للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

دراسات اقتصادية

آراء وتأملات في فقه الزكاة

(٢)

د. محمد بن عبد الله الشباني

في الحلقة السابقة تمت مناقشة أنواع الأموال التي أشار القرآن الكريم إلى

وجوب زكاتها، وإلى المفهوم اللغوي لكلمة المال، وفي هذه الحلقة سيتم مناقشة

القواعد والضوابط والشروط التي تحدد صفة المال الذي تجب فيه الزكاة:

ضوابط ما يجب زكاته من أموال:

يختلف المعنى الشرعي للمال لدى فقهاء المذاهب، فمنهم من يرى: أن المال

هو كل ما يمكن حيازته والانتفاع به على وجه معتاد، وقد اختُلف حول مفهوم

الحيازة لدى الشافعية والمالكية والحنابلة، إذ لا يقتصر مفهوم الحيازة على إمكان

إحرازه بنفسه، بل يكتفى بحيازة أصله ومصدره، وبحسب هذا المفهوم للحيازة

تكون المنافع أموالاً [١] .

على ضوء ما سبق من مفهوم للمال سواء وفق المفهوم اللغوي أو الشرعي،

فهل يمكن اعتبار كل ما يملكه الإنسان مما له قيمة مالاً، وبالتالي تجب فيه الزكاة

مهما يكن مقداره ومهما تكن الحاجة إليه؟ .

إن الإجابة على هذا التساؤل تتم من خلال دراسة ضوابط وشروط المال الذي

تجب فيه الزكاة.

وتتمثل هذه الضوابط والقواعد في الأمور التالية:

الضابط الأول: تمام الملك:

ويقصد به الحيازة وحق التصرف فيه، أما حقيقة الملك فهي لله وحده؛ فهو

منشئه وخالقه وواهبه ورازقه، يقول (تعالى) : [وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَذِي آتَاكُمْ] [النور: ٣٣] ، ويقول: [وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ] [الحديد: ٧] ، أما

ملك الإنسان للمال فهو ملك حيازة وتصرف وانتفاع، لا تملك إيجاد وإنشاء؛ لهذا

نرى أن القرآن الكريم حينما يضيف المال إلى الإنسان فهو يؤكد هذا المعنى، كما

في قوله (تعالى) : [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ] [المنافقون: ٩] ، وقوله

(تعالى) : [يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ] [الهمزة: ٣] ، وقوله (تعالى) : [مَا أَغْنَى عَنْهُ

مَالُهُ وَمَا كَسَبَ] [المسد: ٢] ، فتمام الملك في المفهوم الشرعي كما عرّفه القرافي

في (الفروق) هو: (حكم شرعي قُدِّر وجوده في عين أو في منفعة، يقتضي تمكين

من أضيف إليه من الأشخاص من انتفاعه بالعين أو بالمنفعة أو الاعتياض عنها ما

لم يوجد مانع من ذلك) (٢) .

يرتب هذا الشرط على المال بعض الأحكام، من حيث أن يكون مرجوّاً غير

ميئوس منه، وهذا الأمر يقتضي إما وجوب الزكاة أو عدم وجوبها، فمثلاً عدم

وجوب الزكاة على أموال الدولة التي تجبيها مثل أموال الزكاة أو ما تمتلكه ملكية

عامة مثل المرافق المنتجة المملوكة بالكامل للدولة، حيث إن عائد هذه الملكية

وأصل المال يرجع إلى المسلمين بأجمعهم، وما تكسبه الدولة من هذا المال تصرفه

على مصالح المسلمين.

كما يترتب على مفهوم تمام الملك موضوع الديون ومدى وجوب الزكاة فيها،

وعلى من تجب؟ على الدائن أم المدين؟ ومتى يتحقق الوجوب؟

إن موضوع الديون من الموضوعات المهمة بالنسبة لتحديد وعاء الزكاة؛

ولهذا: نرى اختلاف الفقهاء (رحمهم الله) حول الديون ومدى وجوب الزكاة فيها،

ويقسم جمهور الفقهاء الدّين إلى نوعين:

١- دين مرجو الأداء، بأن يكون لدى موسر مقر بالدين، فهذا يزكى مع

المال في كل حول، وقد روى أبو عبيد القاسم بن سلام رأي علماء السلف في ذلك

بأن يزكى مع المال الحاضر؛ لما رواه عن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) أنه

كان إذا أخرج العطاء أخذ الزكاة من شاهد المال عن الغائب والشاهد.

