للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المسلمون والعالم

الآمال والتحديات تجاه الحكومة الصومالية الجديدة

(عوامل نجاح مبادرة الرئيس الجيبوتي في حل المعضلة الصومالية)

محمد عبده آدم

بعد انقضاء عقد كامل تقريباً منذ الإطاحة بحكومة سياد بري في ٢٦/١/

١٩٩١م وما نجم عن ذلك من اندلاع عمليات الاقتتال الواسعة بين العشائر المتناحرة

في الصومال، واستمرار تردي الأوضاع والانقسام الوطني، وانعدام الأمن

والاستقرار؛ يعيش الصومال بدون دولة وبدون كيان وبدون سيادة؛ حيث انهارت

جميع المرافق العامة والبنية التحتية من المستشفيات والمدارس والجامعات

والوزارات والمؤسسات الخدمية الأخرى، كما نهبت وأتلفت المكتبات العامة

والوثائق الحكومية من جراء الحروب الأهلية التي أكلت الأخضر واليابس.

لماذا أخفقت مؤتمرات المصالحة السابقة؟

لقد تم عقد ١٢ مؤتمراً للمصالحة الوطنية وتشكيل حكومة مركزية للصومال

خلال عقد الفوضى، وقد تم عقد هذه المؤتمرات في كل من جيبوتي وأديس أبابا

ونيروبي والقاهرة، وكانت النتيجة لتلك المؤتمرات الإخفاق الذريع والوصول إلى

باب مسدود، بل كانت الأوضاع تتأزم بصورة أكثر بعد كل مؤتمر من هذه

المؤتمرات، ويرجع عدم نجاح هذه المؤتمرات إلى عوامل عديدة يطول شرحها؛

ولكن يمكن إجمال أهمها في النقاط الآتية:

١ - طغيان نزعة المصلحة الشخصية والقبلية على المصلحة العامة، وغياب

الحس الإسلامي والوطني؛ حيث كان المجتمعون في هذه المؤتمرات من رؤساء

الجبهات العشائرية الذين ساهموا في إسقاط الحكومة الصومالية، فيحضر كل واحد

من هؤلاء إلى قاعة المفاوضات وهو يفكر في أن يتاح له الجلوس على كرسي

الرئاسة أو ينال نصيب الأسد في توزيع التركة الصومالية. وبطبيعة الحال فإن

الكرسي الرئاسي لا يتسع لأكثر من واحد، ولذلك كان ينسحب كل من يشعر بالغبن

في توزيع التركة.

٢ - العداوات والثارات القبلية بين الفصائل المتفاوضة؛ فمن المعروف أن

هذه الاجتماعات كانت تضم رؤساء الفصائل أو أمراء الحرب الذين قادوا البلاد إلى

خوض معارك بشعة لا يتحمل وصفها العقل السليم، فكانت مفاوضاتهم عبارة عن

نقلهم من جبهات القتال؛ حيث تبادل مدافع الهاون والرشاشات إلى قاعة

الاجتماعات مما جعل المفاوضات عبارة عن مواصلة خوض المعارك الدائرة في

جبهات القتال باستثناء عدم استخدام الذخيرة الحية.

٣ - غياب دور المجتمع المدني من العلماء والمثقفين وسلاطين القبائل

والوجهاء ممن يفكر بالعقل السليم ويوازن الأمور بموازين شرعية سليمة بعيداً عن

المصالح الشخصية لشخص معين أو لفئة معينة، وإنما ينظرون إلى مصلحة البلاد

والعباد التي تهدمت وتعطلت منذ عشر سنين.

٤ - كثرة التدخلات الأجنبية: يذهب البعض إلى القول بأن الحرب الدائرة

في الصومال منذ عقد من الزمن تدار من قبل جهات خارجية، وأن دور القوى

المحلية لا يتجاوز طور التنفيذ فقط أو الضغط على الزناد مما يجعل هذه الحرب

حرباً بالوكالة، وهذه المقولة تعتبر صحيحة إلى حد كبير وإن كنا لا نبرئ

الصوماليين؛ فهم المتحملون مسؤولية تدمير بلدهم أولاً وأخيراً؛ حيث انصاعوا

لمخططات الأعداء.

ومما يلاحظ بصورة جلية أنه كلما تقاربت وجهات النظر وكادت الجهود

المبذولة أن تنجح في رأب الصدع ولمِّ الشمل فإن أيدياً خفية وجهوداً شيطانية تتدخل

في الظلام الحالك لتصطاد في الماء العكر وتشتت وتفرق ما لمته الجهود؛ فتمد

بالشحنات العسكرية هذا، والشيكات المفتوحة ذاك، والوعود الكاذبة آخر بأن

فصيله سيتوج وتسلم إليه مقاليد الحكم في البلاد. وتعتبر الحكومة الإثيوبية أكبر قوة

إقليمية تتدخل في شؤون الصومال منذ الإطاحة بالحكومة الصومالية من الجبهات

المسلحة والمدعومة من قبلها في عام ١٩٩١م [١] ؛ حيث لم يقتصر دورها فيما بعد

على الدور الراعي والداعم بل قامت بهجمات وغارات متتالية لأجزاء واسعة من

الصومال، ودمرت مراكز ومدارس ومساجد كانت تدار وتُدعم بجهود ذاتية من

بعض المخلصين وذلك مثل ما حصل في إقليم جدو.

٥ - التفاوض حول مكاسب السلطة التنفيذية وتوزيع الحقائب الوزارية بين

زعماء الفصائل المتناحرة قبل تكوين المجالس النيابية التي تعتبر المرجعية وحجر

الأساس الذي تستند إليه السلطة التنفيذية، وهو ما تنبه إليه الرئيس الجيبوتي في

مبادرته، فبدأ بتكوين مجلس الشعب الذي يُطلق عليه: السلطة التشريعية.

