجيتها، وما يؤثر بها من الدوافع
النفسية الذاتية والعوامل البيئية الخارجية. إن التفكير في حقيقة الأمر ليس مجرد
منهجية جوفاء تهذر بها الألسنة، وتؤلف بها الكتب، وتنمق بها الدراسات، بل هو
ما يسترشد به الفكر، وما يضيء به العقل، وما تنجذب إليه النفس من خطوات
ذهنية، يحوطها انفعال صادق يروم العطاء والبذل، وتزحمها رؤى متناثرة،
استجلبها تعلّم فطن وتأمل حاذق.
وثمة أسئلة كثيرة تعوزها إجابات دقيقة، من خلالها يمكن تصحيح طرائق
التفكير واسترداد (العافية الذهنية) الكاملة، ومن ثم ترقية الأهداف ورفع الأداء،
كما أنها بدرجة ثانية تجسّد ما يحيط بعملية التفكير من تعقيد وإشكالية، وأهم هذه
الأسئلة ما يلي:
ما هو التفكير؟ وكيف يفكر الإنسان؟
هل ثمة عوامل تنضج التفكير وتخصبه، وأخرى تفسده وتسطحه؟
لماذا يبدو أحدنا مندفعاً في قضية دون أخرى؟ ! ! وفي وقت دون آخر؟ !
ما علاقة اللغة بالتفكير؟ وهل نستطيع أن نفكر بدون لغة معينة؟
ألا يمكن أن تمارس حواسنا خداعاً لنا في عملية الإدراك التي تسبق عملية
التفكير؟
هل تؤثر العوامل البيئية على التفكير إيجاباً أم سلباً؟
كيف يؤدي التفكير بالإنسان إلى النجاح بعد توفيق الله تعالى؟
أيمكن اكتساب التفكير العلمي بالتعلم والممارسة أم أنه فطري جِبِلّي؟
ما مدى انسجام التفكير السائد مع التفكير العلمي؟
لماذا لا نستفيد في بعض الأحيان عندما نفكر جماعياً؟ !
ما هو التفكير الإبداعي؟ وهل يمكن تحول الإنسان إلى مبدع؟ وكيف؟ !
بإيجاز مشوب بشيء من التفصيل، يحاول هذا الموضوع أن يتلمس إجابات
لما سبق، مصاغةً بقالب يرجى أن يكون واضحاً، ومدعمة بأمثلة تطبيقية.
قبل المضي قدماً:
أود لفت نظر القارئ الكريم قبل قراءة هذا الموضوع إلى ما يلي:
١- أن القراءة في موضوع كالتفكير يجب أن تتلبس بتركيز شديد.
٢- أهمية إعادة قراءة بعض أجزاء الموضوع التي يشعر القارئ بأهميتها،
أو على الأقل تلك التي طولب بإعادة قراءتها.
٣- ثبت علمياً أن التفكير لا يمكن أن يكتسب من خلال قراءة عجلى وتفاعل
بارد، بل لا بد من القراءة المتأنية والتفاعل الجاد مع التطبيقات المبثوثة في ثنايا
الموضوع، والتقيد الدقيق بخطواتها المحددة.
٤- أهمية الربط بين أجزاء الموضوع وحلقاته، وذلك بإعادة قراءة
الموضوعات السابقة التي تعتبر تمهيداً لموضوعات لاحقة.
٥- ضرورة الاعتقاد بأن التفكير السديد المنتج مهارة يكسبها التعلم وعادة
يصنعها التدرب..، والإيمان بخبر القرآن: [إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا
مَا بِأَنفُسِهِمْ] [الرعد: ١١] .
الوحي يحث على التفكير:
ثمة نصوص قرآنية كثيرة تحث على التفكير والتفكر، وتعلي من شأن العقل
والعقلاء؛ فلقد وردت مادة (فكر) في القرآن الكريم (٢٠) مرة بصيغ مختلفة، منها:
قول الله تعالى: [كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ]
[البقرة: ٢١٩] [أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِم] [الروم: ٨] وقوله: [فَاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ] [الأعراف: ١٧٦] [١] .
كما جاء في الكتاب العزيز صيغ أخرى تؤكد على أهمية التفكير، كما في
قوله عز وجل: [إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ
لأُوْلِي الأَلْبَابِ (١٩٠) الَذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلََى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي
خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] [ال عمران: ١٩٠، ١٩١] ، وقوله: [كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ
لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ] [البقرة: ٢٤٢] ، وقوله: [ ... انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ
الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ] [الأنعام: ٦٥] ، وقوله: [يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ
الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ] [البقرة: ٢٦٩] .