كما روى ذلك عن عثمان (رضي الله عنه) وأنه كان يقول: (إن الصدقة تجب

في الدين الذي لو شئت تقاضيته من صاحبه، والذي هو على مليء تدعه حياء أو

مصانعة، ففيه الصدقة) ، كما روى عن ابن عمر (رضي الله عنه) أنه كان يقول:

(كل دين لك ترجو أخذه فإن عليك زكاته كلما حال الحول) ، كما روى ذلك عن

جابر بن عبد الله (رضي الله عنه) ، وقد وافق عدد من التابعين هؤلاء الصحابة،

منهم: مجاهد، ومروان بن مهران [٣] .

٢- الدين غير المرجو تحصيله، ففيه مذاهب، هي:

الأول: تزكيته عند القبض لما مضى من السنين، وهو مذهب علي وتابعه

ابن عباس (رضي الله عنهم) ، فكان علي (رضي الله عنه) يقول في الدين المشكوك

فيه: (إن كان صادقاً فيزكه إذا قبضه لما مضى) ، ويقول ابن عباس (رضي الله

عنه) : (إذا لم ترج أخذه فلا تزكه حتى تأخذه، فإذا أخذته: فزكِّ عنه ما عليه) .

الثاني: تزكيته عند القبض لسنة واحدة، وهو مذهب الحسن، فقد روى أبو

عبيد عنه أنه كان يقول: (إذا كان للرجل دين حيث لا يرجوه فأخذه بعد: فليؤد

زكاته سنة واحدة) [٤] .

وكان يقول بذلك عمر بن عبد العزيز (رضي الله عنه) ، فقد روى عنه ... ميمون بن مهران قائلا: (كتب إليّ عمر بن عبد العزيز في مال رده عليّ رجل، فأمرني أن آخذ منه زكاة ما مضى من السنين، ثم أردفني كتاباً أنه كان مالاً ضماراً فخذ منه زكاة عامه) [٥] .

الثالث: أنه لا زكاة عليه، وهو مذهب أبي حنيفة، باعتباره مثل المال

المستفاد، يستأنف به صاحبه الحول، فلا زكاة فيه [٦] .

وقد اختار أبو عبيد القاسم بن سلام الرأي الأول فيما يتعلق بالدين المرجو:

أنه لا زكاة فيه حتى يتم قبضه وتزكيته عما مضى، وعلل رأيه بقوله: ... (وإنما اختاروا من اختار منهم تزكية الدين مع عين المال؛ لأن من ترك ذلك حتى يصير إلى القبض لم يكن يقف من زكاة دينه على حد، ولم يقم بأدائها؛ وذلك أن الدين ربما اقتضاه ربه متقطعاً كالدراهم الخمسة والعشرة وأكثر من ذلك وأقل، فهو يحتاج في كل درهم يقتضيه مما فوق ذلك إلى معرفة ما غاب عنه من السنين، والشهور والأيام، ثم يخرج من زكاته لحساب ما يصيبه، وفي أقل من هذا ما تكون الملامة والتفريط، ولهذا: أخذوا بالاحتياط، فقالوا: تزكيته مع جملة ماله في رأس الحول، وهو عندي وجه الأمر، وهذا كله في الدين المرجو الذي يكون على الثقات) [٧] .

ونحن نميل إلى هذا الرأي فيما يتعلق بالدين المرجو، أما بالنسبة للدين غير

المرجو والمشكوك في تحصيله: فنميل إلى الأخذ بالمذهب الثاني، وقد أخذ به من

الفقهاء المعاصرين: فضيلة الدكتور (القرضاوي) [٨] ، وهو أن يتم تزكيته عند

قبضه لعام واحد، باعتباره ميئوساً منه، وأنه بمثابة المال المستفاد الذي يتم إخراج

زكاته عند تحصيله دون اشتراط الحول.

إن الأخذ بهذا الرأي سوف يحقق أمرين:

أولهما: عدم إضاعة حق الفقراء والمساكين عند تحصيله.

ثانيهما: أنه لو تم احتساب زكاته عما مضى لكل سنة فقد يكون فيه ضرر

على صاحب المال، فقد تستغرق الزكاة الدّين جميعه، كما قد يصعب تحديد فترات

الحول، وخاصة بالنسبة للتجار الذين يتعاملون مع أعداد كبيرة من المدينين.