مبادرة الرئيس الجيبوتي إسماعيل عمر جيلة:

في هذه الأثناء وحال الصومال على ما وصفنا من الفوضى والتشتت، وحيث

لا يظهر في الأفق أدنى أمل أطلق الرئيس الجيبوتي مبادرته الشهيرة في رعاية

مؤتمر للمصالحة الصومالية منسقاً مع الجهات الدولية والإقليمية، وألقى خطابه

الشهير في القمة الأممية في سبتمبر من العام الماضي التي سبقت القمة الألفية التي

انعقدت في نيويورك، وأوضح في خطابه أمام الأمم المتحدة ورسالته إلى رئيس

مجلس الأمن ضرورة تغيير رؤية العالم للمأساة الصومالية عبر الإقناع بأن

الاعتراف بأمراء الحرب أو التعامل معهم بالنظر إلى مصالحهم الذاتية الضيقة هي

التي أفسدت كافة مبادرات السلام، وتعهد بأن يبذل قصارى جهده في إنهاء المعضلة

الصومالية التي قد تتطور إلى احتمالات أسوأ قد تنعكس على العالم سلباً، وأخذ

الرئيس الجيبوتي الضوء الأخضر من المجتمع الدولي الذي لزم دور المتفرج منذ

انسحاب القوات الأمريكية في عام ١٩٩٥م، وقد دعم الرئيس الجيبوتي مبادرته

بالخطوات الآتية:

١ - أخذ ضوءاً أخضر من المجتمع الدولي في إلقائه الخطاب أمام الجمعية

العامة للأمم المتحدة، كما أشرنا في الفقرة السابقة، كما نسَّق مع المنظمات الإقليمية

ودول الجوار وخاصة منظمة (إيجاد) التي تضم دول القرن الإفريقي، بالإضافة

إلى جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي في شأن تسلم ملف المصالحة

الصومالية من الحكومة الإثيوبية التي احتكرته منذ انهيار الصومال بمباركة القوى

العالمية وخاصة الولايات المتحدة بحجة أن المشكلة لها ارتباط بالأمن والمصالح

الإثيوبية.

٢ - جعل الرئيس إسماعيل عمر جيلة ركيزة مبادرته المجتمع المدني من

المثقفين وسلاطين القبائل والوجهاء والجمعيات المحلية وغيرها من فئات المجتمع

المختلفة، وهمَّش دور أمراء الحرب، بل وجه إليهم في خطابه أمام الجمعية العامة

للأمم المتحدة إنذاراً شديد اللهجة، وذكر أن الشعب الصومالي لا يمكن أن يكون

أسيراً لشلة لا تفكر إلا في مصالحها الشخصية وأكد أن أي أمير حرب يحاول عرقلة

جهود المصالحة سوف يحاكم كمجرم حرب.

مؤتمر المصالحة والسلام الصومالي الأخير في (عرتا) بجمهورية جيبوتي:

بعد تلك الجهود الحثيثة أقام الرئيس الجيبوتي إسماعيل عمر جيلة خيمة كبيرة

في مدينة (عرتا) التي تبعد عن جيبوتي العاصمة نحو ثلاثين كيلو متراً، وقد

بدأت بدايات المؤتمر في ٢ مايو (أيار) ٢٠٠٠م، وسبق المؤتمرَ الفعلي سلسلةٌ

من الخطوات أهمها:

١ - جَنَّد الرئيس الجيبوتي جميع إمكانات حكومته المادية والمعنوية لدعم

مؤتمر المصالحة الصومالي، فافتتح قناة تلفزيونية خاصة وموقعاً على الإنترنت

لنقل وقائع المؤتمر بصورة مباشرة إلى أنحاء العالم، واستدعى جميع الفرق

الإعلامية الصومالية والجيبوتية بالإضافة إلى بعض العلماء البارزين لاستثارة

الحماس الديني والوطني وتحرير الشعب من بوتقة دائرة القبيلة الضيقة؛ بالإضافة

إلى إقامة ندوات وحوارات بين المثقفين الصوماليين في كيفية الخروج من النفق

المظلم وكيف يكون شكل الحكومة المرتقبة.

٢ - أقام ملتقى يضم كلاًّ من المثقفين والأساتذة في الجامعات الخارجية

والدبلوماسيين من الوزراء والسفراء في الحكومات الصومالية السابقة لأخذ مشورتهم

ورأيهم في حل المشكلة الصومالية.

٣ - أرسل طائرات إلى المناطق الصومالية لنقل شيوخ القبائل والوجهاء

والسياسيين من كل قبيلة، وعقد اجتماعات خاصة بشيوخ القبائل وسلاطينها لتسوية

الصلح بين القبائل المختلفة قبل بدء أي خطوة أخرى، فأصدر شيوخ القبائل بياناً

يؤكدون فيه أنهم تصالحوا ونبذوا جميع الخلافات الجانبية وأنهم ينسون جراحات

الماضي لبناء مستقبل مشرق للصومال وذلك بتاريخ ١٣/٦/٢٠٠٠م.

٤ - كلف شيخ كل قبيلة أن يرشح الأعضاء الذين يشتركون في مؤتمر

المصالحة السياسي، وقدم السلاطين الأسماء المرشحة لتمثلها في طاولة المفاوضات

ضمن التشكيلة القبلية التي قسمت الصومال إلى خمسة قبائل كبيرة.

٥ - اجتمعت الوفود المختارة التي يفوق عددها ألف شخص، وافتتح المؤتمر

في طوره الثاني، وتم تشكيل لجان مختلفة من بينها لجنة صياغة الدستور ولجنة

الأمن والأمان.

٦ - تم صياغة دستور أطلق عليه: (الدستور الوطني المؤقت) ، وهو

مكون من ٣٨ بنداً يتناول كيفية تكوين مجالس وسلطات الدولة الصومالية المنهارة

من جديد، وكيفية تسيير سياستها الداخلية والخارجية.

٧- بعد إجازة الدستور تم توزيع أعضاء البرلمان المكون من ٢٤٥ عضواًَ

على القبائل الكبيرة الخمسة، وقد كانت هذه الخطوة أكبر عقبة واجهت مؤتمر

المصالحة في عرتا؛ حيث حاولت كل قبيلة وكل فرع في داخل القبيلة أن يحظى

بنصيب الأسد في البرلمان، وقد انسحبت بعض القبائل من قاعة المفاوضات

احتجاجاً على قلة حصتها في عضوية البرلمان، إلا أنه بفضل الله ثم بفضل الجهود

التي بذلها الرئيس الجيبوتي وضغط الشعب الصومالي في الداخل والخارج الذي

نسي جميع الاعتبارات الأخرى عدا استعادة كرامته وإيجاد حكومة ترعى مصالحهم

تجاوز المؤتمر هذه العقبة وجميع العثرات الأخرى. والجدير بالذكر أن البرلمان

يضم بين أعضائه ٢٥ امرأة! حيث اقترح الرئيس الجيبوتي تخصيص هذا العدد

من كراسي البرلمان للنساء، ولعله يهدف بهذه الخطوة أن تحظى مبادرته بدعم من

الغرب الذي يكرس جهوده في إظهار دور المرأة كشريكة للرجال في صنع

القرارات وإخراجها من بيتها، ووظيفتها الأساسية في تربية الأجيال [*] .