ماهية التفكير:
فكر في الأمر: أعمل العقل فيه، ورتب بعض ما يعلم ليصل به إلى مجهول، وأفكر في الأمر: فكر فيه فهو مفكر، وفكّر في الأمر: مبالغة في فَكَرَ وهو أشيع
في الاستعمال من فَكَرَ، فالفكر: إعمال العقل في المعلوم للوصول إلى المجهول.
والتفكير: إعمال العقل في مشكلة للتوصل إلى حلها، الفِكَر: جمع أفكار، وهي
تردد الخاطر بالتأمل والتدبر بطلب المعاني [٢] .
هذا في اللغة، أما في الاصطلاح فلعله من المناسب أن أتجاوز إشكالية
التعريف التي تحيط بهذا المصطلح إلى التعريف الذي أرتئيه للتفكير وهو:
«العملية الذهنية التي ينظم بها العقل خبرات ومعلومات الإنسان من أجل اتخاذ قرار معين إزاء مشكلة أو موضوع محدد» .
ومن التعريف السابق نخلص إلى أن التفكير يتطلب:
قالباً ينتظم خبرات ومعلومات الإنسان.
مخزناً يحتويها ويحتفظ بها لحين استدعائها.
بيئة نفسية معينة ومحيطاً اجتماعياً محدداً (التفكير لا يمكن أن يحدث في
فراغ وإنما في بيئة ما) .
ولذا كان من الواجب أن أعرض لعلاقة اللغة والذاكرة والحالة النفسية من جهة، والتفكير من جهة أخرى؛ ذلك أن اللغة هي القالب الذي يشكّل الخبرات
والمعلومات، والذاكرة هي ذلك المخزن الذي يحتويها، والحالة النفسية
(سيكيولوجية التفكير) هي الجو الذي يتنفس فيه التفكير.
ثراء لغتك سبب في عمق تفكيرك:
ثمة علاقة عضوية متينة بين اللغة والتفكير، فاللغة هي القالب الذي ينصبّ
فيه الفكر، والفكر هو المضمون الذي يحتويه ذلك القالب اللغوي. ويعبر البعض
عن هذه الوشيجة بالقول بأن اللغة والفكر يعتبران وجهين لعملة واحدة.
يتعذر التفكير التجريدي (الذي هو في المعنويات لا في المحسوسات) في حالة
انعدام اللغة ويتسطح بضعفها؛ ذلك أنها السبيل الأوحد لتحويل التفكير الحسي (في
المحسوسات) إلى تفكير تجريدي نافع. ويستلزم التفكير العميق ثراءً لغوياً وعمقاً
في فهم دلالات وإيحاءات الكلمات المكونة للبناء اللغوي، وفي هذا المعنى يقول د.
محمد الشنيطي: «وليس من شك في أننا حين نفكر لا سبيل لنا إلى التفكير إلا في
لغة، ولا حيلة لنا إلى ضبط هذا التفكير إلا إذا كان القالب اللغوي واضح المعالم لا
يفضي إلى غموض ولا يدعو إلى لبس، ولا ينم عن قلق واضطراب ينعكس بالتالي
على تفكيرنا» [٣] .
ولتأكيد هذه الأهمية المتناهية للثراء اللغوي، أشير إلى أن التفكير في أي
مشكلة إنما يعتمد على مجموعة محددة من الكلمات والمصطلحات، وبدهي أن من
كان فهمه أعمق لهذه الكلمات والمصطلحات فإن تفكيره سيكون أعمق وأنضج،
فهب أن مشكلة ما تعتمد على الكلمات التالية:
أناس حق واجب استطاعة كذب صدق حرية دقة ضوابط حوافز نجاح تحقق
ذات استشعار المسؤولية اجتهاد صواب خطأ استئناف العمل ثقافة أزمة إدارة.
ومن هنا فإن كل من يتفهم هذه الكلمات والمصطلحات، بجانب سيرورة
تفكيره وفق المنهج العلمي سيكون أحظى بالصواب وأظفر بالنجاح بعد توفيق الله
تعالى له من كل من تتمنع عليه هذه الكلمات، وتتشوه في عينيه هذه المصطلحات!
[يمكنك لاحقاً مراجعة معنى ما يلي: الصدق، تحقق الذات، الاستئناف] .
