[المسلمون المنسيون في كمبوديا]
ناصر العروي اليمني
كمبوديا من الدول التي أنهكتها الحروب الطويلة في القرن الماضي، فلم تستقر أوضاعها السياسية إلاَّ من قريب؛ فإذا نظرت إلى عهود الاحتلال الأجنبي في القرن الماضي وما قبله؛ فإن كمبوديا إحدى ضحاياه والتي لم تسلم من اغتصاب أراضيها ونهب خيراتها؛ فقد تعرضت للاحتلال الفرنسي، ودام فيها من عام ١٨٦٣م إلى أن حصل الاستقلال على يد الملك الحالي لكمبوديا (سيهانوك) عام ١٩٥٣م؛ فقد تنازل له والده (نوردوم) عن الحكم، وقيل بطلب من الفرنسيين وهو صغير، فاستطاع بذكائه الحصول على استقلال بلاده بدون مواجهات عسكرية؛ على أن هناك بعض الثوار الذين عارضوا الوجود الفرنسي على أرضهم وقاوموه، ولكن لم تنجح ثوراتهم التي قوبلت بالقمع من قِبَل الفرنسيين، ومن ذلك الوقت استمر الملك (سيهانوك) ملكاً لكمبوديا إلى السبعينيات ثم انقلب عليه وزير دفاعه المسمى (لن نل) وأمسك بزمام الحكم في البلاد بدعم أمريكي حتى عام ١٩٧٥م، وفي ذلك الوقت إبَّان حكم (لن نل) دخل الجيش الأمريكي الذي كان يحتل فيتنام إلى كمبوديا، وتم طردهم على أيدي الشيوعيين الذين أطاحوا بحكم (لن نل) ، واستولوا على الحكم بعده في الوقت الذي كانت الشيوعية تنفث سمومها في كثير من بلاد العالم، وتغذي حركات التمرد والفساد على الأنظمة الحاكمة، فقامت عصابة السفاح الشيوعي (بول بوت) بالسيطرة على مقاليد الحكم، وعاثوا في الأرض فساداً، كما سيأتي في تفصيل مذابحهم. استمر حكمهم إلى عام ١٩٧٩م ثم تم طردهم بمساعدة الجيش الفيتنامي حتى استقروا في الغابات البعيدة، وتولى حكم البلاد بعدهم (هنج سمرن) إلى بداية التسعينيات، ولم تخلُ هذه الفترة من مواجهات مع الفارّين من عصابة الخمير الحمر الملتجئين إلى الغابات؛ فقد كانوا يشنون بعض الهجمات على الحكومة في فترة حكمه.
ثم بدأت الدولة عهداً جديداً من التطورات السياسية؛ ففي بداية التسعينيات كان دخول الديمقراطية إلى كمبوديا؛ حيث تم تشكيل الأحزاب، وجرت بعد ذلك الانتخابات لتعيين رئيس للدولة، وكانت الأحزاب الناشئة أكثر من عشرين حزباً، وأشهرها ثلاثة أحزاب هي: حزب الشعب، وحزب فونسمبك التابع لابن الملك، وحزب سيسان، وبعد إجراء الانتخابات فاز حزب فونسمبك برئاسة الوزراء، وقوبلت هذه النتيجة بالرفض من قِبَل حزب الشعب، الأمر الذي أدى إلى مواجهات عسكرية بين الحزبين، فدعا الملك الطرفين للمصالحة والتفاهم على الحكم، وعدم جر البلاد إلي حروب أهلية، وكان الحل الذي قدمه الملك أن يكون ابنه صاحب حزب فونسمبك الفائز بالانتخابات هو الرئيس الأول لرئاسة الوزراء، و (هونسين) أحد أعضاء حزب الشعب البارزين والرئيس الثاني لرئاسة الوزراء، واستمر الحال على ذلك حتى حلول الفترة الثانية للانتخابات في عام ١٩٩٦م، وقام (هونسين) بطرد ابن الملك، وانفرد برئاسة الوزراء إلى تاريخ كتابة هذه الأسطر؛ وذلك بعد مواجهات وقعت بينهما داخل العاصمة الكمبودية (فنوم بنه) . والجدير بالذكر أن الانتخابات الأولى قامت بإشراف الأمم المتحدة، ثم تولى (رانارد) ابن الملك رئاسة البرلمان وما زال على ذلك إلى يومنا هذا.
