للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الافتتاحية

وداعاً أيتها العدالة!!

لا توجد أمة من الأمم إلا وهي تنشد العدالة وتدعيها؛ قد تختلف تفاصيل هذه

العدالة والأسس التي تقوم عليها، ولكنا نظن أن هناك قدراً مشتركاً ينبغي أن يوجد

بين جميع الأمم في تصور هذه العدالة، ومن هذا القدر المشترك: تعامل الناس

جميعاً على أساس معايير واحدة، وإنصاف المظلوم والمجني عليه، وأن يعلو الحق

فوق القوة فإذا «الضعيف فيكم قوي عندي حتى أرجع عليه حقه إن شاء الله،

والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله» كما روي عن أبي بكر

الصديق رضي الله عنه.

ولكننا عندما ننظر في واقع (ولاة أمور العالم) لا نجد هذه البدهيات متحققة

خاصة إذا كان الأمر متعلقاً بالمسلمين.. قد يظن المرء أن ذلك راجع لعدم اعتبارهم

هؤلاء المسلمين مظلومين مضطهدين، ولكن استقراء الأحداث يدل على أن الحقيقة

خلاف ذلك:

ففي البوسنة وبعد استقلالها إثر استفتاء جرى بمراقبة دولية في نهاية فبراير

١٩٩٢م، أقر فيه ٦٤% من البوسنيين برغبتهم في الاستقلال، ليتوالى اعتراف

العالم بالبوسنة والهرسك جمهورية موحدة مستقلة.. أشعل الصرب - الذين ورثوا

ميليشيات ودولة، جيش يوغسلافيا أقوى رابع جيش في أوروبا - أشعلوا فتيل

الحرب في البلاد، سعياً لإخضاع المسلمين في البقاء ضمن الاتحاد اليوغسلافي،

واستغل الكروات الفرصة مدعومين عسكرياً واقتصادياً من أوروبا وخاصة ألمانيا

ومن دولتهم، فساهموا بنصيبهم في أكبر مجزرة للمسلمين في القارة الأوروبية منذ

سقوط غرناطة في القرن الخامس عشر..

ورغم تأسيس المسلمين دولتهم نتيجة استفتاء شعبي (ديموقراطي) واعتراف

(الشرعية الدولية المزعومة) بها فقد بقوا وحدهم يعانون شح المصادر وفقر التسلح؛

ثم رسَّخت هذه الشرعية الدولية هذا الوضع عندما صدر قرار أممي في بداية

الحرب يقضي بحظر التسلح على مناطق يوغسلافيا السابقة، وهو ما يعتبر قراراً

جائراً بحق المسلمين؛ حيث كانوا وحدهم المتضررين من هذا القرار؛ نظرا

لافتقارهم إلى العتاد وإلى تقاليد التسلح والتدريب العسكري، وعدم قيامهم بتهيئة

قوات ميليشيا لحمايتهم مثلما فعل الصرب والكروات.

وقد ساهمت هذه العوامل في وقوع المسلمين فريسة سهلة لمذابح بشعة

استمرت طوال سني الحرب الأربعة على أيدي الصرب والكروات، وهي مذابح

وقعت تحت سمع وبصر وأحياناً بمساهمة وتواطؤ قوات أممية أو أوروبية، وإليك

مثالاً منها:

فبعد أن أُعلنت مدينة سريبرنيتسا مدينة خاضعة لحماية منظمة الأمم المتحدة

أعلن الجنرال فيليب موريلون، قائد القوات الفرنسية المشاركة ضمن قوات حفظ

السلام الدولية، أنه سيدافع عن أي شخص مقيم في المناطق الموجودة تحت علم

الأمم المتحدة ... ومن ثم: توجه آلاف المسلمين إلى المدينة تاركين قراهم للاستفادة

من هذا الإعلان، فنزعت قوات الأمم المتحدة أسلحة الأهالي بحجة أن المجتمع

الدولي سينوب عنهم في حمايتهم.

وبعد ٤٨ ساعة شنت القوات الصربية هجوماً على المدينة، فهرب موريلون

ومساعدوه في سيارة أجرة، الأمر الذي اضطر اللاجئين إلى وضع أنفسهم تحت

حماية القوات الهولندية التي تعمل تحت علم الأمم المتحدة، إلا أن هذه القوات ردت

المسلمين وبقيت في معسكراتها، فأصبح المسلمون فريسة مكبلة في مرمى

الميليشيات الصربية المتعطشة للدماء؛ مما مكنهم من تنفيذ مذبحة راح ضحيتها

٨٠٠٠ بوسني.