٨ - عقد البرلمان أول جلسة له في يوم الأحد بتاريخ ١٣/٥/١٤٢١هـ

الموافق ١٣/٨/٢٠٠٠م، وأدى أعضاؤه اليمين الدستورية؛ كما انتخب في اليوم

الثاني رئيس البرلمان ونوابه وبقية أعضاء مكتب رئيس البرلمان من سكرتارية

وغيرها.

٩ - اختيار رئيس الصومال: في يوم الجمعة ٢٥/٥/١٤٢١هـ الموافق

٢٥/٨/٢٠٠٠م، تم اختيار رئيس الصومال في جلسة مغلقة لأعضاء البرلمان في

ثلاث جولات متتالية بجلسة واحدة استمرت أكثر من عشر ساعات، فاز فيها

الدكتور عبدي قاسم صلاد حسن لحصوله على ١٤٥ صوتاً من بين أعضاء البرلمان

البالغ عددهم ٢٣٨ عضواً، بينما حصل منافسه عبد الله أحمد عدو على ٩٢ صوتاً.

١٠ - حفلة تنصيب الرئيس الجديد: في يوم الأحد بتاريخ ٢٧/٥/١٤٢١هـ

الموافق ٢٧/٨/٢٠٠٠م، أقيم حفل رسمي كبير على شرف الرئيس الجيبوتي

إسماعيل عمر جيلة لتنصيب الرئيس الصومالي الجديد حضر فيه رؤساء مجموعة

دول منظمة إيجاد ومن بينهم الرئيس السوداني عمر حسن البشير، ورئيس الوزراء

الإثيوبي ملس زيناوي، والرئيس الإرتيري أسياس أفورقي؛ بالإضافة إلى الرئيس

اليمني علي عبد الله صالح، وعدد من ممثلي المنظمات الدولية والإقليمية، وقد أدى

الرئيس الصومالي الجديد اليمين الدستورية بحضور هؤلاء الرؤساء والوفود

الأخرى أمام أعضاء البرلمان الصومالي.

موقف المجتمع الدولي والإقليمي من مبادرة الرئيس الجيبوتي:

لم يكن الموقف العالمي والإقليمي واضح المعالم تجاه مبادرة الرئيس الجيبوتي

وما انبثق عنها من مؤتمر المصالحة الصومالي في عرتا؛ بل يمكن القول إن موقف

العالم أجمع كان في وضع المشاهد تجاه هذا المشروع الكبير الذي يرمي إلى انتشال

الصومال من المستنقع الذي يخوض فيه منذ عشر السنوات الماضية، وهذا يتضح

من التعتيم الإعلامي الذي فرض على وقائع المؤتمر الذي يعتبر أكبر مؤتمر من

مؤتمرات المصالحة الصومالية؛ حيث اشترك فيه ما يزيد عن ألفي شخص منتخبين

من جميع شرائح المجتمع الصومالي، بخلاف المؤتمرات السابقة التي كانت تضم

فقط مجموعة من أمراء الحرب، وهذا الموقف ينطبق على المستوى الدولي

والإقليمي بما فيه البلدان الإسلامية والعربية، ولعل هذا الأمر يعود إلى بعض

الأسباب، ومن أهمها:

١ - فقدان الأمل لدى المجتمع الدولي والإقليمي وإصابته بالخيبة تجاه

مبادرات الصلح الصومالية إثر إخفاق جميع تلك المحاولات السابقة إلى جانب

الإعراض عن الملف الصومالي ورميه في سلة المهملات، والتفرغ للصراع

العربي الإسرائيلي، وتحويل العاصمة اليهودية إلى القدس المحتلة ونقل السفارة

الأمريكية إليها.

٢ - كان كثير من المحللين يرون أن السيناريو الصومالي لم ينته بعد؛

فالتحدث عن إقامة حكومة صومالية ما زال مبكراً بدليل أنه لم تقم أي محاولة جادة

سواء كانت دولية أو إقليمية في إنهاء المشكلة الصومالية التي لا تتجاوز كونها

تهارجاً بين العشائر حول مكاسب معينة باستثناء مبادرة جيبوتي الأخيرة التي

حظيت بالنجاح الكبير في غضون شهور. ويضيف هؤلاء المحللون أن هناك

مخططاً كان يرمي إلى تقسيم الصومال إلى عدة دويلات كرتونية ملحقة بإثيوبيا أو

تعيش تحت رحمتها وتدور في فلكها.

٣ - تولد شعور لدى الشارع الصومالي بأن إخوانهم العرب لم يؤدوا واجبهم

تجاه بلدهم الصومال، ولم يدعموا مبادرة الرئيس الجيبوتي كما ينبغي؛ بل تعدى

الأمر إلى أن اتهم بعض البلدان العربية أنها ضد المصالحة الصومالية في جيبوتي؛

حيث تظاهر آلاف من الصوماليين ضد الدور المصري في المصالحة الصومالية،

وقد وصل الأمر إلى إحراق المتظاهرين العلم المصري إثر اتهام السفير المصري

في مقديشو بحثِّ العديد من زعماء الفصائل ومن بينهم حسين عيديد على عدم

المشاركة في مؤتمر السلام بعرتا، ولعل التحفظ المصري ينطلق من هاجس أن

المبادرة الجيبوتية تعتبر امتداداً للمبادرة الإثيوبية التي كانت مضادة للمبادرة

المصرية في مؤتمر القاهرة الذي ضم ٢٦ من رؤساء الفصائل في ٢٢/١٢/١٩٩٧م.