أمَّا مآل الأحزاب السياسية المتعددة، فقد تقلص أكثرها، وأشهرها اليوم على الساحة السياسية حزب الشعب الحاكم التابع لرئيس الوزراء هونسين، وحزب فونسمبك التابع لابن الملك، وحزب سامرنسي المعارض. أما الملك (سيهانوك) الطاعن في السن فملكه فخري لا غير، وهو يتمتع باحترام الشعب له، وأصبح في أيامه الأخيرة يفضل العيش خارج مملكته في الصين وكوريا.
- المسلمون والعمل السياسي:
كان دخول المسلمين في المعترك السياسي بعد إخراج عصابة الخمير الحمر، ولكن مشاركتهم كانت محدودة في بعض الشخصيات، إلى أن تم إدخال اللعبة الديمقراطية والتعددية الحزبية في أوائل التسعينيات، فانخرط الكثير من المسلمين في هذه الأحزاب، وخاصة أكبر حزبين في البلاد وهما: حزب الشعب الحاكم، وحزب فونسمبك الحزب الثاني من حيث الأهمية، ومن المسلمين من يشغل بعض المناصب المرموقة ذات الأهمية؛ فهناك وزراء ونواب وزراء وأعضاء في البرلمان، ومجلس الشيوخ ومسؤولون وأفراد في الجيش، وصار هؤلاء المسؤولون يستقطبون أصوات المسلمين كلٌّ لصالح حزبه، ولم يستغلوا وجودهم السياسي لنفع الإسلام والمسلمين، بل ـ وللأسف ـ إن التفرق والتعصب الحزبي بين المسلمين أكثر مما هو عند غيرهم، فتجد بينهم من العداء والكراهية ما أفسد أخوة الإسلام وجعل بعضهم يعمل ضد الآخر، وأصبح عامة المسلمين ضحية لانتشار روح العداء الحزبي بينهم. والله المستعان. وغالب المسلمين يؤيدون حزب الشعب الكمبودي الحاكم.
- مذابح بول بوت: (الخمير الحمر) :
إنها المذابح الفظيعة التي لم يسمع عنها العالم كثيراً، وقد تُعدُّ أحد أكبر أحداثه في القرن الماضي، فعصابة الخمير الحمر الشيوعية التي يتزعمها السفاح المدعو (بول بوت) خرجت إلى الساحة الكمبودية في زمن كان فيه للشيوعية الحمراء صولة وجولة في كثير من بلدان العالم؛ هذه العصابة السفاحة الأثيمة التي لا زالت قضيتها يكتنفها الكثير من الغموض رغم مرور ما يزيد على عشرين سنة من طردها خرجت باسم برنامج الإصلاح الزراعي، ورفع مستوى البلد زراعياً والقضاء على الملكية الخاصة، كما رفع هذا الشعار في بلدان أخرى في ذلك الوقت.
استولت هذه العصابة على الوضع في كمبوديا ما بين عام ١٩٧٤ ـ ١٩٧٩م، سنوات قليلة مرت على الناس كقرون مديدة لاقى فيها الشعب الكمبودي ما لا يُرى في الأحلام من النَّكال، وإن الإنسان وهو يتكلم عن أعمال هذا السفاح ليتساءل: هل كان هدفه السيطرة على زمام الحكم؟! فقد حصل له ذلك! أم أن هدفه إبادة شعب من على وجه البسيطة؟! هذا السؤال الذي تحير الكثير في الجواب عنه. أعمال وحشية تشيب لها مفارق الولدان عانى منها الشعب الكمبودي إبَّان تسلط العصابة البائدة على مقاليد الحكم في البلد.
لقد سمعتُ الكثير وقرأت عن مذابحهم وما قاموا به من التدمير الكلي للبلد والقضاء على الإنسان وإلغاء أي دين على الأرض الكمبودية؛ بل قد رأيتُ بأم عيني صوراً وآثاراً لتلك المجازر البشرية؛ فقد قمنا بزيارة متحف في العاصمة (فنوم بنه) يطلق عليه متحف (بول بوت) نسبة إلى زعيم الخمير الحمر وحامل لواء برنامج الإبادة الجماعية، هذا المتحف كان في السابق مدرسة كبيرة في العاصمة، ثم حُوِّل إلى سجون ومعتقلات وزنازين لتعذيب الناس، ثم أصبح بعد زوال هذه العصابة متحفاً يحوي العديد من الصور لبعض الأعمال التي قاموا بها من تقتيل وتعذيب تقشعر له الأبدان، ويحوي كذلك بعض آلات التعذيب التي كان يستخدمها أولئك المجرمون. إن الزائر لذلك المتحف ليخرج منه بنفسية كئيبة لقبح ما يرى من مناظر الوحشية التي كانت في يوم من الأيام تقام فيه، مع أن الحكومة أزالت الكثير مما يحوي هذا المتحف لأسباب تخصها.
