[الإسلام ينتصر في تركيا]
د. كمال حبيب
تركيا، التي نراها اليوم، مساحتها أقل من مليون كم٢، ولكنها تكاد تعبر عن الموجة الكبرى الثانية من الفتح الإسلامي الذي قاده العثمانيون استكمالاً لجهود السلاجقة الأتراك في بداية القرن الثالث عشر الميلادي.
ومدينة إسطنبول الضخمة التي تتوزع بين قارتي آسيا وأوروبا، ويشرف عليها في الجانب الأوروبي المسجد السليماني الضخم، كما يبدو في الأفق (القصر الضخم) الذي حكم العثمانيون منه العالم والمعروف بـ (طوب قابو) ، وبها مسجد محمد الفاتح ومسجد الصحابي الجليل (أبو أيوب الأنصاري) وقبره، والسور القديم الضخم للقسطنطينية (مركز العالم الأرثوذكسي الإمبراطوري قبل أن تصبح: إسلام بول) - أي مدينة الإسلام - ومسجد آيا صوفيا الذي كان كنيسة ولا يزال في غالبه متحفاً حتى اليوم بضغوط غربية ـ هذه المدينة لم يستطع (أتاتورك) تحمُّل العَبَق الإسلامي القوي فيها، فهرب إلى أنقرة التي يشعر زائرها بالضيق؛ فليس بها سوى بعض التماثيل ومؤسسات الحكم العلمانية التي أقامها (أتاتورك) .
تعبير: (ترك) و (أتراك) و (تركيا) لم يكن معروفاً أيام الدولة العثمانية؛ حيث لم يكن هناك انتماء للقومية والعرق، وإنما الانتماء للدولة العثمانية باعتبارها جامعة لشعوب متعددة تحترم الإسلام ونظامه، وتدين بالولاء للسلطان والخليفة والخلافة باعتبارها أحد رموز الإسلام وعنوانه. فالتركي كان تعبيراً عن عدم التحضر في السلوك، ولم تصعد تعبيرات الترك هذه إلا مع انهيار حكم الدولة العثمانية وسقوط السلطان عبد الحميد سنة ١٩٠٨م، وهو العصر الذي بدأ بحكم (الاتحاد والترقي) وانتهى بقمة جبل الجليد متمثلاً في (كمال أتاتورك) ١٩٢٣م وهو العام الذي تأسس فيه (حزب الشعب الجمهوري) الذي ظل يحكم تركيا منفرداً حتى عام ١٩٤٦م.
تعرضت تركيا للاحتلال الكامل من دول الحلفاء بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، واحتل اليونانيون الأعداء التقليديون للعثمانيين والإسلام وتركيا منطقة إزمير، ودخلوا عاصمة الخلافة الإسلامية ـ آنذاك ـ في مشهد حزين أعاد للأذهان دخول التتار لعاصمة الخلافة العباسية بغداد في عام ١٢٥٨م، وكانت هناك حرب للتحرير هي التي بزغ فيها نجم (أتاتورك) الذي كان (ياوران) للسلطان والذي بدأ المقاومة بتحريض منه وبأموال دفعها له، ولكنه تمرد عليه.
اتفاقية لوزان عام ١٩٢٣ التي منحت تركيا الاستقلال هي معاهدة دولية كان ضمن بنودها إسقاط الخلافة العثمانية، وهي رغم ضعفها بعد السلطان عبد الحميد ولكنها كانت رمزاً يسعى مشعلو حرب (المسألة الشرقية) إلى إنهائها بإعلان إسقاط الخلافة، وقام (أتاتورك) بذلك وكوفئ بتتويجه وكيلاً للحضارة الغربية على جسد تركيا التي كانت قلب دار الإسلام.
\ علمنة تركيا:
العلمنة تسللت إلى أفكار المثقفين في العالم الإسلامي من خلال التأثر بالثورة الفرنسية. والثقافة الفرنسية هي التي كانت سائدة في الدولة العثمانية وفي حواضر الإسلام الكبيرة مثل مصر، وظهر هذا الاتجاه بقوة داخل مؤسسة الخلافة ذاتها، معتقدةً أن الهزيمة أمام الغرب حلها يكون باتباع قِيَمه والتزام حضارته واتباع سننه، وجاء (أتاتورك) ليعبر عن هذا الاتجاه ليس كقائد تيار فكري وإنما كحاكم يمسك بالسلطة والثروة وبإرادة نافذة لا يمكن مقاومتها أو الاعتراض عليها.
وهناك دراسات عديدة تتحدث عن الأمراض النفسية التي كان يعاني منها (أتاتورك) وهذا ليس اسمه الحقيقي، فاسمه (مصطفى كمال) ولكن جنونه دفعه لتغيير كل الأسماء القديمة واختيار أسماء جديدة؛ فـ (أتاتورك) معناه أبو الأتراك؛ فهو كان يعتقد أنه الباعث الحقيقي لنهضة تركيا وتقدمها، ومَنْ يسافر لتركيا يلاحظ أن جميع تماثيل أتاتورك تشير إلى الغرب، أي أن الغرب هو الوجهة التي على تركيا أن تتجه إليها.