ولقد أثبتت بعض الدراسات قوة العلاقة بين اللغة والتفكير؛ حيث اكتشفت
دراسة متخصصة أن لغة قبيلة هوبي الهندية لا تحتوي على صيغة الماضي
والمستقبل، وإنما تحتوي فقط على صيغة الحاضر، ولذا فإن أفراد هذه القبيلة
يتكلمون كل شيء وكأنه يحدث الآن، مما أثّر على تفكيرهم! ! [٤] .
التفكير السليم وعاؤه ذاكرة جيدة:
سبق أن أسلفت أن التفكير عملية ذهنية ينظم بها العقل الخبرات والمعلومات
من أجل اتخاذ قرار معين، ومن هذا التعريف نخلص إلى أهمية الذاكرة لهذه العملية، ذلك أنها المخزن الذي يحوي تلك الخبرات والمعلومات التي يستخدمها العقل
الإنساني في التفكير، ومن هنا تبرز أهمية التعرض لآلية الذاكرة، وكيفية تفعيلها
بقدر معقول من التفصيل بحيث يسهم في تعميق التفكير وتسهيل مهامه وتسريع
عمله.
تنقسم الذاكرة إلى [٥] :
١- مخزن المعلومات الحسي: ولا تستطيع الذاكرة الاحتفاظ بالمعلومات في
هذا المخزن بما يتجاوز ثواني؛ فعند سيرك في شارع عام في سيارتك تلحظ لافتات
المحلات عن اليمين والشمال، وتجد أن تلك المعلومات لا تلبث أن تزول.
٢- الذاكرة قصيرة المدى: وهي التي تحتفظ لمدة ساعات بالمعلومات التي
يشعر الإنسان بأهمية تخزينها وبضرورة اصطحابها على الدوام؛ فأنت عندما تسأل
عن رقم هاتف لا تحتاج الاتصال به إلا مرة واحدة تجد أنك تردده في نفسك بضع
مرات لكي تتمكن من تخزينه في ذاكرتك القصيرة حتى تنهي الاتصال، ثم لا يلبث
هذا الرقم في تلك الذاكرة إلا لمدة تتناسب مع تقديرك لأهميته في المستقبل القريب.
٣- الذاكرة طويلة المدى: وهي التي تحفظ لمدة طويلة المعلومات التي يبذل
الانسان في سبيل تخزينها جهداً كبيراً ويمضي وقتاً طويلاً، ويعتقد بعض علماء
النفس أن تلك المعلومات يستديم وجودها في تلك الذاكرة؛ بمعنى أنها لا تزول
بمرور الوقت، والحقيقة أنه قد تزول وتتشوه بعض أجزائها، إلا أن الجزء الأكبر
يبقى على سبيل الدوام. ويجب التنبيه إلى أن عدم استرجاع معلومة من تلك
المعلومات في لحظة معينة لا يعني عدم وجودها، وإنما يعني فقط عدم مناسبة
طريقة الاسترجاع، ولوجود اضطرابات نفسية معينة.
وتمر آلية التذكر بالمراحل التالية:
١- استقبال المعلومة المراد تخزينها في أيٍ من أقسام الذاكرة وفق ما سبق
تفصيله، ويجب أن تتعود على التركيز عند استقبالك للمعلومات.
٢- ترميز تلك المعلومة وذلك بإعطائها رمزاً معيناً تستدعى من خلاله عند
الحاجة إليها، وتعتبر هذه المرحلة الأخطر والأهم؛ فكلما كان ترميزك للمعلومة
أدق وأوضح كلما استطعت أن تخزّن المعلومة لمدة أطول وتسترجعها بطريقة أسرع.
هل تتذكر من قتل الآخر ... قابيل أم هابيل؟ قد تتذكر بسرعة وقد لا تتذكر
بسرعة، بل قد لا تتذكر مطلقاً؟ ! لكن أرأيت لو أنك تعوّدت على ترميز معلوماتك
بصورة دقيقة، كأن تقول في نفسك عند سماعك أو قراءتك لهذه المعلومة لأول مرة
ومعرفتك بأن قابيل هو القاتل: قابيل هو القاتل.. ق ق (البدء بحرف القاف) ، هل
تعتقد انك ستنسى تلك المعلومة؟ ! وخذ مثالاً آخر.. عند استماعك للرقم الجديد
لهاتف صديقك حاول ترميزه بشكل منطقي، فبافتراض أن الرقم هو ١٥٤٥/٢٤٠.. سيبدو لك ذلك الرقم صعباً في البداية! لكن ماذا لو قلت ٢٤٠ ... قبل وفاة الإمام
أحمد رحمه الله بسنة واحدة، ١٥٤٥ ... بينه وبين نهاية الحرب العالمية الثانية
٤٠٠ سنة! ! وكذلك بالنسبة للتواريخ، فإنك تستطيع أن تثبت تواريخ معينة في
كل قرن أو قرنين لتصبح كالأوتاد الذهنية التي تشد بها غيرها.