وصدر عنه إعلان القاهرة الذي كان من أهم بنوده تشكيل حكومة وحدة وطنية،

إلا أن المبادرة المصرية ماتت بسبب التدخلات الإثيوبية التي استقطبت عدداً

كبيراً من رؤساء الفصائل.

وفي هذه الأثناء أطلق الرئيس الجيبوتي الذي يتمتع بعلاقات جيدة في الظاهر

مع إثيوبيا مبادرته، فتم تصنيفها على أنها مكملة للدور الإثيوبي، وكانت كثير من

القوى المحلية الصومالية قد أخذت هذا الانطباع في بداية الأمر، ولم تكن متفائلة

باعتبار أن أي مشروع له ضلع أو علاقة مع إثيوبيا لا يمكن أن يقود الصومال إلى

بر الأمان، لكن مع مرور الأيام ومع بدء المؤتمر أثبت الواقع خلاف تلك التوقعات

حيث التزمت الحكومة الإثيوبية نوعاً من التحفظ وعدم الارتياح تجاه سير الأمور

في مؤتمر عرتا؛ فهي بطبيعة الحال غير راضية عن إقامة حكومة صومالية

تمارس دورها وثقلها الإقليمي، وتفضل استمرار الصومال على ما هو عليه حتى

تستخدمه كحزام أمني ضد الحركات التحريرية في أوجادين وضد ما يسمونه

(الأصولية) في الصومال، وحتى تدخله وتغير عليه متى شاءت وتنسحب منه متى

شاءت، وحتى لا تقوم للصومال العدو التاريخي لإثيوبيا أي قائمة.

وفي مقابل ذلك ظهر بصورة جلية حسن نوايا الرئيس الجيبوتي، وأنه ما

يهدف من مبادرته وسعيه الحثيث في لمِّ شمل البيت الصومالي ورأب الصدع بين

الأشقاء الفرقاء إلا أن يستعيد الصومال دوره الإقليمي والدولي. وفوق هذا يشير

بعض المحللين إلى أن الرئيس الجيبوتي الذي يرأس دولة لا يتعدى عدد سكانها

نصف مليون نسمة يشعر بنوع من التهديد والخطورة تجاه جارتيه الإثيوبية

والإرتيرية، فعزم على هذه الخطوة الشجاعة حتى يعود التوازن الإقليمي في

المنطقة؛ وخاصة أن جيبوتي تعتبر جزءاً مكملاً للصومال ضمن ما يعرف

بالصومال الكبير الذي يأمل الصوماليون أن يروه يوماً ما وقد اتحد تحت سقف واحد،

كما أنه اعتبر هذه الخطوة نوعاً من رد الجميل عن التضحيات الغالية التي قدمها

الصومال في سبيل تحرير جيبوتي من الاستعمار الفرنسي في عام ١٩٧٧م.

الموقف الدولي والإقليمي بعد تشكيل البرلمان وانتخاب الرئيس:

ما ذكرناه في الفقرات السابقة كان قبل أن تظهر نتائج مؤتمر عرتا ولكن بعد

أن انتهى المؤتمر بنجاح، وتم تشكيل برلمان وانتخاب رئيس حظيت الحكومة

الجديدة بتأييد إقليمي ودولي، وإن كانت دون المستوى المطلوب؛ فعلى الصعيد

الدولي أصدر الاتحاد الأوروبي بياناً يحث فيه الصوماليين وقادة الفصائل على دعم

حكومتهم الجديدة، كما صرحت وزارة الخارجية الأمريكية بأنها متفائلة بنتائج

مؤتمر السلام الذي عقد في جيبوتي وتشكيل الحكومة الانتقالية للصومال بما فيها

انتخاب الرئيس، وعلى الصعيد الإقليمي؛ فقد اعترف بالحكومة الصومالية الجديدة

عدد من الدول العربية والإفريقية، كما سمح للرئيس الصومالي الجديد أن يجلس

على كرسي الصومال في الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية اللذين ظلا شاغرين

طيلة السنوات العشر الماضية، ولكن يغلب على بعض تلك التأييدات لغة

الدبلوماسية والتحفظ خوفاً من تلك الدول بأن تعود الأمور إلى ما كانت عليه وخاصة

في ظل التهديدات التي يطلقها زعماء الحرب في الصومال تجاه الحكومة الجديدة.

ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل لدى تلك الفصائل ما يمكنها من عرقلة

جهود السلام وتعطيل الحكومة المنتخبة في الصومال؟ هذا ما سيتضح بمشيئة الله

فيما يأتي:

الموقف المحلي:

يمكن تقسيم الموقف المحلي إلى موقف الشعب الصومالي من الحكومة الجديدة،

وموقف أمراء الحرب؛ فموقف الشعب في الداخل والخارج بجميع قبائله وفئاته

وطبقاته يؤيد الحكومة الجديدة بصورة كبيرة يمكن الإطلاق عليها أنها جنونية،

ومستعد لأن يضحي في سبيل إنجاحها بالنفيس والغالي بغضِّ النظر عن المكاسب

التي تحققها كل قبيلة في ظل التشكيلة الجديدة؛ ذلك أن الشعب هو الذي تلظى بنار

الحروب الأهلية، وذاق ويلاتها، وأصبح محروماً من جميع الخدمات التعليمية

والصحية وغيرها، ونشأ جيل جديد لا يعرف الكتابة ولا القراءة وسلبت الكرامة

والسيادة الصومالية، وأغلقت الأبواب أمامهم، وبجانب هذا أدركت كل قبيلة أنها

مهما أوتيت من قوة فإنها لا تستطيع أن تنتصر وتحسم الصراع لصالحها؛ فلا

غالب ولا مغلوب في الحرب الدائرة؛ ولذلك أصبح الشعار لدى الصوماليين في

الآونة الأخيرة: (فليحكم من شاء، وإنما يهمنا إيجاد كيان وحكومة تعيد لنا الكرامة

وتفكنا من أسر أمراء الحرب) .

أما موقف أمراء الحرب فيتضح في الفقرة الآتية التي تتناول التحديات

والعقبات أمام الحكومة الجديدة.