ظل نص (الدين الرسمي لتركيا هو الدين الإسلامي) حتى قبل وفاة (أتاتورك) بعام أي حتى عام ١٩٣٧م، وكان آخر تعديل في الدستور التركي الذي عرف حوالي ١٠ تعديلات، وأثبت في المادة الثانية من الدستور التركي أن (تركيا دولة علمانية) واعتُبر نصاً لا يمكن تغييره. وكل تعديلات الدستور التركي كانت في اتجاه حذف كل ما له صلة بالإسلام من آثار العثمانيين. ومن آخر ما بقي من الشريعة (الأحوال الشخصية) . وصارت تركيا حتى في (الأزياء) التي يرتديها الرجال والنساء في كل أوضاعها المؤسسية والدستورية والقانونية ـ صارت علمانية لا مكان للدين الإسلامي فيها مطلقاً، ومثَّل ذلك كارثة كبيرة لكل العلماء والمثقفين والمدرسين والخطباء والوعاظ والقادة الذين اعتبروا الإسلام والخلافة جزءاً مهماً من وجودهم وحياتهم، فضاقت بهم تركيا الجديدة، وهاجروا منها في أفواج، تشير المعلومات إلى أن من هاجر إلى مصر وحدها بلغ أكثر من مئة من العلماء والوجهاء والمثقفين وأكابر القوم، وكان على رأسهم العلاَّمة شيخ الإسلام (مصطفى صبري) ، والشاعر العظيم (محمد عاكف أرصوي) الذي ألَّف نشيد الاستقلال لتركيا والذي لا يزال جزءاً من ثوابتها إلى اليوم، وهو يمثل أحد رواد الحركة الإسلامية في تركيا.
في فترة حكم (أتاتورك) المرعبة التي تشبه حكم (ستالين) في الاتحاد السوفييتي الغابر، تعرَّض الكثير من العلماء للموت شنقاً، وأذكر أنني بينما كنت أسير مع أحد الأصدقاء حول مسجد الفاتح بإسطنبول، أشار مرافقي إلى مكان وقال لي: هنا كانت تُعَلَّق جثث العلماء المعارضين لهذا الطاغية.
وظل حزب الشعب يحكم وحده ويرأسه (أتاتورك) ، ولم يتحمل المعارضة له حين جاء بصديق له اسمه (فتحي أوقيار) وجعله يؤسس حزباً اسمه (الحزب الجمهوري الحر) ودخله معارضو (أتاتورك) ومزقوا صوره وداسوها بالأقدام، ولم يتحمل (أتاتورك) ذلك فأغلق الحزب المذكور.
وجاء (عصمت إينونو) من بعده وكان أكثر وحشية وعلمانية، غير أنه أدرك أنه لم يعد ممكناً لتركيا أن تظل بدون تعددية حزبية، فقبل تأسيس مجموعة من المعارضين لحزب الشعب حزباً جديداً سموه (الحزب الديموقراطي) ودخل الحزب الانتخابات البرلمانية على عجل وحقق نتائج مبهرة (حصل على ٤٦ مقعداً) ، وفي الدورة التالية عام ١٩٥٠م اكتسح البرلمان وشكل الحكومة، وتحول (حزب الشعب) إلى المعارضة. وبدأ الإحياء الإسلامي الأول في تركيا، فأعيد الأذان بالعربية، وبدأ القرآن يُبَثُّ من الإذاعة، وبدأت دورات تعليم الدين في الجيش، وافتتحت كلية الإلهيات ومدارس الأئمة والخطباء؛ وهكذا بدأت استعادة الإسلام لمكانته ودوره في الحياة من جديد بعد إرهاب أتاتورك وأتباعه.
ü الإسلام ينتصر:
مهندس النظام التركي أقامه على الجيش والنظام الحزبي. والنظام الحزبي يقبل بأحزاب الوسط في اليمين واليسار، والأحزاب الكبيرة هي المسيطرة، أما الصغيرة فلا مكان لها. ولم يكن للإسلاميين مكان في هذه اللعبة، ولكن بعد عام ١٩٦٠م والانقلاب الأول لم تعرف السياسة استقراراً، وكان هناك أجنحة للإسلاميين في الأحزاب، ولكن في نهاية عام ١٩٦٩م تأسست أول لبنة في الحركة الإسلامية المعاصرة في تركيا، وتأسس لها حزب مستقل هو (حزب النظام الوطني) الذي سرعان ما أُغلق مع انقلاب ١٩٧٠م، ثم جاء (حزب السلامة الوطني) الذي دخل في عدد من الائتلافات، ولكنه أُغلق مع انقلاب ١٩٨٠م. ثم تأسس (حزب الرفاه) في عام ١٩٨٣م، واكتسح الانتخابات المحلية حيث أدى ممثلوه أداء متميزاً ونزيهاً، وكان منهم (طيب أردوغان) الذي كان عمدة لإسطنبول، ثم اكتسح الانتخابات البرلمانية عام ١٩٩٥م وشكل حكومة ائتلافية في عام ١٩٩٦م تولى رئاستها (نجم الدين أربكان) أبو الإحياء الإسلامي المعاصر في تركيا، ولكنه لم يكمل العام وتم الانقلاب عليه من الجيش فيما عرف باسم (انقلاب ما بعد الحداثة) أو (الانقلاب اللطيف) وخرج من الحكومة. ثم تأسس (حزب الفضيلة) وأُغلق من المحكمة الدستورية التي كانت كل مرة تغلق هذه الأحزاب بدعوى تحديها للعلمانية وانتهاك مبادئها.
