المسلمون والعالم
هل الغرب يكره التسلط إلى هذا الحد؟
عين الرضا لجاكرتا.. وعين السخط لكوالالمبور!
د. عبد الله عمر سلطان
«مات الديكتاتور» ، «سقط الإمبراطورالأحمر» ، «وأخيراً.. هلك الطاغية» ...
عناوين مشابهة لهذه كانت هي التي تتصدر صفحات الصحف الغربية
وحاشيتها العربية بعد هلاك زعيم كوريا الشمالية وصنمها الأوحد «كيم إيل
سونج» ، لاسيما بعد أن أخذت المواجهة بين هذه الدولة المتقوقعة على نفسها وبين القوى الغربية المسيطرة على العالم ومقدراته بعداً آخر ... ، لقد فجّر الزعيم الهالك من ضمن ما فجر خلال لقائه بالرئيس الأمريكي الأسبق «جيمي كارتر» معادلة النفاق والتطفيف الأمريكي الطافح حين ربط بين برنامجه النووي وبرنامج
«إسرائيل» الأكثر تطوراً، وقذف بالكرة في الجانب الأمريكي قائلاً:
«أنا مستعد لتدمير برنامجي النووي في حالة تدمير البرنامج الإسرائيلي
الأكثر خطراً..! !» .
لقد أصبح منطق الطغاة والمحنطين على كراسي الحكم هو «قارنوا برامجنا
التسليحية ببرامج إسرائيل» ، وهذا المنطق هو من باب إحراج الجانب الغربي
وبيان عوار منطقه وكفره بأبسط مبادئ العدل والمساواة في العلاقات الخارجية لأنه
يمسك بهذا الغرب المنحاز من العصب الذي يثيره، ويكشف عن همجيته وانحيا زه، أما الجانب الآخر من منطلق الطغاة ومنطقهم، لاسيما في عالمنا العربي
والإسلامي، فهو أن هذه المقولة الحقة لا يراد بها إلا باطل تجرعته أجساد شعوبنا
حينما تسلط هذه الأسلحة وتلك المدافع إلى صدور الشعب الأعزل.. لا إلى
«إسرائيل» التي كفلت لزعامات تصلب الشرايين أن تغرس أقدامها كجذور شجر الصبّار الشائك ...
لقد تنفس «العالم الحر» الصعداء، وأفرغت ذراعه الإعلامية التي لا تقل
دموية وجرماً عن آلته العسكرية والاقتصادية المقالات والدراسات والتحليلات
المتعددة التي ترسم خيارات المستقبل الآسيوي بعد هلاك الطاغية.
أوليس جديراً أن يحتفل الغرب المناضل دوماً في سبيل الحرية بسقوط زعيم
متسلط؟ أوليس الغرب هو حامي حمى الديموقراطية والذائب هياماً وشغفاً بكل ما
هو ومن هو عادل ومنصف؟ !
قد يذكرنا بعضهم هنا بمقولة «جان كارباترك» مندوبة أمريكا في الأمم
المتحدة سابقاً، ومنظرة اليمين الأمريكي «المحافظ والمتدين» حينما أطلقت
تصريحها الشهير حول دعم أمريكا لبعض الأنظمة القمعية مقابل حركات تؤمن
بالحوار والتعددية، فقالت دون مواربة: «إن دكتاتوراً تابعاً لنا ... خير ألف مرة
من نظام ديموقراطي يقف أمام مصالحنا ... » .
وهنا قد يقال: إن هذا التصريح هو زلة لسان أو عاطفة جياشة من شمطاء لم
تملك مشاعرها أو أحاسيسها وهي عادة متأصلة في رعاة البقر لاسيما المحافظين
منهم لكن لماذا لا نمتثل لنصائح الناطق باسم البيت الأبيض أو وزارة الخارجية
الأمريكية حيث يشير علينا مع كل غارة إسرائيلية تجندل الأطفال وتزرع الرعب،
بأن نضبط أعصابنا، وأن نتحلى بمقدار جيد من ضبط النفس، حتى تتكفل
إسرائيل بضبط أنفاسنا.. أو إنهائها إلى الأبد؟ ! .
ماذا علينا لو نظرنا بعين الواقع إلى جنوب شرق آسيا قريباً من بؤرة هلاك
الدكتاتور، وقارنا بين مثالين أحدهما «دكتاتوري» ... والآخر «ليبرالي» ...
واحد يكمم الأفواه ويطارد المعارضين، ويستحدث العقائد لدولة جل سكانها يدينون
بدين واحد، وآخر يحكم خليطاً غير متجانس من الشعوب والأعراق ... ؟ ! لن
نختار دولة مسلمة وأخرى كافرة لأن أصدقاءنا الأمريكان سوف يتهموننا حتماً
بالأصولية والتشدد والنتائج المسبقة، بل سنختار دولتين ضمن عالمنا الإسلامي
لننظر كيف يُصعّد الحدث هنا، ويتجاهل هناك ثم نطرح السؤال البريء ذاته: هل
يؤيد الغرب الديموقراطية أم الدكتاتورية؟ !