لم ينحز المجتمع الدولي إلى العدالة رغم علمه بالطرف الضحية والمظلوم،

وإنما انحاز إلى معاييره الخاصة بالحياد، والذي اعتبر أنها تلزمه باتخاذ موقف

سلبي بين الطرفين: الجاني والضحية، وليس بنصرة هذه الضحية، بل إن موقفه

كان في أحيان كثيرة إيجابياً بمساعدة هذا الجاني، ويظهر ذلك في وقوف أمين أممه

المتحدة بطرس غالي (الأرثوذوكسي الديانة) ضد أية محاولة دولية جادة لاستخدام

القوة ضد الصرب (الأرثوذوكس) الطرف المعتدي، أو رفع حظر التسلح عن

المسلمين..

وفي تعاون الجنرال ماكنزي قائد القوات الدولية في البوسنة مع القوات

الصربية، لقاء رشاوى مالية، وأخرى جنسية، عبر مشاركته في اغتصاب الفتيات

المسلمات الأسيرات لدى الصرب.. وفي تستر خليفته الجنرال الفرنسي فيليب

موريو المقاتل سابقاً في حرب الجزائر المتهم بدوره بالتستر على ما قام به الصرب

من مذابح جماعية، وعمليات سميت بالتطهير العرقي، بالإضافة إلى دوره في

إعاقة خطط التدخل الإنساني لتوصيل المواد الإغاثية بالقوة إلى المناطق المسلمة

المحاصرة، بحسب ما نصَّت عليه القرارات الأممية.

والأمر لا يقتصر على جنرالات فرنسا التي كانت تدعم الصرب، بل إن

لائحة العار تشمل أسماء أخرى مثل: (ديفيد أوين) الذي كان موفداً أوروبياً،

و (ياسوسشي أكاش) موفد الأمم المتحدة، و (كارل بيرد) الموفد الأوروبي.

والأمر لا يقتصر أيضا على أفراد، فقد وجهت انتقادات حادة إلى المفوضية

العليا للاجئين لاستخدامها سلاح الطعام وسيلة للضغط على المسلمين أثناء فترات

المفاوضات التي كانت تشهد أقل نسبة لتوزيع المساعدات الغذائية، أو لجهة

مشاركتها في التطهير العرقي، عندما كانت تلزم المسلمين - المفرج عنهم من

معسكرات الاعتقال الصربي - بمغادرة البوسنة إلى أية جهة غربية، أما القوات

الدولية التي كانت عاملة في البوسنة؛ فقد اعتبر أفرادها البلاد نهباً مباحاً، وتورط

بعض أفرادها في جرائم أخلاقية مع فتيات دون سن الرشد. وإذا تحدثنا عن

التصرفات العامة فسنجد أن هذه القوات تورطت في ممارسات منحازة، كإمداد

الصرب بالمعلومات العسكرية، وإجهاض العديد من العمليات الهجومية للقوات

المسلمة.

وعندما بدأ المسلمون يتجاوزون محنتهم وتقترب قوتهم من قوة أعدائهم،

وبدؤوا في تحقيق انتصارات مهمة على الساحة العسكرية، وبعد تحرير أكثر من

مدينة استراتيجية هُددوا بأنه إذا لم يتوقفوا فإنهم سيتعرضون لقصف جوي من

(الناتو) ، ثم تدخل (ولاة أمور العالم) في هذه اللحظة ليوقفوا الحرب ويفرضوا

على المسلمين اتفاق (دايتون) الجائر الذي علق عليه الرئيس بيجوفيتش بأن

(سلاماً ظالماً أفضل من حرب عادلة) ، وهو الاتفاق الذي فرض تقسيم دولة البوسنة

والهرسك، وأضفى شرعية على الكيانات الانفصالية على أرضها؛ فبموجب هذا

الاتفاق حصل كيان الصرب رغم أنهم أقلية لا تزيد نسبتهم عن ٣٠% على ٤٩%

من الأرض، كما حصلوا على اثنتين وأربعين مدينة وبلدة، أغلبها في المناطق

التي فيها مراكز صناعية، كان الصرب يشكلون أقلية في خمس عشرة منها،

والمسلمون أغلبية في ثلاث عشرة منها، والكروات أغلبية في مدينتين. أما

الكروات، الذين يشكلون ١٠% من السكان، فقد أقاموا دويلتهم في الهرسك في

موستار على ثلث مساحة الأراضي. ولم يمنح المسلمون، الذين يشكلون ٤٥% من

السكان، إلا على ١٥% من الأراضي.