لقد استهدفت هذه العصابة المثقفين وأصحاب الخبرات والشهادات بشكل خاص وإبادتهم وذراريهم إلا من كتب الله له النجاة والهرب؛ ومن ذلك المسلمون؛ فقد قتل علماؤهم ومدرسوهم وجميع وجهائهم وكل من له علاقة بالتعليم. وقد سجلت إحصائية الذين هلكوا في تلك الأحداث بما يقرب من ٣.٠٠٠.٠٠٠ شخص ما بين مقتول بالتعذيب أو الموت بالجوع والأعمال الشاقة، والحديث يطول عن أحداث هذه الفتنة، فسأكتب بعض ما قاموا به على شكل نقاط:
١ - قاموا بتهجير سكان المدن، وخاصة العاصمة إلى القرى البعيدة للعمل في زراعة الأرز.
٢ - عطلوا كافة مرافق التعليم.
٣ - هدموا المصانع التي تقدر بخمسين مصنعاً. (هذا ما ذكر في تقرير عن هذه الأحداث في المتحف) .
٤ - أجبروا كل الناس على العمل معهم في وحدات زراعية في مختلف مناطق الدولة، ومن تمرد أو تخلف عن ذلك فعقوبته الإعدام، وقد يقتلون أسرته.
٥ - يكلفون الناس بأعمال شاقة لا تطيقها أعتى الحيوانات، ودون مقابل.
٦ - هلك معظم الناس جوعاً وهم يؤدون هذه الأعمال كما حدثنا بذلك الكثير من المسلمين الذين عايشوا تلك الأحداث.
٧ - يقتلون الناس لأتفه الأسباب، التي لا تستحق حتى السجن.
٨ - قاموا بالتفريق بين أفراد الأسرة الواحدة؛ فالأب في مكان، والأم في مكان آخر، وكذلك الأبناء.
٩ - قاموا بالخلط بين قرى المسلمين والكفار، وعملوا على دمجها وتداخلها.
١٠ - زوّجوا المسلمات بالكفار، والكافرات بالمسلمين.
١١ - أجبروا المسلمين على أكل لحم الخنزير، وشرب الخمور ومن أبى قتلوه.
١٢ - منعوا المسلمين من أداء العبادات كالصلاة والصوم، وقراءة القرآن، وغيرها.
١٣ - دمروا الكثير من مساجد المسلمين وبعضها جعلوه حظائر للخنازير، أو مخازن للسلاح.
١٤ - منعوا المسلمات من الحجاب (تغطية الرأس) ، وأجبروهن على لباس معين يستوي فيه الرجال والنساء يشبه الزي العسكري.
١٥ - منعوا المسلمين من التكلم بلغتهم الخاصة.
١٦ - كانوا يجندون أناساً لهذه الأعمال الوحشية، ومن ثَم يُقتلون، ويأتون بآخرين، وهلم جراً.
١٧ - هرب من استطاع الهرب في تلك الأيام إلى ماليزيا، وأمريكا، وفرنسا، وكندا، وغيرها من بلدان العالم.
١٨ - خلفت هذه الفتنة الآلاف من المعوقين بمختلف أنواع الإعاقة.
١٩ - كانوا يأخذون الأطفال الصغار إلى أماكن خاصة، ولا يتركونهم يختلطون بأهلهم.
٢٠ - كذلك دمروا العديد من المعابد البوذية، وجعلوا بعضها مقابر جماعية.
٢١ - اكتُشف العديد من المقابر الجماعية في كثير من المناطق.
٢٢ - وهناك خريطة لكمبوديا من الجماجم التي خلفتها هذه الفتنة في متحف (بول بوت) .
٢٣ - فرضوا على جميع الناس الأكل من مطاعم عامة.