ثم ما هو عامل الفرز لحب التسلط أو الهيام بالتسامح والتعددية؟ هل هذا
العامل مهم وحاسم ودقيق إلى هذا الحد؟ .. دعونا نستعرض وضع أندونيسيا
وماليزيا للوصول إلى إجابة معقولة على هذا السؤال.
أندونيسيا ومفترق الطرق:
ظلت أندونيسيا رغم ضخامتها وكثافتها السكانية عامل تحييد واستقرار في
منظومة السياسة الأمريكية في المحيط الهادي، أو بعبارة «ستيفن ستراسر»
المعلق الأمريكي «دولة متعاونة مع الغرب إلى أقصى حد، وودودة مع الصين
رغم استحواذ الجالية الصينية بها على المقدرات الاقتصادية، مع سلبية في تعاملها
مع جيرانها، وهي الآن تبحث عن موطئ قدم في ظل انقلاب الموازين، فهي التي
بادرت لإجراء المباحثات في كمبوديا، وهي التي تسعى لجمع فرقاء النزاع في
بورما، كما أنها الآن تعرض وساطتها بين كوريا الشمالية والغرب» إن الرئيس
الحالي سوهارتو الذي أتى بعد حكم «سوكارنو» المتعاطف مع الشيوعيين، ظل
أصدق الحلفاء لأمريكا، وهذا ما حدا بالغربيين إلى التغاضي عن الممارسة السياسية
العنيفة والفساد المستشري في الحكومة هناك ولا تزال أصداء الصدمات الأخيرة بين
الحكومة والشعب لا تخطئ بكثير متابعة من قبل الصحافة الغربية التي تعمل
بنظرية حارس البوابة «الإعلامية» ، وهذه النظرية الإعلامية تقول إن الإعلام
لاسيما الذكي يتعامل مع الخبر كحارس البوابة فيضخم ما يراه يخدم مصالحه
ومبادئه، ويتجاهل ما يسيء إليها ... وهذا العامل هو الذي يفسر التغاضي عن
إجراءات الحكومة الأندونيسية لحظر أكبر ثلاث مجلات في البلاد هي: «دي تيك، وتمبو، والمحرر» في شهر «حزيران» المنصرم بعد أن نشرت تفاصيل عن
عمولات صفقة شراء أسلحة للقوات البحرية الأندونيسية التي يتهم فيها وزير
التطوير والتقنية «حبيبي» الذي يعد أبرز الشخصيات لخلافة «سوهارتو» بعد
أن إنتهاء ولايته الخامسة.
لقد مرالأرخبيل الأندونيسي بفترة مشابهة في عام ١٩٧٨ م، بعد أن تظاهر
الطلبة والمثقفون اعتراضاً على إعادة انتخاب سوهارتو رئيساً في ظل انتشار
المحسوبية والفساد والقمع السياسي، والاعتماد على المساعات الخارجية وتسلط
الجالية الصينية، على مقدرات البلاد وتحالفها مع نظام العسكر.
لقد طرح المعارضون بقوة أن العسكر قد قاموا بواجبهم ولم يعد لديهم أي جديد
يقدمونه، فتفتقت الأذهان عن فكرة «الباتشيلا» ، وهي دين جديد استحدثه
«سوكارنو» ، وألزم الشعب الأندونيسي المسلم اعتناقها، ثم قام بمطاردة كل خصومه بحجة محاربة هذا الوثن الجديد الذي اُلزمَت حتى الأحزاب الإسلامية بالإيمان به وإلا ... والسؤال: هل يواجه المأزق السياسي بدين جديد أو وثن آخر يتم من خلاله محاربة المد الإسلامي المتنامي في الأرخبيل الوادع؟
لقد راهن العسكر والقوى الغربية من خلفهم على النمو الاقتصادي باعتباره
هدفاً وغاية ووسيلة من خلال نموذج شبيه بنموذج «بونشيه» ديكتاتور تشيلي
الذي حكمها بالحديد والنار ليرفع من اقتصادها عقدين من القمع لكن النمو
الاقتصادي في ظل التسلط والتغاضي الغربي، لا يحل المشكلة بل ربما فاقمها
فالصحافة الأندونيسية والشارع هناك يتحدث عن «مافيا بيركلي» ، وفي هذا
إشارة إلى جامعة «بيركلي» الأمريكية الشهيرة التي ينتمي إليها معظم رموز
النظام الحاكم والمثقفين الكبار، وهذه العصابة الحاكمة ترى أن النمو الاقتصادي
وحده لا ينصف مظلوماً أو يزيل فساداً أو يحل قضية هامة كقضية الهوية والانتماء
لاسيما في أجواء صحوة المسلمين المعاصرة وعودتهم إلى ذاتهم.