ثم جاء (حزب العدالة والتنمية) للسلطة في نوفمبر عام ٢٠٠٢م مكتسحاً الحياة السياسية، وطرد منها الأحزاب الكبيرة التي تربعت على عرش السياسة التركية منذ الثمانينيات من القرن الماضي، وأصبح له الأغلبية في البرلمان التركي (٣٧٣ نائباً أصبحوا ٣٥٧) ، وجاء (طيب أردوغان) أحد رموز الإسلاميين الأتراك في الثمانينيات من القرن الفائت، وتبنى حزبه ما عُرف باسم (الديموقراطية المحافظة) واستطاع أن يحقق نجاحات مهمة في الاقتصاد، وحقق الاستقرار للسياسة التركية التي فقدت معناها مع الأحزاب العلمانية اليمينية واليسارية معاً.
زوجات كل من (أردوغان) و (عبد الله غول) و (بولنت أرينج) وغيرهم محجبات، والحجاب ممنوع بحكم القانون التركي، والديموقراطيون المحافظون، ذوو الجذور الإسلامية هم اليوم في قلب رئاسة الوزراء، وهم دعم لا شك فيه للعودة للإسلام في تركيا؛ فهناك قانون اجتماعي ثابت في تركيا وفي غيرها حين يكون هناك حكومة غير يسارية أو ديموقراطية محافظة فإن الصعود الإسلامي يمضي إلى وجهته؛ ولذلك نجد أن الإسلام والصحوة الإسلامية يتعاظمان في ظل الحكومات التي لا تقمع ولا تأخذ موقفاً أيديولوجياً من الإسلام. هناك انتصار وصعود واطمئنان للإسلام في تركيا وهو ما يفسر خروج المظاهرات المليونية في أنقرة وتركيا من جانب العلمانيين؛ إنهم يحاولون قطع الطريق على الصعود الإسلامي الذي لا يمكن إيقافه.
ü تغيير قواعد اللعبة:
المشهد الذي نراه اليوم، وهو ترشيح (غول) لمنصب الرئيس هو استرجاع للأدوات الدستورية التي يمكن من خلالها استعادة الدولة التركية من أيدي العلمانيين والقوميين الذين يستلهمون تقاليد (أتاتورك) . وإذا كان (تورجوت أوزال) هو مَنْ أسَّس للجمهورية الثانية التي انتقدت العلمانية وطرحتها للنقاش العام، وهو من أعلن تمسكه بالصلاة علناً، وقام بأداء فريضة الحج، ورفض تصنيم (أتاتورك) . إن ما يجري اليوم من توتر وصراع هو محاولة استعادة (أردوغان) والذين معه للدولة التركية من الكمالية والعسكر؛ بحيث يتحول البرلمان إلى مؤسسة حقيقية تتخذ قراراتها دون تأثير من (مجلس الأمن القومي) ودون تأثر بتهديد رئاسة أركان الجيش. ومن يقول إن منصب الرئيس شرفي في تركيا فإنه لا يعرف ما يستحوذ عليه الرئيس من سلطات دون أي مسؤوليات.
لو استطاع الإسلاميون الذين يخوضون المعركة في تركيا اليوم أن ينجحوا في محاولاتهم تغيير قواعد اللعبة وتغيير الدستور العلماني وانتخاب الرئيس مباشرة من الشعب؛ فإن هناك آفاقاً واسعة لتحوُّل حقيقي في المركب التركي العلماني الأتاتوركي الذي يمثل أكبر عقبة في حياة تركيا، وعندها سوف يحقق الإسلام والمسلمون تحولات اجتماعية وسياسية تعيد لتركيا وجهها المشرق والمعبر عن الإسلام بعيداً عن سطوة المعادين لأصالة الشعب التركي المسلم المغلوب على أمره، وتدخُّل العلمانيين من عسكر وأحزاب مشبوهة، وبوسائل الإعلام الكاذبة، وسطوة الاتجاهات الحزبية العلمانية و (العسكرتاريا) المدعومة من الغرب ضد أي تحرك إسلامي.
فهل يعي الأتراك تلك الأخطار، فلا يكونوا ألعوبة في يد تلك التيارات المشبوهة؛ حيث يجيّش فيه العامة والرعاع، بدعوى الحفاظ على إرث المؤسس المشبوه من قِبَل العلمانية التي أفسدت أكثر مما أصلحت، وجعلت تركيا ذيلاً في عالم اليوم تستجدي الانضمام لأوروبا، بعد أن كانت حاكمة ومؤثرة، وهذا ما يريده أعداء الإسلام ويعملون على استمراره لتكون تركيا دولة تابعة وغير مؤثِّرة؟
(*) متخصص في الشؤون التركية.