- أصول المسلمين وعددهم:
يعرف المسلمون في كمبوديا بالجوى فهم أصلاً من إندونيسيا وماليزيا، وبالتشامبيين نسبة إلى جنسهم التشامبي، فالخمير الحمر البوذيون يطلقون على المسلمين هناك إحدى التسميتين إما: يقولون عنهم (إسلام) بمعنى مسلمين، وإما يقولون عنهم (تشام) ، إذ إن مسلمي كمبوديا ليسوا أصلاً منها؛ فأصولهم تعود إلى دولة قد انقرضت من الوجود، ومسحت من خريطة العالم قبل قرنين من الزمان تقريباً، إنها دولة تشامبا التي كانت تقع على جزء من فيتنام اليوم، كانت هذه الدولة قائمة ولها سيادتها وشعبها، ثم جرت بينها وبين الفيتناميين حروب كثيرة، وكانت الحرب بينهم سجال، ثم في آخر وقعة بينهم انهزم التشامبيون، وهرب آخر ملوكهم من بلده لاجئاً إلى كمبوديا بعد طلبه حق اللجوء من ملك كمبوديا آنذاك، ورحب الأخير به وبمن معه من التشامبيين الفارِّين من الحرب، ومن بقي من شعبه تفرق في دول عدة كفيتنام، والصين، وماليزيا، وغيرها من بلاد تلك المنطقة، ومن ذلك الزمان استوطن أولئك التشامبيون أرض كمبوديا وعاشوا فيها وصاروا كمبوديين مع مرور الزمن؛ إلا أنهم يُعرفون بالتشام، وُيعرف الكمبوديون ذوو الأصل الخميري أنهم يختلفون عن جنسهم وكذلك الديانة.
حمل هؤلاء الملاويون والتشامبيون الإسلام معهم إلى كمبوديا، وحملته الأجيال التي خلفتهم من بعدهم مقتصراً عليهم خلال مدة مكثهم؛ إذ لم يدخل في الإسلام من الخميريين إلا القليل النادر، فالخميريون أهل ملة وثنية تعبد الأوثان، وترى أن ديانتها تختص بها، كما أن التشامبيين لهم دينهم الخاص بهم، وكذلك قلة الدعوة من المسلمين للكفار إن لم نقل عدمها.
والجدير بالذكر أن الكثير من المسلمين لا زالوا يتكلمون اللغة التشامبية الخاصة بهم. وينتشر المسلمون في معظم المحافظات الكمبودية، ولكنهم في المحافظات الشمالية أكثر منهم في الجنوبية، وعلى وجه التحديد محافظة (كمبونج تشام) ثاني أكبر المحافظات الكمبودية بعد العاصمة (فنوم بنه) وأكثر المسلمين يسكنون هذه المحافظة الواسعة المساحة الكثيرة السكان؛ ويستوطن المسلمون القرى في كل المحافظات التي يتواجدون فيها إلا القليل منهم يسكن المدن، وبُعدهم عن المدن خير لهم مع ما يفوتهم من المصالح الدنيوية لسكناهم في القرى، إلا أن بعدهم عن المدن جعلهم يحافظون على هويتهم الإسلامية، وأخلاقهم مع ما شابها من الانحراف والجهل، بخلاف من استوطنوا المدن أو قريباً منها من المسلمين، فقد تأثروا بأخلاق الكفار، وضعف الإسلام عندهم لمخالطتهم للكفار.
- تعداد المسلمين:
أما عدد المسلمين فيبلغ تقريباً نصف مليون مسلم، وهو ما يساوي ٥% من التعداد الكلي لسكان كمبوديا، إذ يبلغ ١١ مليوناً، مع أنه لا توجد إحصائية دقيقة لذلك؛ إذ يقول بعضٌ: إنهم يبلغون مليون نسمة، علماً بأنه قد قُتل من المسلمين ما يقرب من ٣٠٠.٠٠٠ مسلم في فتنة الشيوعي (بول بوت) ، وعصابته المشهورين بالخمير الحمر في السبعينيات.
- لغة التشام:
لغة (تشام) هي اللغة التي يتكلمها الجنس التشامبي المسلم الذي سكن كمبوديا قديماً، وهي مقتصرة عليهم لا يعرفها الملاويون والكمبوديون الخمير؛ إذ يتكلم بها المسلمون فيما بينهم وخاصة في قراهم ومساجدهم ومدارسهم، ويتكلم بها الآن نصف المسلمين تقريباً، أو أكثر؛ نظراً لاندثارها عند مسلمي المحافظات الجنوبية، لقلتهم ولاختلاطهم بالخمير، وغلبة اللغة الخميرية عليهم، وهذه اللغة في تناقص مستمر، واندراس خاصة عند فئة الشباب الذين يفضلون التخاطب باللغة الرسمية الخميرية، والمسلمون يتقنون التكلم بالخميرية بالإضافة إلى لغتهم.