ومن طرق الترميز الجيدة استخدام الصور الذهنية، فمثلاً: هب أنك تريد
شراء قلم ودفتر من المكتبة، وخبز وقشطة ولعبة لطفلك الصغير من الدكان، فإنه
يمكنك حينئذ أن تتخيل نفسك أنه بعد تناولك للإفطار قمت بكتابة موضوع عن لعب
الأطفال! !
٣- تخزين المعلومات في خلايا الذاكرة التي يبلغ تعدادها ما يقارب ١٠
مليارات خلية، كل خلية تستوعب ١٠٠ ألف معلومة! ! كما دلت الدراسات
المعاصرة المتخصصة على أن الإنسان في المتوسط يخزّن ١٥ تريليون معلومة..
فما أعظم الخالق عز وجل وما أجهلنا بقدراتنا! !
٤- استدعاء المعلومة المطلوبة من خلال رمزها.
وثمة نوعان للذاكرة هما:
١- الذاكرة الدورية: وهي التي تعتمد على الترداد والتكرار وهي مفيدة في
حفظ النصوص المختلفة.
٢- الذاكرة المنطقية: وهي التي تعتمد على الترتيب والربط المنطقيين، كما
في الأمثلة السابقة، ويجب أن تفعّل دور هذه الذاكرة بقدر استطاعتك.
وأخيراً لماذا ننسى؟
ثمة أسباب أربعة بل خمسة تؤدي إلى النسيان هي:
١- ضعف انطباع المعلومة (الصورة الذهنية) في الذاكرة لضعف التركيز!
٢- عدم تثبيت المعلومة بعد تخزينها إلا بعد وقت طويل.
٣- تداخل المعلومات بعضها على بعض.
٤- طرد المعلومات غير السارة (الكبح في علم النفس) !
٥- تجاهل ما أوصى به (وكيع) من ترك المعاصي! !
سيكيولوجية التفكير:
التفكير عملية ذهنية تتأثر بالعامل النفسي سلباً أو إيجاباً، وبمدى الاقتناع
بالقضية محل التفكير، فإذا ما تمتع الإنسان بصحة نفسية رائقة حال تفكيره في
قضية توافرت أسباب اقتناعه بها، فإنه يندفع للتفكير فيها بحماس وانفتاح بطريقة
قد توصل إلى الحل المناسب بعد توفيق الله تعالى له، في حين أنه قد يعجز ذلك
الإنسان عن مجرد إقناع نفسه بأهمية استمراره في التفكير في تلك القضية في حالة
اعتلاله نفسياً! ! ويمكن تسمية تلك الحالة بـ «الانغلاق الذهني النفسي» ، وربما
يجد أحياناً أن لا مفر من هجر التفكير حينذاك والانهماك في عمل آخر ريثما تعاوده
صحته النفسية! !
كيف نفكر؟
على الرغم من كون التفكير عمل لا ينفك عنه إنسان حي، إلا أنه حقيقة
معقدة من حيث تفاصيلها وخطواتها، ويتفق علماء الجهاز العصبي على أن الدماغ
الإنساني هو أعقد شيء في كون الله الواسع [٦] ، غير أن هذا لا يعني استحالة
الإحاطة العامة بمثل تلك التفاصيل والخطوات بعيداً عن تعقيدات بعض المناطقة،
وسفسطة جُل الفلاسفة التي يمكن تلخيصها بما يلي:
١- وجود مثير في قوالب مختلفة تنجذب إليه عقولنا من خلال حواسنا
(الانتباه) . والعوامل التي تؤثر على قوة ذلك الانتباه ما يلي:
عوامل داخلية: كالدوافع، والقيم، والميول.
عوامل خارجية: كطبيعة المثير وقوته وموضعه ومدى حداثته.
٢- ترجمة ذلك المثير في المخ بمساعدة الذاكرة والمخيلة إلى رموز يدركها
العقل (أشخاص، أشياء، معاني) (الإدراك) [٧] .
٣- إعمال العقل لتلك الرموز من أجل الوصول إلى نتيجة معينة.