الضابط الثاني: النماء:

يقصد بالنماء: أن المال الذي تؤخذ منه الزكاة يكون نامياً بذاته، بالتوالد،

والتناسل، والتجارات، أو قابلاً للنماء، والذي من شأنه أن يدر على مالكه ربحاً أو

غلة أو إيراداً، بحيث يكون هو نفسه نماءً أو فضلاً وزيادة، مثل مدخرات النقود.

إن الحكمة من اشتراط النماء كما ذكر ابن قدامة: أن (الزكاة إنما وجبت

مواساة، ولم نعتبر حقيقة النماء؛ لكثرة اختلافه وعدم ضبطه، ولأن ما اعتبرت

مظنته لم يلتفت إلى حقيقته، كالحكم مع الأسباب، ولأن الزكاة تتكرر في هذه

الأموال، فلا بد لها من ضابط؛ كي لا يفضي إلى تعاقب الوجوب في الزمن الواحد

مرات، فينفد مال المالك) [٩] ، ويحدد الكاساني الحكمة من ذلك في (بدائع

الصنائع) من زاوية أخرى، فيقول: (ولا نعني به حقيقة النماء؛ لأن ذلك غير

معتبر، وإنما نعني به كون المال معدّاً للاستثمار بالتجارة أو الإسامة؛ لأن الإسامة

سبب لحصول الدر والنسل والسِّمَن، والتجارة سبب لحصول الربح، فيقام السبب

مقام المسبب ويعلق الحكم به، كالسفر مع المشقة.. ونحو ذلك) [١٠] .

إن تأثير هذا الضابط على الأموال التي تجب فيها الزكاة يتمثل في مدى

شمولية واتساع الأموال الخاضعة للزكاة، وهو مجال اختلف فيه الفقهاء، فمثلاً لا

يأخذ ابن حزم بشرط النماء، وإنما يطبق الزكاة على الأصناف التي أخذ منها النبي - صلى الله عليه وسلم- الزكاة، وبالتالي: فهو لا يوجب الزكاة، على الأصناف

الأخرى، أما من جعل من ضوابط المال الخاضع للزكاة ضابط النماء: فقد أفسح

المجال لخضوع جميع الأموال مهما تنوعت وتغيرت أنماطها، وقد دلت آيات

القرآن الكريم والأحاديث التي أوجبت الحقوق في الأموال على ذلك، ولا يتم

استثناء بعض الأموال من الزكاة إلا بدليل شرعي يخرجها من هذا الضابط.

الضابط الثالث: بلوغ النصاب:

يضع هذا الضابط حدّاً للمال الذي تجب فيه الزكاة، والذي يتمثل في بلوغ

النصاب، فإذا بلغ المال هذا الحد وجبت فيه الزكاة، وما لم يبلغه المال فلا زكاة

فيه، وبالتالي: فإن مقدار الزكاة يتفاوت بتفاوت المال وفق تفاوت الأنصبة، وقد

حددت السنة الأنصبة لمختلف أنواع الأموال بحيث لا يستوجب المال الزكاة إلا إذا

بلغها، كما ربطت الأنصبة بجنس المال.

إن اعتبار النصاب أحد الضوابط في اشتراط وجوب الزكاة فيه إرشاد إلى

الغاية من فرض الزكاة، فالغاية منها: تحقيق التكافل الاجتماعي بين أفراد الأمة،

وقيام أغنياء الأمة بكفالة فقرائها والمحتاجين من ذوي النوائب.

ومقدار الأنصبة وتحديدها قد يفهم منه الإرشاد إلى الحدود الدنيا لكفاية الإنسان

وضرورة الاسترشاد بذلك بدراسة حجم الأموال التي تخرج الإنسان من دائرة الفقر

إلى دائرة الغنى.

إن من الإشكاليات التي تطرح حول مقادير الأنصبة: ثباتها، فمثلاً: إن قيمة

مئتي درهم أو خمسة أوسق قد لا تكفي حاجة الإنسان إذا نظر إلى أن الأنصبة تمثل

حدود الفقر والغنى، وعليه: فهل يمكن رفع مقدار الأنصبة بما يعادل الزيادة في

تغير قيمتها بمرور الزمن؟ .