التحديات والآمال أمام الحكومة الصومالية الجديدة:

مما لا شك فيه أن الحكومة الصومالية الجديدة تواجه عقبات كبيرة وعديدة لا

يستهان بها، كما أن هناك عوامل نجاح وفرصاً مواتية لها، وفي السياق الآتي

نتناول هاتين النقطتين بشيء من الاختصار:

أولاً: العقبات أمام الحكومة الجديدة:

١ - المعارضة الداخلية: تتمثل في رؤساء الفصائل وأمراء الحرب الذين

قاموا بإسقاط الحكومة الصومالية السابقة ولم ينجحوا في تشكيل حكومة جديدة،

وقادوا البلاد إلى الحرب الأهلية التي أكلت الأخضر واليابس، واستمرت منذ عشر

سنوات، وراح ضحيتها آلاف الأشخاص من المدنيين الأبرياء؛ ويمكن تصنيف

هؤلاء حسب مناطقهم على النحو الآتي:

* زعماء الفصائل في مقديشو: وعلى رأسهم حسين عيديد، وعثمان علي

عاتو، وحسين بود الذين لم يشتركوا في مؤتمر السلام في عرتا بل ناصبوه العداء

واعترضوا عليه بشدة؛ حيث اعتبروا أن هذا المؤتمر يعتبر تعدياً على حقوقهم

الخاصة؛ حيث إنهم الممثلون الشرعيون كما يزعمون، وشعروا منذ البداية أن

مبادرة الرئيس الجيبوتي همشت دورهم؛ حيث سمح لهم أن يشتركوا في المؤتمر

بصفة شخصية فقط، وقد ساعدهم على هذا التمرد على المؤتمر الهالة الإعلامية في

الخارج التي تعظم دور هؤلاء وخاصة حسين عيديد والتي تروج أنه بغير وجودهم

فإن المؤتمر لن يحقق أي نجاح يذكر، كما يعتقد أن الأيدي الخفية التي تنشط في

مثل هذه الأوقات تعمل على قدم وساق لاستخدام هؤلاء في إخفاق الحكومة

الصومالية الجديدة كما فعلوا في مؤتمرات السلام السابقة؛ ولكن غاب عن هؤلاء

الذين يعظمون دور أمراء الحرب ويعولون عليهم حقائق كبيرة في الساحة

الصومالية يمكن إيضاحها بما يلي:

إن هذه الفصائل وخاصة عيديد الذي يضخم دوره ليس عيديد الموجود في

بداية التسعينيات الذي كان يحظى بتأييد وظروف مواتية له، كما أن الشعب

الصومالي ليس هو ذاك الشعب الذي يجري وراء عيديد وغيره من أمراء الحرب

مثل الرعاع؛ فالأمر قد اختلف تماماً عما كان عليه في تلك الأيام؛ فعيديد (الأب)

عندما حارب حكومة على مهدي المكونة في أول مؤتمر للمصالحة الصومالية الذي

عقد في جيبوتي عام ١٩٩١م وتمكن من الحجر عليها، وعندما حارب القوات

الأمريكية وأجبرهم على الانسحاب من الصومال لم يكن يخوض هذه الحروب وحده

وبشخصه وإنما كانت قبيلته بكل أفرادها بدءاً من سلاطينها وتجارها وميليشياتها بل

ونسائها وبكل إمكانياتها تقف وراءه وقفة الرجل الواحد.

ولكن هل بقي الأمر لعيديد (الابن) كما كان لعيديد (الأب) ؟ الجواب

بالنفي التام؛ حيث إن هذه القبيلة وبكل فئاتها التي ذكرناها أصبحت تساند وتشترك

بصورة فعالة في مؤتمر المصالحة في عرتا بدليل أن الرئيس الجديد اختير من بينها،

بل الأشد من ذلك أن البقية الباقية من ميليشيات عيديد ساهمت بصورة فعالة في

الترحيب بالرئيس الجديد عبدي قاسم صلاد حسن في زيارته الأخيرة إلى مقديشو؛

ولذلك ليس هناك خيار آخر أمام حسين عيديد إلا أن ينضم إلى الحكومة الجديدة،

أما بقية أمراء الحرب فليسوا أفضل حالاً من عيديد؛ بل ينطبق عليهم الكلام الذي

قيل في عيديد؛ فالبساط سحب من تحتهم جميعاً.

*منطقة الشمال الغربي التي أطلقت على نفسها: (جمهورية أرض الصومال)

إثر إعلانها الانفصال عن بقية أجزاء الصومال من جانب واحد في ١٨/٣/١٩٩١

م والتي تتمتع باستقرار وهدوء بخلاف المناطق الجنوبية، كما أن رئيسها محمد

إبراهيم عقال نجح في تكوين إدارات وأجهزة فعالة، وتغلب على خصومه من

الناحية السياسية والعسكرية، هذه المنطقة تعارض الحكومة الجديدة بشدة لدرجة أنها

قامت بمظاهرات مضادة لمؤتمر عرتا وأشعلت النيران في العلم الصومالي، ولكن

المعتقد أن معارضتها لا يمكن أن تقف في وجه الحكومة الصومالية الجديدة لأسباب

عديدة من بينها: أن هذه المنطقة التي أطلقت على نفسها: (جمهورية أرض

الصومال) لم تحظ بأي اعتراف من المجتمع الدولي منذ إعلانها الاستقلال، كما أن

هناك قبائل عديدة داخل المنطقة أيدت وشاركت بصورة فعالة في مؤتمر المصالحة

في عرتا، ويرى بعض المحللين أن امتناع عقال عن الاشتراك في مؤتمر

المصالحة يعتبر مجرد مناورة سياسية وتكتيكاً مرحلياً؛ حيث يهدف أن يتفاوض مع

الحكومة الصومالية الجديدة على أساس شمال وجنوب انطلاقاً من فلسفة أن الشمال

كان مستعمرة بريطانية، والجنوب كان مستعمرة إيطالية، للحصول على مكاسب

سياسية كبيرة.