قد يتغاضى الغرب حيناً عن أصدقائه، ويطلق أيديهم تخنق وتصطاد
ضحاياها البشرية، وتعد برفاهية أكبر وحلم تنموي جميل، لكن الأرقام والمشاعر
حينما تختلط تقول إنه بالرغم من التقدم الاقتصادي والنمو المتسارع في أندونيسيا،
إلا أنه يظل أقل بكثير من دول آسيوية أخرى لا تقارن بإمكاناتها ومقدراتها، وأن
طوفان الفساد المستشري يلقي بظلاله على الحياة الاقتصادية من خلال الاحتكار
والعمولات الخيالية، تماماً كما يعوق نمو الحياة الاجتماعية أو السياسية، فالنمو
الاقتصادي لابد أن يرافقه انفتاح سياسي، واستقرار اجتماعي، واستنفار لغالبية
الأمة يربطها بمعتقد أو فكرة شمولية حضارية كعقيدة الإسلام لا تمت لشعوذة العسكر
أو صنمهم الهلامي! !
وماليزيا في خندق الدفاع عن الذات:
على عكس الوضع في أندونيسيا، فإن الخارطة السياسية والأمنية في ماليزيا
تتميز باختلاط كثير من الأعراق لاسيما الصينيين والهنود، إضافة إلى الملاويين
المسلمين، ويشكل المسلمون أغلبية ضئيلة لكنهم يمسكون بزمام الحكم والقيادة، وقد
استطاعت ماليزيا أن تسجل قفزات كبيرة في تكوين دولة عصرية ذات اقتصاد متين
رغم قلة إمكاناتها مقارنة بأندونيسيا، وظلت البلاد تتمتع بمناخ حر وفضاء واسع
حتى للأقليات المتربصة بالمسلمين والموالية لدول الجوار وبالرغم من الرفاه
الاقتصادي المقرون بمناخ حر وديمقراطي، فقد ظلت البلاد تتمتع بسياسة مستقلة
ترفض التحزبات، وتأبى أن تخضع للهيمنة والغطرسة الغربية.
لقد جمع المثال الماليزي المحرمات الثلاث: نمو اقتصادي، وحرية سياسية،
وتوجه مستقل يحمل بصمات الإسلام، وهذا ما يفسر حنق الغربيين لاسيما
البريطانيين من هذه الدولة الفتية وتسخير وسائل الإعلام لاسيما التي يملكها ...
الصهيوني «ماردوخ» للنيل من الحكومة الماليزية التي ردت على بريطانيا
«العظمى سابقاً» بأسلوب فيه درس للعزة ونموذج للإباء.
لقد قامت كوالالمبور بشطب الشركات البريطانية من قائمة المؤسسات التي
تتعامل معها، فما كان من الأسد البريطاني «الهرم» إلا أن قدم الاعتذار وتخلت
الصحافة البريطانية عن أسلوب الدس العلني في هذه الجولة، لكن التآمر لم ولن
ينتهي، وسيجد ألف وسيلة لرد المارد الماليزي إلى الحظيرة وفرض النموذج
«السوهارتي» عليه إن أمكن ذلك.
إن التوجه المستقل لاسيما المسلم هو عامل الفرز الوحيد لمضايقة ماليزيا
ورسم المخططات لحصارها، كما أنه شرط العضوية المهم الذي غض الغرب
الطرف بسببه عن الأرخبيل المجاور، الذي رضي بالدوران في الفلك الغربي،
وقام بنصب العقيدة الجديدة «الباتشيلا» بدلاً من الاعتزاز بالإسلام وترسم نهجه
الحضاري.
الغرب يكره الديكتاتورية، ويحب الديموقراطية، عبارة حفظناها عن ظهر
قلب، لكن الحقيقة المرة أن هذه العبارة صحيحةفي حق شعوبه ودوله فقط، أما في
حق الشعوب المسلوبة هويتها فربما جرب الغرب الديمقوراطية هنا وشجع
الدكتاتورية هناك، لكن في بلداننا المسلمة فلا شك أن الديكتاتورية لاسيما العسكرية
تواجه بترحيب أكبر وتغذى بالمقويات والمنشطات التي تسعى كما نرى في البلدان
الثورية في عالمنا العربي إلى جعله كسروية ثورية يتوارثها الدكتاتور الصغير عن
السفاح الكبير، وهذا بالضبط ما ينوح عليه الغرب ويلطم في مأتم الديكتاتور
الشيوعي الكوري الذي حول «البرولتاريا» بقدرة قادر إلى مؤسسة ماركسية
عائلية مغلقة أمام المساهمين
هل نعود إلى مقولة «جين كارباتريك» ونعيد تقييمها على ضوء هذه
المقارنة لنقول: إنها أكبر من مجرد زلة لسان وأقرب ما تكون إلى قاعدة مهمة في
سياسة وصولية مستعمرة؟ !