إن هذا التساؤل مهم إذا نُظر إلى الأنصبة باعتبارها حدود الإعفاء، واعتبار

الزكاة ضريبة، أي: نظر إلى الزكاة باعتبارها أداة من أدوات المالية العامة،

وبالتالي: فيعتبر النصاب هو حد الإعفاء، ومن هنا: ينبغي النظر في رفع

النصاب باعتباره حد الإعفاء وفق التغير في قيمة السلع والمنافع.

إن الرد على ذلك وفق ما أشرنا إليه في الحلقة الماضية: أن أصل الزكاة

عبادة، يجب على الفرد المسلم أداؤها إذا توفر لديه النصاب، وتحديد النصاب أمر

توقيفي، لذا: تظهر ضرورة قياس أنصبة الأموال المستجدة بالأموال التي ورد فيها

النص.

إن بعض الباحثين المعاصرين عند مناقشته لأنصبة الزكاة أو التعرض لأحكام

الزكاة ينظر للأمر من زاوية التشريعات المالية المعاصرة، وبموجب هذه النظرة:

فقد يحدث مخالفة الأحكام الواردة في الأحاديث النبوية المتعلقة بالزكاة، كما ينبني

على هذه النظرة أن الشريعة الإسلامية تحاكي في تشريعها المالي النظام المالي

المعاصر، والذي يضع حدوداً للإعفاء لمقابلة احتياجات الممولين، ولكن الشريعة

بكمالها لم تغفل هذا الجانب من تأثير التغير في قيمة النصاب، حيث تم استيعاب

ذلك من خلال الضابط الرابع، وهو: الفضل عن الحوائج الأصلية.

الضابط الرابع: الفضل عن الحوائج الأصلية:

إن وجوب الزكاة في المال وفق ما يذهب إليه الأحناف لا يجب إلا إذا كان

النصاب فاضلاً عن الحاجة الأصلية لمالكه، وقد استُدل بأحاديث، منها: ما رواه

الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:

(إنما الصدقة عن ظهر غنى) [١١] ، وفي رواية: (لا صدقة إلا عن ظهر غنى) ،

وما ورد عن الصحابة في تفسيرهم لقوله (تعالى) : [وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ

العَفْوَ] [البقرة: ٢١٩] ، فعن ابن عباس (رضي الله عنهما) : العفو: ما يفضل

عن أهلك، وقد ذكر ابن كثير أن هذا القول قال به ابن عمر، ومن التابعين:

مجاهد، وعطاء، وعكرمة، وسعيد بن جبير.

وترد بقية المذاهب على ذلك بعدم اشتراط هذا الضابط بحمل الحديث وما جاء

في تفسير الآية على صدقة التطوع والإنفاق المندوب لا الواجب، وعلى هذا: لا

يمكن اعتبار أنه لا يزكى إلا ما فضل عن حاجة الشخص حيث إن الحاجة نطاقها

واسع حتى ولو حددت بالأمور الأساسية، كما أن الأحاديث الواردة في الزكاة

والسنة الفعلية للرسول -صلى الله عليه وسلم- لم تعمد إلى تحديد الحوائج الأصلية، وقد كانت الزكاة تؤخذ ممن توفر لديه النصاب بدون نظر إلى الحاجة، كما يُرَد

على ذلك: بأن شرطي النماء والنصاب كافيان عن اشتراط الفائض عن الحوائج؛

لأنه لا صدقة إلا عن ظهر غنى حقيقي، فلا يمكن حينئذ أن يصل المال إلى

النصاب والإنسان لا يكفي حاجته الأساسية، كما أن شرط الحول يقتضي أن

الإنسان سيقوم بالصرف على حاجته من ماله، فإذا حل الحول وهناك فائض وصل

حد النصاب: فإن ذلك مؤشر على سداد الإنسان لحاجته.

الضابط الخامس: السلامة من الدين:

يقصد بهذا الضابط: ألا يكون مالك النصاب مديناً لأحد دَيْناً يستغرق نصاب

الزكاة، أو ينقصه عن النصاب، ففي هذه الحالة لا زكاة عليه.

لقد اختلف الفقهاء حول هذا الضابط، وهل يتم استقطاع الديون الواجبة على

مالك المال من وعاء الزكاة؟ .