* منطقة الشمال الشرقي (بونتلاند) : تعتبر هذه المنطقة هي الأخرى من

المناطق التي تتمتع بهدوء واستقرار، وتنشط فيها تجارة المواشي وتصديرها إلى

بلدان الخليج العربي، واستيراد السلع. وفي ٢٣/٧/١٩٩٨م تمكنت هذه المنطقة

من إقامة بناء إداري محلي للمناطق الشمالية الشرقية برئاسة العقيد عبد الله يوسف

الذي تمكن من إقامة بعض الأجهزة الإدارية وتكوين ميليشيات بمساندة من إثيوبيا؛

حيث يتمتع بعلاقات ودية معها أكثر من أي أمير حرب آخر، ويعارض عبد الله

يوسف مؤتمر المصالحة في عرتا والحكومة المنبثقة منه بشدة؛ فقد قال في مقابلة

مع هيئة الإذاعة البريطانية بتاريخ ١٦/٧/٢٠٠٠م: «إن مؤتمر عرتا يهدد باندلاع

حروب أهلية في البلاد تستمر هذه المرة عشرين سنة قادمة وليس عشر

سنوات! !» ، واتهم أعضاء الحكومة الجديدة بأنهم أعضاء حكومة سياد بري

التي ارتكبت جرائم ضد الشعب الصومالي، كما وجه نداءً إلى محمد إبراهيم عقال

رئيس منطقة الشمال الغربي لإيجاد تعاون مشترك بين المنطقتين حتى ولو يصل هذا

التعاون إلى درجة الاندماج بين المنطقتين اللتين كان يسود بينهما التوتر طيلة

الفترات الماضية.

ومن جهة أخرى وفي ظل التنسيق بين أمراء الحرب لمواجهة خطورة

الحكومة الجديدة خوفاً من اقتلاع نفوذهم؛ فقد استقبل عبد الله يوسف خمسة من

رؤساء الفصائل على رأسهم حسين عيديد وعثمان عاتو بتاريخ ٢/٩/٢٠٠٠م،

وأصدروا بياناً مكوناً من ست نقاط يؤكدون فيها رفضهم نتائج مؤتمر عرتا وما

تمخض عنه من تكوين الحكومة الصومالية؛ والشيء الغريب في هذا البيان أنهم

ينادون بإقامة مؤتمر مصالحة جديد عن طريق رؤساء الفصائل (أمراء الحرب) ،

فهل سيختلف هذا المؤتمر الذي ينادون إليه عن مؤتمراتهم السابقة التي كانت تنتهي

بالإخفاق إثر تبادل الشتم واللعن بين أمراء الحرب؟ وما الذي جعل العقيد عبد الله

يوسف الذي كان يقول إنه لن يستقبل بعض رؤساء الفصائل مثل حسين عيديد فإذا

به يستقبلهم ويرحب بهم في عقر داره؟ إنه الشعور بالضغط الداخلي والخارجي

وتقلص دور قادة الحرب ونفوذهم في الصومال.

بقي في هذا الصدد أن نشير إلى أن موقف عبد الله يوسف أضعف بكثير من

موقف عقال؛ فغالبية الشعب في مناطق الشمال الشرقي تؤيد مؤتمر عرتا ونتائجه؛

كما أن حضور هذه المنطقة في مؤتمر عرتا كان قوياً وفعالاً رغم محاولة عبد

الله يوسف منع اشتراك الوفود وعرقلة وصولهم إلى جيبوتي؛ حيث انعقد

مؤتمر المصالحة.

٢ - تحقيق الصلح بين العشائر المختلفة، وإعادة الثقة فيما بينها، وإزالة

المظالم وإعادة الممتلكات إلى أهلها، فهذه العناصر تعتبر محكاً واختباراً لدولة

الرئيس الجديد عبدي قاسم الذي ذكر في برنامجه الانتخابي أنه يكرس جهوده لعلاج

هذه المشكلات؛ فالجراحات التي تحتاج إلى الضماد كثيرة ومتشعبة؛ فهناك العديد

من الممتلكات من البيوت السكنية والعمائر والمزارع أخذت من أيدي أصحابها

واستولت عليها ميليشيات من عشائر أخرى، كما أن بعض المناطق يشعر أهلها

أنهم محتلون من قبل ميليشيات غزتهم من مناطق بعيدة؛ وذلك مثل مدينة كسمايو

الاستراتيجية التي تعتبر بؤرة المشاكل في جنوب الصومال حيث واجهت صراعاً

مريراً حول السيطرة عليها طيلة سنوات الحرب الماضية؛ فنجاح الرئيس منوط

بكيفية علاجه لهذه المشكلات التي نجمت عن الأوضاع المأساوية التي يأكل القوي

فيها الضعيف طيلة السنوات العشر الماضية؛ حيث كان نظام الغابة هو المعمول به

في الصومال، وأعتقد أنه ليس لدى الرئيس الجديد أداة حاسمة لعلاج هذه المشكلات

بين عشية وضحاها، ولكن الأمر يتطلب تعاوناً مشتركاً من الجميع، وصبراً طويلاً

إلى أن يستعيد الصومال عافيته.

٣ - تكوين مؤسسات الدولة وإقامة البنية التحتية: عندما يأتي رئيس معين

إلى رئاسة دولةٍ ما فإنه يأتي إلى جهاز قائم متكامل بدءاً من الموظف الصغير

وانتهاءً إلى الوزير بالإضافة إلى المعدات والأجهزة والمكاتب المختلفة؛ مما يجعل

مهمة هذا الرجل سهلة وطبيعية، ولكن مهمة الرئيس الصومالي الجديد تختلف عن

هذا بكثير؛ حيث يأتي إلى حكومة لا يتوفر لها مكتب مؤثث واحد ولا سجلات ولا

أرشيف عدا تلك الأوراق التي في محفظة الرئيس من نتائج مؤتمر المصالحة في

عرتا، وكما أشرنا سابقاً فإن البنية التحتية والمرافق العامة التي تقدم الخدمات

الاجتماعية للشعب منهارة تماماً وسوف تؤسس من الصفر، ومع هذا إذا تضافرت

الجهود ونسيت آلام الماضي لبناء آمال المستقبل، وخلصت النيات فإنه يمكن

تجاوز هذه العوائق في فترة زمنية محدودة بمشيئة الله.