والجدير بالذكر أن هذه اللغة تكتب بالحرف العربي بزيادة بعض الحركات عليها من غير العربية، وينشأ الصبيان على معرفة الحروف العربية؛ مع أنها تغيرت عن المخرج العربي الصحيح لعجمتها، وهي لا تستوعب جميع الحروف العربية لعدم وجود بعضها في لغتهم؛ مع أن الحرف الأصلي الذي كانت تكتب به هذه اللغة هو حرف أعجمي يشبه الحرف الكمبودي.
وقد تعرضت هذه اللغة إلى وأد من قِبَل عصابة الخمير الحمر، فقد مُنع المسلمون من التكلم بها أثناء تسلط الخمير الحمر على كمبوديا، وكانت عقوبة المتكلم بها الإعدام، وقد تأثرت هذه اللغة باللغة الخميرية في استخدام بعض الكلمات التي فقدها المسلمون منها على مر الزمن، والعجيب أن هناك من مسلمي الصين وفيتنام من يتكلم بها مع اختلاط بعض لغة هاتين الدولتين بها؛ وهذا يدل على هجرة مسلمي دولة تشامبيا المفقودة إلى هذه الدول وغيرها.
ولها علاقة قوية باللغة العربية ليس من حيث كتابتها بالحرف العربي فحسب، بل من حيث استخدام بعض الكلمات والمصطلحات العربية فيما يتعلق بالكلام عن الإسلام؛ فكثير من المصطلحات الشرعية لا تترجم، بل تنطق كما هي، وبعضها قد يُغيَّر فيه شيء يسير؛ ومن ذلك على سبيل المثال: رسول، نبي، ملائكة، علماء، هداية، نعمة، سنة، بدعة، نكاح، وغيرها كثير.
كما أن اللغة التشامبية اقتبست بعض الكلمات من اللغة الملاوية لغة الملايو مسلمي ماليزيا وإندونيسيا؛ بحكم الترابط الديني بينهم؛ إذ تُعدّ ماليزيا المرجعية الدينية عند مسلمي كمبوديا.
وبحسب رأيي فإن هذه اللغة قد تلفظ أنفاسها عما قريب ما لم يهتم بها المسلمون؛ وذلك لعدة أسباب:
١ - أن اللغة الرسمية الخميرية طغت عليها، وأصبح أبناء المسلمين يتكلمون بها، ويدرسونها في المدارس، وكذلك ما تقوم به وسائل الإعلام من دور كبير في ذلك.
٢ - أن هذه اللغة غير معترف بها، ولا معتبرة رسمياً، وإنما تُعدّ دارجة عند التشامبيين.
٣ - أن فئة الشباب والمثقفين من المسلمين يفضلون التكلم باللغة الرسمية الخميرية.
٤ - أن هذه اللغة ليس لها قواعد، ولا كتب تتكلم عنها؛ فهي معرضة للزوال في يوم من الأيام.
- صرخات التوحيد تعلو في ظلمات الشرك:
سبق أن ذكرنا أن غالب سكان كمبوديا يدينون بالبوذية، وأن نسبة المسلمين فيها قليلة جداً في خضم الشعب الوثني الكافر؛ فقرى المسلمين تشكل نقاطاً بيضاء متناثرة هنا وهناك في ورقة سوداء مظلمة.
إن مظاهر الكفر وعبادة غير الله، وانتشار طقوس البوذية في ربوع كمبوديا من معابد، ومجامع لتأليه البشر، وأصنام ثابتة، ومتجولة تجعل النفس المؤمنة بالله وحده تشعر بالكآبة من تلك المظاهر الكفرية؛ فالمعابد البوذية منتشرة كانتشار المساجد في ديار الإسلام ترفع هتافاتها، وترانيمها، وغناءها الصاخب صباح مساء؛ يأوي إليها قطعان من الرهبان الذين حبطت أعمالهم، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
كم يأخذ الحزن والحسرة في نفس المؤمن حين يرى ما لا يرضي الرب ـ عز وجل ـ من عبادة للأصنام والأوثان!
- المساجد:
لا تخلو قرية من قرى المسلمين المتناثرة في كثير من المحافظات من وجود مسجد بها أو أكثر بحسب حجم القرية، كوجود مسجد جامع وآخر مصلى، والذي يطلقون عليه «سوراوا» ، وبعضها قد يكون مصنوعاً من الأخشاب تراه وقد عفا عليه الزمن وأكلته الأَرَضة، وبعضها الآخر قد يبدو جميلاً في منظره وهيئته، وهذا يعود إلى مصدر تمويل بناء المسجد؛ فبعض القرى لا يوجد بها إلا مساجد مصنوعة من الأخشاب المتآكلة قام ببنائها أهل تلك القرية، وبعضها قد يكون على نفقة بعض المغتربين الكمبوديين في أمريكا، أو ماليزيا، وربما من بعض المؤسسات الإسلامية الخارجية، وبعض المساجد بناها ملك كمبوديا!