واختلف الفقهاء في استقطاع الديون الواجبة على مالك المال (المكلف) من

وعاء الزكاة، فبالنسبة للأموال الباطنة (النقود وعروض التجارة) فإن جمهور

الفقهاء ذهبوا إلى أن الدّين يمنع وجوب الزكاة أو ينقص بقَدْره قيمتها، وذهب

بعض الفقهاء (فيما يتعلق بالأموال الظاهرة) إلى أن الدين لا يمنع وجوب الزكاة فيها، حيث إن تعلق الزكاة فيها أظهر، وبذلك: فالزكاة أوكد، وقد قال بهذا مالك

والأوزاعي والشافعي، وورد عن أحمد [١٢] .

وبالنسبة للدين في الزروع: فقد اختلف ابن عمر وابن عباس (رضي الله

عنهما) كما ذكره ابن قدامة، حيث قال: (روي عن أحمد أنه قال: قد اختلف ابن

عمر وابن عباس، فقال ابن عمر: يُخرج ما استدان أو أنفق على ثمرته وأهله،

ويزكي ما بقي، وقال الآخر: يخرج ما استدان على ثمرته، ويزكي ما بقي،

وإليه أذهب: أن لا يزكي ما أنفق على ثمرته خاصة ويزكي ما بقي) [١٣] .

وعلى ضوء ما سبق ووفقاً لهذا الضابط: فإنه يمكن تحقيق وعاء الزكاة

بالديون المستحقة على صاحب المال، ولكن يشترط أن يلاحظ ضرورة ثبات الدين

وصحته، وقيام صاحب المال بالسداد في وقت حلوله، وألا يماطل به وفق ما أشار

إليه عثمان بن عفان (رضي الله عنه) كما روى ذلك أبو عبيد عن السائب بن يزيد،

قال: سمعت عثمان بن عفان يقول: (هذا شهر زكاتكم فمن كان عليه دين فليؤده،

حتى تخرجوا زكاة أموالكم) [١٤] .

الضابط السادس: الحول:

إن مفهوم الحول هو: أن يمر على المال اثنا عشر شهراً عربيّاً، وهذا

الشرط خاص بالنقود والثروة الحيوانية وعروض التجارة، أما ناتج الأرض

والمستخرج من المعادن والكنوز ونحوها من الأموال المستفادة فلا يشترط لها مرور

الحول.

إن علة عدم تطبيق ضابط الحول على جميع الأموال أشار إليها الإمام ابن

قدامة بقوله: (الفرق بين ما اعتبر له الحول وما لم يعتبر له: أن ما اعتبر له

الحول مرصد للنماء، فالماشية مرصدة للدر والنسل، وعروض التجارة مرصدة

للربح، وكذا: الأثمان، فاعتبر له الحول؛ لأنه مظنة النماء؛ ليكون إخراج الزكاة

من الربح، فإنه أسهل وأيسر، ولأن الزكاة إنما وجبت مواساة، ولم نعتبر حقيقة

النماء؛ لكثرة اختلافه وعدم ضبطه، ولأن ما اعتبرت مظنته لم يلتفت إلى حقيقته، كالحكم مع الأسباب، ولأن الزكاة تتكرر في هذه الأموال، فلا بد لها من ضابط

كيلا يفضى إلى تعاقب الوجوب في الزمن الواحد مرات، فينفد مال المالك، أما

الزروع والثمار: فهي نماء في نفسها، تتكامل عند إخراج الزكاة منها، فتؤخذ

الزكاة منها حينئذ، ثم تعود في النقص لا في النماء، فلا تجب فيها زكاة ثانية؛

لعدم إرصادها للنماء، والخارج من المعدن مستفاد خارج من الأرض بمنزلة الزرع

والثمر، إلا إنه إن كان من جنس الأثمان ففيه الزكاة عن كل حول؛ لأنه مظنة

للنماء، من حيث إن الأثمان قيم الأموال ورأس مال التجارات، وبهذا تحصل

المضاربة والشركة وهي مخلوقة لذلك، فكانت بأصلها وخلقتها كمال التجارة المعد

لها) [١٥] .

إن اشتراط الحول كضابط من ضوابط المال الذي تجب فيه الزكاة، قد قسم

على ضوئه الأموال إلى نوعين: ما أجمع عليه جمهور الفقهاء، ويشمل الذهب

والفضة والماشية، لثبوت ذلك عن الخلفاء الأربعة، ولانتشاره في الصحابة (رضي

الله عنهم) ، ولانتشار العمل به [١٦] ، أما بالنسبة لبقية الأصناف الأخرى من

الأموال مما لا يشترط فيه الحول: فقد اختلف الصحابة والتابعون فيه:

فقد جاء عن ابن مسعود وابن عباس ومعاوية (رضي الله عنهم) وجوب تزكية

المال عند استفادته دون اشتراط الحول، وجمهور الصحابة ومنهم: أبو بكر،

وعمر، وعثمان، وعلي (رضي الله عنهم) على خلافهم، وهذا يتعلق بالمال

المستفاد من غير جنس ما عنده.

