[اجتهاد أم تزوير؟!]
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
اللغط الذي أثارته إمامة المرأة وخطابتها في مدينة نيويورك أمر جدير بالتوقف عنده؛ فهو يُبرز أنماطاً مختلفة من التفكير والنظر إلى النوازل والمشكلات الحادثة. وثمة مسائل جديرة بالتأمل، ومنها:
أولاً: أن بعض الفقهاء والمفتين راح يفتي في المسألة، ويقرأ الحدث قراءة فقهية مجردة معزولة عن سياقها السياسي والفكري، ولا شك أنَّ بيان حكم الله ـ عز وجل ـ في مثل هذه النوازل أمر واجب على أهل العلم، لكن هل كان مبدأ المسألة اجتهاداً فقهياً متجرداً؟! وهل كان المنطلق مبنياً على رؤية شرعية؟!
الواقع أن المنطلق ليس كذلك؛ فهم لم ينظروا إلى النصوص الشرعية في الإمامة وأحكام الخطبة، ولم يكن المعيار الذي يركنون إليه هو تحري مراد الشارع الحكيم؛ وإنما انطلقوا من مبدأ تمكين المرأة، والمساواة بين الجنسين، وأن من مقتضيات الحداثة المعاصرة ـ زعموا! ـ تصدُّر المرأة في شتى الولايات العامة كالقضاء والوزارة والرئاسة ... ويدخل في ذلك الإمامة..!!
إذن القضية بإيجاز شديد ليست اجتهاداً فقهياً يستحق المدارسة، وإنما هي محاولة عبثية للتعايش والتقارب بتكلُّف ظاهر مع قِيَم الفكر الغربي، أو قل هي محاولة يائسة لخلخلة الثوابت، وإحداث بلبلة منهجية يتطاول فيها الرويبضات والسفهاء على دين الله عز وجل.
ثانياً: مع الأسف الشديد وجدنا بعض المنتسبين إلى الفقه والفتوى اندفع في مجاراة أولئك القوم، وراح يفتش في أقوال المتقدمين ما قد يظنه بعضهم مستنداً فقهياً. فبدل أن يتعامل هؤلاء بحزم أمام هذه الأطاريح العبثية المضللة، ويقطعوا السبيل أمام هؤلاء المفسدين، راحوا يلتمسون المعاذير ويستدرجون غيرهم لتسويغها والدفاع عنها.
والهزيمة إذا سيطرت على عقل الإنسان وملكت فؤاده، أصبح ألعوبة تهوي بها الريح يميناً وشمالاً..
يوماً يمانٍ إذا لقيتَ ذا يمنٍ
وإن يكن معدياً فعدنان
ثالثاً: أجرت بعض القنوات الفضائية وبعض المواقع على الشبكة العالمية (الإنترنت) استفتاءات لعامة الناس تستطلع آراءهم في حكم إمامة المرأة وخطابتها. وبغضِّ النظر عن نتائج تلك الاستفتاءات؛ إلا أن هذه الظاهرة غاية في الخطورة؛ فمتى كانت أحكام الفقه الإسلامي مجالاً للتصويت؟! ومتى كانت حدود الشرع تخضع لمجرد أهواء عوام الناس وتصوراتهم؟! وهل يصح أن يكون الفقه حِمىً مستباحاً يتعالم فيه من ليس له حظ من الأثر أو النظر..؟!
رابعاً: استثمر بعض العلمانيين هذا الحدث للمناداة بما يسمونه بتجديد الدين، وفتح أبواب الاجتهاد، وقراءة النصوص الشرعية قراءة حضارية مرنة متجردة عن الموروثات الفكرية، ويقولون: لماذا الإصرار على القديم والانكفاء على قوالب جامدة ما دام كل شيء من حولنا يتطور ويتغير بصورة مذهلة في كثير من الأحيان؟! ويزعمون أن فقهاءنا تعاملوا مع هذا الحدث بعقلية التحريم والرفض.. إلى نحو ذلك من الغثاء والزندقة التي لا تخفى على كل من له حظ من الدين والورع.
وأكبر معضلة تواجه غلاة العلمانيين في حربهم على الإسلام وأهله، هي (النص الشرعي كتاباً وسنة) ، ولهذا تجد أن المشروع الفكري لمحمد أركون، وفؤاد زكريا، ونصر أبو زيد، وأضرابهم هو محاولة ضرب هيبة وقدسية النص الشرعي، وقراءته على أنه وثيقة تراثية تاريخية، ليسهل عليهم وعلى أتباعهم بعد ذلك تحريفه وتزييفه.
إن من أهم خصائص هذا الدين الحنيف أن الله ـ عز وجل ـ تكفَّل بحفظ كتابه العزيز، ومن مقتضيات ذلك حفظ سنة سيد المرسلين #، ومهما تطاول المتطاولون عليها بالتحريف والتبديل فإن الله ـ عز وجل ـ سيقيِّض لها من كل خَلَفٍ عدولَه ينفون عنها تأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين، وتحريف الغالين.
وهذا يجعلنا نؤكد أن من أعظم ما يجب أن يُربى عليه أبناء الأمة: تعظيم الوحيين. قال الله ـ عز وجل ـ: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: ٣٦] ، وتعظيم حدود الله ـ عز وجل ـ وحرماته؛ {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ} [الحج: ٣٠] ، {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: ٣٢] .
وأحسب أن أكثر فساد المنحرفين عن الشرع المطهر من المنتسبين إلى الدين أو من محاربيه، إنما هو من التقديم بين يدي الله ـ عز وجل ـ ورسوله #. قال الله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عليم} [الحجرات: ١]