ومساجد المسلمين التي في القرى يُسمح لها برفع الأذان بمكبرات الصوت؛ أما عواصم المحافظات فلا يوجد فيها مساجد، لكن هناك قرى مجاورة لها في الغالب، إلا في العاصمة الكمبودية (فنوم بنه) فيوجد مسجدان أحدهما يطلق عليه الآن (مسجد دبي) ، وهو أكبر المسجدين، وأشهرهما عند المسلمين ويرجع تاريخ بنائه إلى الستينيات؛ حيث اقترح أحد الرؤساء المسلمين على الملك (سيهانوك) أن يبنيه في العاصمة فأراد الملك بناءه وفعلاً بدأ تأسيس قواعد المسجد، ثم جاءت أحداث الحروب والانقلابات التي لم يستقر الوضع بعدها إلا في التسعينيات، وظل المسجد غير مكتمل البناء حتى تم بناؤه في بداية التسعينيات بتمويل من بعض المحسنين من دبي، ولذلك سمي مسجد دبي.
والمسجد الثاني في العاصمة قام ببنائه بعض المسلمين الباكستانيين المغتربين في كمبوديا، ولا زال يشرف عليه أحد أبنائهم الذي أصبح كمبودياً، ويسمى هذا المسجد (مسجد سعد بن أبي وقاص) . وللمسلمين عناية بترتيب أمور المساجد فيجعلون في كل قرية إماماً، وخطيباً، ومؤذناً ويطلق على المؤذن (بلال) ، وهذا في جميع مساجد المسلمين، كما يخصصون قيِّماً يقوم على شؤون المسجد، ويتولى جمع الصدقات لحاجات المسجد، وخاصة في الأعياد والمناسبات الدينية، بالإضافة إلى الإشراف العام لحاكم القرية على كل ما سبق.
وتوجد بعض العادات عند المسلمين في المساجد، وهي تجسد مدى الجهل الذي وصلوا إليه؛ فمنها: أنهم يتخذون في بعض المساجد طبلاً كبيراً يُجعل في ساحة المسجد لإعلان عن اقتراب وقت الصلاة قبل الآذان، وكذلك يعلنون به في شهر رمضان عن دخول وقت الإفطار، ومنها: تدخين بعضهم في المساجد، أو في ساحاتها وهو أكثر، وكأن المسألة لا تعدو أكل بعض الأطعمة المباحة! وفي الآونة الأخيرة بدأت تتقلص هذه العادات شيئاً فشيئاً؛ فلله الحمد والمنة.
- الحالة المعيشية:
عند الحديث عن معايش الناس وأرزاقهم نعلم أن الله ـ تعالى ـ قد فاضل بين عباده في الرزق، والمعيشة، فمنهم الغني الموسر، ومنهم متوسط الحال، ومنهم الفقير المعدم لحِكَم أرادها الله ـ عز وجل ـ ليس هذا مجال ذكرها، فمقصودنا من ذلك أن مسلمي كمبوديا يتفاوتون في حالتهم المعيشية، إلا أن الحكم الغالب عليهم أنهم فقراء ومساكين، وإذا جئنا نفصل في هذه المسألة فسنجد أن المسلمين على مراتب من حيث الحالة المعيشية:
الفئة الأولى: وهم أصحاب المناصب السياسية في الحكومة، كالوزراء ونواب الوزراء، وأعضاء البرلمان ومجلس الشيوخ، ومن على شاكلتهم، وكذلك أصحاب التجارات الكبيرة وهم قلة.
الفئة الثانية: وهم المغتربون في الخارج كماليزيا، وأمريكا، وفرنسا، وغيرها.
الفئة الثالثة: وهم ممن يشتغلون بالتجارات البسيطة ومن لهم مهن يستفيدون منها كالجزارة، والحدادة.
الفئة الرابعة: الغالب من المسلمين وهم الذين يشتغلون بزراعة الأرز، وبعض المزروعات كالخضروات، والذرة الشامية والمطاط، وهي زراعة ضئيلة جداً.
الفئة الخامسة: وهم الصيادون ومعظم المسلمين يندرجون تحت الفئتين الرابعة، والخامسة؛ فالساكنون على ضفاف الأنهار يعملون في صيد السمك النهري، والساكنون في المناطق البعيدة عن الأنهار يقومون بزراعة الأرز، وبعض الخضروات والفواكه.