٤ - تغيرت تركيبة المجتمع في خلال فترة الحروب الأهلية؛ فالطبقة المدنية

من سكان المدن المتعلمين والحرفيين وغيرهم هاجروا إلى خارج الصومال وخاصة

إلى بلاد الغرب، وحل محل هؤلاء سكان الأرياف والبوادي الذين نزحوا إلى المدن

بحثاً عن مصدر المعيشة، ولما كان هؤلاء لا يجيدون أي حرفة، ولانعدام

المؤسسات الحكومية التي تستطيع أن تؤهلهم لأي عمل، فقد التحقوا بصفوف

الميليشيات القبلية وانخرطوا فيها؛ فالعقبة أمام الحكومة الجديدة هي كيف تعيد

الكوادر والعقول المهاجرة إلى البلاد لتشترك في بناء الصومال الجديد؟ وكيف

تؤهل الطبقة النازحة من الأرياف التي حلت محل أهل المدن سابقاً حتى لا يكونوا

عالة على المجتمع؟

٥ - عدم وجود جيش وجهاز شرطة يقوم بتنفيذ مهمات الحكومة الجديدة من

استتباب الأمن الداخلي والخارجي؛ حيث كان الجيش والشرطة أول مؤسستين

انهارتا في البلاد؛ فهل ترى تتمكن الحكومة الجديدة من تكوين الجيش والشرطة،

أم هي بحاجة إلى الاستعانة بقوات حفظ سلام خارجية؟ أعتقد أن بإمكان الحكومة

الجديدة تكوين هاتين القوتين في فترة وجيزة إذا توفر لها الدعم اللازم؛ وقد خطت

اللجنة التي كونها الرئيس الجديد من بعض الجنرالات بعض الخطوات الإيجابية في

هذا الصدد في مقديشو العاصمة.

٦ - الملف الصومالي الإثيوبي: تناوُلُ هذا الموضوع قد يكون سابقاً لأوانه

حيث إن الحكومة الصومالية الجديدة لا تستطيع الالتفات إلى اليمين أو اليسار عدا

ترميم الدولة الصومالية ومؤسساتها إلا أن المشكلة (الصومالية الأثيوبية) أكبر من

أن تتناسى ولا يشار إليها في مثل هذا التقرير الذي خصص لتناول العقبات أمام

الحكومة الصومالية الجديدة؛ إذ من المعروف أن الحكومة الإثيوبية هي التي

أسقطت الحكومات الصومالية السابقة من خلال الجبهات الصومالية المنطلقة

والمدعومة من قبل إثيوبيا بدءاً من العقيد عبد الله يوسف الذي يعتبر أول من خرق

الإجماع الصومالي وسن سنة اللجوء إلى إثيوبيا في إثر المحاولة الانقلابية التي قام

بها هو ومجموعة من الضباط عقب العودة من حرب أوجادين عام ١٩٧٨م،

وانتهاءً بسيلانو وعبد الرحمن تور والجنرال عيديد والعقيد أحمد عمر جيس في

بداية عقد الثمانينيات ونهايته من القرن العشرين، وقد كان هذا في عهد رئيس

إثيوبيا السابق منجستو وانطلاقاً من القومية الأمهرية. وفي حديث لمنجستو في

منفاه في زيمبابوي قال: «سيذكرني أبناء إثيوبيا بالدور الذي قمت به للقضاء على

عدو إثيوبيا التاريخي الذي كان الخطر الأكبر لوجودنا» ويقصد بذلك الصومال،

وعندما تسلمت حكومة ملس زيناوي مقاليد الحكم في إثيوبيا واصلت مسيرة العداء

والكيد للشعب الصومالي ولكن بأسلوب يختلف عن أسلوب الحكومات الإثيوبية

السابقة؛ حيث حاولت أن تقدم السم في خططها التدميرية بطبق من ذهب وكوب

من عسل في هذه المرة، فاستلمت ملف السلام الصومالي ورعت مؤتمرات السلام

في عاصمتها كرعي الذئب للغنم ولكن سرعان ما كشفت عن أنيابها فغارت على

أقاليم صومالية آمنة بحجج واهية، كما قامت بتوزيع السلاح بشكل عشوائي على

الفصائل المتحاربة في خطوة لا تهدف إلى حسم الصراع لطرف معين بقدر ما

تهدف إلى استمرار الحرب المستنزفة واستمرار حالة الفوضى وتغييب دور

الصومال الإقليمي والدولي؛ وحتى لا تتكرر المطالبة الصومالية بالأراضي

الصومالية المحتلة (أوجادين) من قِبَل إثيوبيا، وحتى لا تحظى الجبهات التي

تقاتل ضد الحكومة الإثيوبية في أوجادين بتقرير مصيرها بدعم من الحكومة

الصومالية كما كان يحصل سابقاً.

والمعروف أن القضية الأوجادينية تعتبر من أعقد القضايا في القرن الإفريقي

ولب الصراع الديني فيه؛ فهي امتداد للصراع والعداوات بين الصومال وإثيوبيا

التي تمتد جذورها إلى القرن التاسع الهجري في أيام الإمام (أحمد جري) ومَن قبله

من دول الطراز الإسلامي كإمارة الزيلع وإمارة هرر.

وهناك سؤال يطرح نفسه في هذا المجال هو: هل الحكومة الصومالية

الجديدة ستواصل سياسة الحكومات الصومالية السابقة في المطالبة بإقليم أوجادين

ودعم جبهاته التحريرية، أم تتنازل عن هذه القضية وتترك شأنها، أم تعالجها

بطرق أخرى؟ البحث في هذه المسألة سابق لأوانه كما أشرت سابقاً حتى يستعيد

الصومال كيانه وعافيته، ولكن تبقى مشكلة الشعب الصومالي في أوجادين قائمة؛

فهي أم المشكلات في القرن الإفريقي، وما لم تحل بطرق عادلة فإن الحروب

والقلاقل لا تزال تندلع في هذه المنطقة الحساسة من حين لآخر.

ثانياً: مظاهر الآمال في نجاح الحكومة الصومالية الجديدة:

ما تناولناه سابقاً يعتبر جزءاً من العقبات التي تعترض الحكومة الصومالية

الجديدة، ومع كثرة هذه العقبات إلا أن فرص النجاح لهذه الحكومة أكثر من عدم

نجاحها، وفيما يلي نشير إلى بعض تلك الفرص:

١ - ما تحظى به هذه الحكومة من تأييد شعبي واسع في الداخل والخارج؛

حيث يمكن القول إن أكثر من ٩٥% من الشعب مؤيد لهذه الحكومة؛ حيث إن

مؤتمر عرتا هو المبادرة الوحيدة التي حظيت بهذا التأييد المنقطع النظير من قبل

قوى المجتمع المختلفة من العلماء والتجار وشيوخ القبائل والمثقفين والمحاكم

الإسلامية والحركات الإسلامية والجمعيات الخيرية، ولا يعارضها إلا مجموعة من

أمراء الحرب الذين نأمل أن ينضموا إلى المسيرة السلمية واحداً تلو آخر.