ويقصد بالمال المستفاد: كل مال يدخل في ملكية الشخص بعد أن لم يكن له،

وتنقسم الأموال المستفادة إلى قسمين: أموال تجب فيها الزكاة عند الحصول عليها،

مثل: الزروع والثمار والمعادن إذا بلغت النصاب، وقسم يدخل ضمن الأموال

الحولية، مثل: النقود، وعروض التجارة، والماشية، وقد أشار ابن قدامة إلى

أحوال المال بالنسبة للأموال الحولية، وقسمها إلى قسمين [١٧] :

القسم الأول: المستفاد مما يعتبر له الحول ولا مال سواه وبلغ النصاب، أو كان له مال من جنسه لا يبلغ نصاباً فبلغ بالمستفاد نصاباً: فإن وجوب الزكاة تتم عند تمام الحول فيه.

النوع الثاني: إن كان عنده نصاب من جنس المال المستفاد، وقد قسمه إلى

ثلاثة أقسام: الأول: أن يكون المستفاد من النماء كربح مال التجارة ونتاج السائمة

فيضم إلى ما عنده من أصله، ويعتبر حولُ المال المستفاد حولَ أصله، وهذا متفق

عليه بين العلماء، الثاني: أن يكون المستفاد من غير جنس ماله: فلا يُضَم هذا

المال إلى ما عنده في زمن الحول ولا في النصاب، فإن بلغ نصاب زكاة بعد مضي

حول على اكتسابه وإن لم يبلغ النصاب: فلا شيء فيه، وهذا قول جمهور العلماء، لكن روي عن ابن مسعود وابن عباس ومعاوية (رضي الله عنهم) أن الزكاة تجب

فيه حين استفادته.

الثالث: أن يكون المال المستفاد من جنس نصاب ما عنده، وقد انعقد عليه

حول الزكاة بسبب مستقل، مثل: أن يكون عنده أربعون من الغنم مضى عليها

بعض الحول، فيُعطى مئة، ففي هذه الحالة اختلف فيها: هل تجب على الماشية

الزكاة أم لا، قال الشافعي: إنه لا تجب فيها الزكاة حتى يمضي حول عليها، وأما

أبو حنيفة فيرى أن يضم إلى ما عنده في الحول فيزكيهما جميعاً عند تمام حول

المال الذي كان عنده، إلا أن يكون عوضاً عن مال مزكى.


(١) انظر: فقه الزكاة، د يوسف القرضاوي، ج١، ص ١٢٥.
(٢) نقلاً عن المصدر السابق، ص ١٢٩.
(٣) الأموال، لأبي عبيد القاسم بن سلام، ص ٥٢٦ ٥٢٧.
(٤) المرجع السابق، ص ٥٢٨.
(٥) المال الضمار: هو الذي لا يظن صاحبه الحصول عليه، انظر: المرجع السابق، ص ٥٢٨.
(٦) انظر: المصدر السابق.
(٧) المرجع السابق، ص ٥٣٠ ٥٣١.
(٨) انظر: فقه الزكاة، ج١، ص٣٨.
(٩) المغني، ج٢، ص ٦٢٥.
(١٠) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، لعلاء الدين أبي بكر بن مسعود الكاساني، ج٢، ص ٢١.
(١١) أخرجه أحمد بن حنبل، ٢/٥٠١، والدارمي، وأخرجه البخاري (ك/ الزكاة، ١٨) ، وأحمد ابن حنبل (٢/٢٣٠) بلفظ: (لا صدقة إلا عن ظهر غنى) .
(١٢) انظر: فقه الزكاة، للقرضاوي، ج ١، ص ١٥٧.
(١٣) المغني، ج٣، ص ٤٢.
(١٤) الأموال، لأبي عبيد، ص ٥٣٤.
(١٥) المغني، ج٢، ص٦٢٥.
(١٦) انظر: فقه الزكاة، ج١، ص ١٦٢.
(١٧) انظر: المغني، ج٢، ص ٦٢٦ ٦٢٧.