ويمكن تقسيم العقل البشري في ضوء العملية الذهنية التي يقوم بها إلى: [٨]
أ - العقل الواعي (الوعي) : وعن طريقه يمكننا إدراك الأشياء والمعلومات،
وتخزينها وربط بعضها ببعض على نحو مفيد، واتخاذ القرار بالفعل أو عدمه.
ب - العقل الباطن (اللاوعي) : وهو الذي يتحكم بالوظائف التلقائية
(اللاإرادية) ، وتخزين الأحداث ودفع الإنسان لممارسة ما اعتاد عليه (العادات) .
وهناك تواصل بين الوعي واللاوعي وتكامل في الأدوار.
ومن الشرود ما قتل:
كثير من الناس يشكون من «الشرود الذهني» أثناء تفكيرهم، مع أنهم
يدّعون مجاهدة أنفسهم للظفر بنسبة من التركيز تمكنهم من إنهاء عملية التفكير
بسرعة قبل أن يفترس الشرود بنات أفكارهم! !
فما هو التركيز؟ وكيف نظفر به؟
لا يعني التركيز كما هو شائع أن يبقى العقل عاكفاً على قضية واحدة، أو
حول فكرة واحدة، أو في مكان واحد، وإنما يعني تناول مشكلة أو موضوع
باستمرار ووضعه نصب عيني الشخص حتى يتم التوصل إلى نتائج معينة.
ويرجع أغلب التشتت الذهني إلى عدم الاقتناع بأهمية ما نفكر به، أو إلى أن هناك
ما هو أهم منه [٩] .
والآن كيف السبيل إلى التركيز؟
إذا رغبت في اصطحاب التركيز دائماً فعليك:
١- أن تعتاد على التركيز؛ فالتركيز هو عادةٌ قبل أي شيء آخر، كما أن
الشرود عادةٌ! فجاهدْ نفسك وكن صارماً مع الأفكار التي تحاول أن تصدك عن
تفكيرك، وقم بقطع حبالها قبل أن تخنقه، ولا تكن عينك رقيباً يجوب أطراف
المكان ويتعاهد أجزاءه، ولا تكن أذنك جهاز ترصّد للأصوات المشتتة! ! .
٢- أن تقتنع بما تفكر به، ثم تختار الوقت المناسب للتفكير.
٣- أن ترخي ذهنك وبدنك. وبعضهم يقول بأن عدم الاسترخاء أفضل
للتركيز، وقد يكون الرأي الأرجح أن الناس يختلفون في ذلك، فاختر الأنسب
لك [١٠] .
وثمة طريقة قد تؤدي إلى التركيز خاصة عند من يعانون من نوبات التشتت
المزمنة، وهي الإمساك بقلم والاستعداد لتدوين أمالي العقل وتدفقات الفكر، وهي
طريقة مجربة استخدمها بعض النابهين، وأشادوا بجدواها وأبانوا عن طيب نتائجها، وقد يشعر من يمسك بقلمه لتدوين أفكاره في حالات خاصة بأنها تتدفق بقوة دافعة، وحينئذ قد يحسن إلقاء القلم والاسترسال في عملية التفكير، ريثما تخف درجة
التدفق، ومن ثم معاودة التدوين، فإن في وسعك أنت تجريبها [١١] !
فيروسات يعتل بها تفكيرنا:
ثمة فيروسات خطيرة متناثرة في بيئتنا الثقافية بمنظوماتها المختلفة، أصابت
تفكيرنا بفقر الدم، وأذهاننا بالشلل، وعقولنا بالكساح، مما يظهر أهمية تفعيل جملة
من النصوص الشرعية في عقلنا الجمعي والفردي للاستشفاء والتداوي بها، والتي
من شأنها إجراء عملية (جراحة ذهنية) نتمكن بها من إزالة تلك الفيروسات وإزهاقها، كقوله تعالى في الحث على الثتبت والتحري: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا إن جَاءَكُمْ
فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فََتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ]
[الحجرات: ٦] ، وقوله: [إنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئاً] [يونس: ٣٦] ،
وقوله جل وعز في الحث على العدل ومجافاة الهوى: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا كُونُوا
قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إن يَكُنْ غَنِياً أَوْ
فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الهَوَى أَن تَعْدِلُوا وَإن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإنَّ اللَّهَ كَانَ
بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٣٥) ] [النساء: ١٣٥] ، وقوله تعالى في بيان سبب
المصائب: [وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ]
[الشورى: ٣٠] ، وقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في النهي عن الانتفاش
الكاذب: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، قيل: إن الرجل
يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً؟ قال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر
بطر الحق وغمط الناس» [١٢] .