هذه التقسيمات ـ الآنفة الذكر ـ من خلال واقع عايشته بين ظهراني المسلمين ما يقرب من ثلاث سنوات، وقد لاحظت أن حالة المسلمين المعيشية أسوأ من الكفار؛ لأسباب منها: جمود المسلمين على أعمالهم الموروثة، كالصيد، وزراعة الأرز، وعدم التفكير في أعمال أخرى من شأنها رفع مستواهم المعيشي المتردي، وكذلك صعوبة مواصلة التعليم عند أبنائهم.
- الحجاب:
لقد مرت سنوات طويلة وهذه الأقلية المسلمة متمسكة بسماتها، وشعائرها الإسلامية؛ فرغم الجهل الشديد الذي يعيشه أبناء هذه الأقلية بدينهم، وآدابه، ووجودهم في وسط كافر، متفسخ تتبذل نساؤه مظهرة لمفاتنها، وتتبرج تبرجاً مخزياً، وهذه طبيعة الكفار في كل مكان؛ حيث لا دين يردعهم، ولا أدب يردهم، إلا أن نساء مسلمي كمبوديا لا زلن يحافظن على لباسهن، وحجابهن الإسلامي على ما فيه من قصور، ومخالفات سَبّبها القرب من الكفار، والتأثر بهم.
إن المرأة المسلمة تتميز عن نساء الكفار بتغطية رأسها بالزي الإسلامي الذي يشمخ المسلم حين يراه معلناً أن الإسلام قد وصل إلى هذه الديار النائية. يوم أن تتقلب في أماكن تواجد المسلمين لا ترى مسلمة قد نزعت حجاب رأسها في الغالب؛ وكم تُسرّ يوم ترى الصغيرات وقد لبسن الحجاب على الرغم من صغر سنهن، حيث لم يبلغن سن التكليف؛ هذه الميزة الطيبة شاهدتها بنفسي في كل القرى والتجمعات المسلمة التي زرتها في عدد من المحافظات، وإن كان الحجاب لا يفي بالمقصود من حيث حجمه، ونوعه، إلا أن بقاء هذه الأقلية على ذلك يعد ميزة طيبة توحي بعظمة ديننا الحنيف الذي إذا خالط النفس البشرية كان من الصعب التنازل عن مبادئه وآدابه؛ حيث السفور والعري يحيط بها من كل اتجاه، وهي صامدة في طريقها. أما عن لبس الخمار والحجاب الشرعي الكامل فهناك قلة من النساء المسلِمات اللاتي يرتدينه.
- حاكم القرية:
من حيث التقسيمات الإدارية للمحافظات، والمديريات؛ والمناطق فقرى المسلمين داخلة ضمن ذلك؛ إذ كل قرية يُعين عليها رئيس يتلخص عمله فيما يتعلق بعلاقات الحكومة بالقرية، إلا أن المسلمين لهم خاصية جيدة تزيد من ترابطهم؛ وجمع كلمتهم؛ إذ يقومون باختيار شخص منهم؛ ليقوم بشؤون القرية فيما يتعلق بالقضايا الشرعية، ويطلقون عليه (حاكماً) باللغة العربية، ويشترط في اختياره أن تتوفر فيه بعض الشروط التي تمكنه من القيام بعمله على أحسن وجه، وعمله يتلخص في أنه هو المسؤول عن القرية من حيث حل المشاكل الأسرية، وفض النزاعات بين المتخاصمين من المسلمين، ويتولى القيام بعقود الأنكحة، وكذلك له مسؤولية إشرافية على المسجد، ومدرسة القرية الدينية، والسعي لحاجات المسجد والمدرسة، والقيام بتنفيذ المشاريع، ومتابعتها من الجمعيات الخيرية الإسلامية، والناس يحترمونه ولا يقطعون أمراً يتعلق بمصلحة القرية العامة إلا بعد إبلاغه بذلك، وليس له أبهة، بل هو رجل عادي متواضع لا تفرق بينه وبين غيره من الناس في حاله ومعيشته.
والحاكم إن كان فقيراً فراتبه يتقاضاه من أهل القرية، كالزكاة والصدقة ومن أعماله الإضافية، وقد يكون بعضهم من الميسورين فلا يحتاج إلى شيء من ذلك، وكل حاكم له نائبان: أول وثان يقومان مقامه في حال غيابه، ويساعدانه في القيام بالأعمال التي تتعلق بالقرية.