٢ - تجانس الشعب الصومالي: حيث تختلف الصومال عن المجتمعات

الإفريقية لشخصيتها المتجانسة أساساً؛ فلا يوجد انقسام ديني، أو انقسامات عرقية،

أو اختلاف في اللغة أو العادات والتقاليد وحتى في المذهب الفقهي، وإن ما

يفرقهم بعد أن اتحدوا في جميع عوامل الاتحاد الأخرى هو العصبية القبلية فقط،

والقبيلة قد تستخدم للخير كما استخدمها الرسول صلى الله عليه وسلم في غزواته

عند توزيع جيوشه على لواءات عشائرية؛ حيث هذا أدعى للثبات والإقدام على

الجهاد، وقد تستخدم القبيلة للشر كالحالة الصومالية، وهي التي حذر منها الرسول

صلى الله عليه وسلم في أحاديث عدة.

٣ - هناك بعض التقارير تشير إلى أن المجتمع الدولي يحبذ إيجاد دولة ونظام

في الصومال وإعادته إلى حظيرة الشرعية الدولية؛ وذلك خوفاً من ظهور حركات

إرهابية وأصولية حسب تعبيرهم تسيطر على هذا الموقع المهم من القرن الإفريقي

والبوابة الجنوبية للبلدان العربية.

٤ - جميع العوامل التي ذكرنا أنها كانت سبباً في إحباط جميع المبادرات

والمؤتمرات السابقة والتي تحاشاها المؤتمر الحالي في عرتا وتجنب سلبياتها تعتبر

عوامل نجاح بالنسبة للحكومة الصومالية الجديدة.

٥ - يتوقف نجاح الحكومة الجديدة إلى حد كبير على ما ستحظى به من دعم

من المجتمع الدولي والإقليمي من الناحية السياسية والاقتصادية، ولكن إذا استعانت

بالله، ووحدت الصف الداخلي للشعب الصومالي، وأخذت بالأسباب اللازمة لذلك

فإن الحكومة الجديدة سيتحقق لها النجاح بمشيئة الله ولو لم تجد أي دعم من الخارج.

توصيات واقتراحات:

١ - أوصي الرئيس الجديد أن يتقي الله في الأمانة التي تحمَّلها والتي امتنعت

من قبولها السماوات والأرض والجبال [وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً]

(الأحزاب: ٧٢) .

٢ - كما أوصي الرئيس الجديد أن يحقق ما تعهد به في برنامجه الانتخابي

وتصريحاته السابقة في أن يطبق شريعة الله في الأرض، وألاَّ يكون مثل أولئك

الذين يستخدمون الشريعة والدين ورقة انتخابية ثم إذا تمكنوا حاربوه وذبحوا أهله

من العلماء والدعاة إلى الله وزجوا بهم في السجون. وتطبيق الشريعة الإسلامية هو

المخرج الوحيد الذي يستطيع أن ينقذ الصومال من ويلاته، والمعروف أن جميع

الأنظمة الوضعية من الرأسمالية والشيوعية الاشتراكية والقبلية كلها أثبتت إخفاقها

الذريع في الصومال، وأورثتنا ما نعاني منه الآن.

٣ - لا بد أن يحرص الرئيس الجديد على تولية الأكفأ والأصلح للوظائف

والولايات المختلفة، وأن يضع الرجل المناسب في المكان المناسب، وأن يتوخى

الصالحين في اختياره لأعوانه وبطانته، وأن يكون معياره في تقديم الرجال بعضهم

على بعض اختيار القوي الأمين.

٤ - وليكن شعارك شعار خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر

الصديق رضي الله عنه في خطبته التي يقول فيها عندما اختاره المسلمون وبايعوه

البيعة العامة: «إني وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وأن

أسأت فقوِّموني، الصدق أمانة والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى

أرجع عليه حقه إن شاء الله والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء

الله. لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في

قوم إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله؛ فإذا عصيت الله

ورسوله فلا طاعة لي عليكم» .

٥ - في مقابل ذلك أوجه نداءاً إلى أبناء الشعب الصومالي أن يتحدوا

وينضموا وراء قائدهم الجديد، وأن يعينوه في الخير، وأن ينسوا مخلفات العصر

الجاهلي، وأن يترفعوا عن أية حسابات شخصية من شأنها تعطيل مسيرة المصالحة،

وأن يرموا أمراء الحرب عن قوس واحدة حتى لا يفسدوا هذه الفرصة النادرة التي

قيضها الله للرئيس الجيبوتي إسماعيل عمر جيلة التي لا قدر الله إذا أحبطت فقد

تكون آخر فرصة للسلام في الصومال مما يجعل هذا البلد الهام في ذمة التاريخ.

وأملنا في الله كبير أن نرى الصومال قد استعاد عافيته وقُيِّض له رجال صالحون

أكفاء يطبقون شريعة الله فيه ويقودون السفينة إلى بر الأمان.

هذا وبالله التوفيق، والله من وراء القصد،


(*) نعتقد أن جر النساء للعمل السياسي مهما كانت الأسباب إخراج لها عن فطرتها وانحراف بها
عن رسالتها
- البيان -.
(١) انظر لمزيد من التوسع حول هذا الموضوع مقالي: (الصومال بعد رحيل سياد بري) ، المنشور بمجلة البيان في عددها (٣٩) عام ١٩٩١م، محمد حاج يوسف: (الاعتداءات الإثيوبية على الصومال) ، المنشور بمجلة البيان في عددها (١٥٣) عدد جمادى الأولى ١٤٢١هـ/٢٠٠٠م،
عبد يوسف فارح: (إثيوبيا وأكذوبة الوسيط النزيه بين الفصائل الصومالية) ، المنشور بجريدة المستقلة في عددها (١٩٠) بتاريخ ٢٢ شعبان ١٤١٨هـ ٢٢ ديسمبر ١٩٩٧م.