ومع أهمية استحضار هذه النصوص وغيرها وتفعيلها في العقول، يجب
تعاهد تلك العقول بالتربية والإنضاج، والحزم في إزالة ما علق بها من تلك
الفيروسات لسبب أو لآخر، والجرأة في «الإنكار الذهني» على المعتلين
والمتلبسين بها، والديمومة في تذكير الغافلين أو المتغافلين! ! .
ومن أهم هذه الفيروسات ما يلي [١٣] :
١- التفكير القائم على أساس الهوى (اللاموضوعية) .
٢- التفكير القائم على مشاعر الكمال الزائف (الانتفاخ الذهني) .
٣- التفكير المستند على المواقف المسبقة (التحيز المسبق) .
٤- التفكير المبني على المشاعر وكأنها حقائق ثابتة (المراهقة الذهنية) .
٥- التفكير المبني على التمنيات وكأنها توقعات حقيقية (التوهم الذهني) .
٦- التفكير المتكئ على العادة (الجمود الذهني) .
٧- التفكير الذي يعتقد صاحبه دوماً أن جهة ما مسؤولة عن كل ما يحدث
(عقدة المؤامرة) .
٨- التفكير الذي يعتقد صاحبه أنه يستطيع دائماً أن يعرف ما يفكر فيه
الآخرون (الفراسة المتوهمة) .
٩- التعميم في التفكير من خلال رؤى محدودة غير كافية (الأرنبة الذهنية) .
١٠- التردد والبطء في التفكير (السلحفة الذهنية) .
١١- التردد والبطء في اجترار الأفكار (الاجترار الذهني) .
التفكير المعلّب:
أصحاب هذا اللون من التفكير هم أولئك الذي يستنتجون قواعد عامة من
حوادث شخصية، أو تجارب ناقصة، أو ملاحظات سطحية، فيخلصون منها إلى
تعميمات متسرعة، وأحكام جاهزة، وقوالب جامدة، وهم لا يعترفون بتغير
الظروف والملابسات، ... وترى الواحد منهم يسألك عن مسألة شائكة ويطالبك
بجواب يتلخص بنعم أو لا! ! ، وإذا خالفته قاطعك، وحسم القضية بقوله: «إن
المسألة كلها تتلخص في ... » ، ثم يصدر حكماً نهائياً ... وربما التفت إليك
مستطيلاً حديثك، مستغرباً عجزك عن حسم المسألة، ومستجدياً عينيك نظرة
إعجاب وإكبار على قدرته الفائقة على الحسم! ! .. إن نتائج تفكير أولئك أشبه ما
يكون بما نخرجه من جوف المعلبات التي نشتريها من الأسواق [١٤] ! !
تطبيقات عملية:
وقبل أن أعرض للمنهج العلمي في التفكير، ومن أجل استفادة تطبيقية أكيدة
من الموضوع، أرجو أن نفكر (فردياً وجماعياً) بشكل جاد ومكتوب ومتكامل في
إيجاد حل للمشاكل التالية:
التطبيق الأول: اكتشف الأستاذ أحمد مدير التسويق في شركة ناجحة أن ابنه
البالغ من العمر (١٦) سنة يتعاطى الدخان، وتفاجأ أحمد بمثل هذا الخبر، وبدأ
يتساءل.. حقاً إنها مشكلة خطيرة.. ولكن كيف؟ فأنا لا أتعاطاه ولا أحد إخوته!! ... ومضى في حيرته ... (مع العلم أن أحمد يمنح ابنه مصروفاً مدرسياً قدره
خمسة ريالات يومياً) .
التطبيق الثاني: أذهل الجميعَ ... الأستاذ حسن! كيف يطلب من مديره
الموافقة على انتقاله من القسم الذي خدم فيه طيلة ١٧ سنة، والذي أتقن جميع
الأعمال المتعلقة به لدرجة أصبح معها مرجعاً ومستشاراً!
حاول المدير ثنيه عن طلبه بحجة عدم وجود من يخلفه في قسمه، بالإضافة
إلى عدم إتقانه لأعمال القسم الآخر..
التطبيق الثالث: طلب المعلم من أحد تلاميذه الذي أخفق في الاختبار كشرط
لاجتياز المادة: أن يرسم خطين متساويين ويضع في طرفي الخط الأول رأس سهم، وفي طرفي الثاني مقلوب رأس سهم، وأعطاه مسطرة. فقام التلميذ برسم هذين
الخطين كما يلي:
<
> ... ... ... >