- التنصير في كمبوديا:
إن المنصِّرِين ـ كما هو معلوم ـ لا يألون جهداً في نشر دينهم المحرّف، والدعوة إليه في جميع أقطار الأرض، بطرق، ووسائل شتى منها المعلن، والخفي والمباشر، وغير المباشر، وكثيراً ما يستغلون فقر بعض البلدان؛ ليوجهوا دعوتهم إليها تحت مسميات ومضلات دولية؛ فينشروا أباطيلهم، ويدعوا إلى كل باطل تحت غطاء المساعدات الإنسانية.
إن التنصير في دولة (كمبوديا) له حركة كبيرة؛ إذ يبلغ عدد الجمعيات والمؤسسات التنصيرية ١٠٠ جمعية ومؤسسة، تنطلق من مقرها بالعاصمة الكمبودية (فنون بنه) قاطعة الغابات، والأحراش، والمستنقعات، لتصل إلى سكان القرى، والبوادي النائية؛ إذ يُركِّز المنصِّرون عليهم لفقرهم وحاجتهم إليهم، فيمدون إليهم يد المساعدة بثمن الدخول في النصرانية!
لم يكتف المنصرون بدعوة البوذيين، بل قد تجرؤوا على دعوة المسلمين، وخاصة القرى البعيدة والفقيرة، ولهم أساليب في دعوة المسلمين، وغيرهم من البوذيين؛ منها:
- بناء بعض العيادات الصغيرة، وصرف الأدوية المجانية منها، مع توزيع الكتب والنشرات على المرضى، ودعوتهم إلى الكنيسة.
- احتواء بعض الأسر الفقيرة، وصرف راتب شهري لها على أن تتنصر.
- احتواء الشباب عن طريق تعليمهم اللغة الإنجليزية مجاناً! وهذا يجعل الشباب يُقبلون عليهم.
- ممارسة الدعوة إلى النصرانية في المؤسسات التعليمية، كالجامعات، والمدارس التي يتواجدون فيها.
- عرض فيديو في بعض القرى يحتوي على برامج تخدم أهدافهم.
- كل من استجاب لهم يربطونه بالكنيسة، ويحددون لهم اجتماعاً كل يوم أحد يعلمونهم فيه النصرانية المحرفة.
- إذا لاحظوا أن قريةً ما استجابت لهم، أو حصلوا على نسبة من أهلها بنوا لأتباعهم كنيسة فيها.
- الكنائس:
يبلغ عدد الكنائس في (كمبوديا) ٧٠٠ كنيسة، وهذا العدد يُعَدُّ كبيراً في دولة بوذية تُعتبر من أكثر دول المنطقة تمسكاً بالبوذية، وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على الجهود الكبيرة التي يبذلها هؤلاء المنصرون لتنصير الشعب الكمبودي.
- الخطر القادم:
إن المشكلة التي نخشاها هي أن يتنصر الشعب الكمبودي. إن طبيعة علاقة المسلمين في كمبوديا مع الكفار البوذيين علاقة لا يشوبها كدر ولا تتخللها مشاكل؛ فالتعايش السلمي بينهم، كأن ليس بينهم فرق في الظاهر، وحسب علمي فإن المسلمين لا يتعرضون للأذى كما هو حاصل لبعض الأقليات المسلمة في بلدان أخرى؛ فهم يعاملون على أنهم كمبوديون، أي معاملة المواطنة بغض النظر عن الانتساب إلى الدين.
إن التاريخ خير شاهد على أعمال المنصرين في دول شرقية كإندونيسيا والفلبين؛ فيوم أن سعى المنصرون، وكرسوا جهودهم لتنصير هذين البلدين حصلوا على نتائج غير عادية، وأوقدوا نار الحرب والكراهية التي لم تَخْبُ حتى الآن؛ فكم تعرض المسلمون للقتل، والتشريد، وغير ذلك من الأعمال الوحشية على أيدي هؤلاء المتنصرين. إن التنصير حيث يضع رحاله يبث روح العداء ضد الإسلام والمسلمين على مر التاريخ.
إن ما نخشاه هو تنصُّر الشعب الكمبودي، ومن ثم محاربة الإسلام، ومضايقة المسلمين في دينهم، وعقيدتهم، وخلق المشاكل، والافتراءات ضد الدعوة الإسلامية في هذا البلد؛ إذ إن بوادر هذا العداء تظهر في بعض الأحيان على شكل كتابات صحافية لبعض الصليبيين تكيل التهم والافتراءات ضد الدعوة الإسلامية، ومراكزها، وتوصي الحكومة بأخذ الحيطة والحذر من الإسلام والمسلمين.