لقد تم هذا؛ لأن للصرب والكروات قوة تمكنهم من فرض مطالبهم (العادلة!)

بتمزيق البوسنة وتهجير مسلميها، وتم للحيلولة دون إيجاد كيان مستقل قوي

للمسلمين في قلب أوروبا.

إنها القوة.. إنها المعايير الخاصة.. إنها الضغط على الضحية المظلومة

لتقبل ما يلقى إليها من فتات العدالة وما تمليه مصالح القضاة.

ليس هذا هو الفصل الأخير في تاريخ عدالة ما يسمونه بالشرعية الدولية، بل

إن هناك فصولاً أخرى لا تقل إيلاماً ووضوحاً، ومن هذه الفصول ما شاهده العالم

أخيراً على أرض فلسطين بأيدي اليهود:

فقد تواترت الأنباء عن قيام الجيش (الإسرائيلي) بمجزرة بشعة في مدينتي

نابلس وجنين، وقد ركز الإعلام على مجزرة مدينة جنين ومخيمها نظراً لسقوط

قتلى من الجيش (الإسرائيلي) أثناء مقاومته..

ذكرت الأنباء أن قوات الاحتلال نفذت بمساندة الدبابات مجزرة حقيقية في

المخيم، وأن جنود الاحتلال قاموا بعمليات قتل عشوائية لا تميز بين الشيوخ

والنساء والأطفال، وأن الاحتلال باشر عمليات هدم منازل مخيم جنين واحتلالها،

واستخدم القناصة لقتل السكان، كما أنه منع سيارات الإسعاف من إنقاذ المصابين،

بل كان يقصف هذه السيارات، وأشار المواطنون الفلسطينيون إلى أن قوات

الاحتلال قامت بتجريف المنازل فوق الشبان المقاومين على الرغم من نفاد ذخيرتهم

وتوقف مقاومتهم، وأنها تمارس عمليات إعدام للمقاتلين الذين تنفد ذخيرتهم داخل

المخيم؛ مما أدى إلى سقوط حوالي ٥٠٠ قتيل - أكثرهم من المدنيين - حسب

بعض التقديرات.

وفي إطار محاولات قوات الاحتلال إخفاء معالم الجرائم التي ارتكبتها في

المخيم عندما سيطرت على المخيم بعد قتال عنيف استمر طوال عشرة أيام.. فقد

أبقت على منطقة المخيم منطقة عسكرية مغلقة، ومنعت دخول الصحفيين وهيئات

الإغاثة الدولية والمؤسسات الحقوقية إلى المدينة والمخيم، في دليل على أنهم

يقومون بإخفاء جريمة لا يريدون أن يعرفها أحد.

ومع ذلك توالت الروايات عن قيام هذا الجيش بدفن مئات الجثث في مقابر

جماعية، وأكد نواب عرب في الكنيست (الإسرائيلي) أنهم تلقوا يومياً اتصالات

هاتفية من مواطنين يؤكدون أنهم شاهدوا عمليات دفن جماعية في أماكن متباعدة،

وقال شهود عيان فلسطينيون إنهم شاهدوا شاحنات إسرائيلية تنقل جثث قتلى

فلسطينيين من مخيم جنين، وتوالت هذه الشهادات لتشير إلى بعض أماكن هذه

المقابر الجماعية، فأكدت فتاة فلسطينية من قرية أبو كف البدوية داخل (فلسطين

٤٨) أنها شاهدت عمليات دفن في قرية نباطين القريبة، وأكد آخر أنه شاهد عملية

دفن جماعي في منطقة الجفتلك في مدينة أريحا بالضفة الغربية، وهناك روايات

تشير إلى نقل جثث جمعت من المخيم وشحنت أولاً إلى غابة صادح شمال المحلة،

ومن هناك وضعتها القيادة العسكرية في أكياس بلاستيكية سوداء ونقلت في شاحنات

مبردة إلى مقبرة حفرها وأعدها الجيش (الإسرائيلي) بالقرب من جسر دمياح في

وادي الأردن.

الجيش (الإسرائيلي) نفسه أعلن ثم تراجع عن سقوط نحو مئتي قتيل

فلسطيني في مخيم جنين، وقال كبير المتحدثين باسم الجيش الجنرال رون كيتري

لراديو الجيش «كانوا على ما يبدو مئات القتلى» رغم أن عدد القتلى الذين نقلوا

إلى مستشفى جنين وصل إلى ٢٣ فقط، فأين ذهبت بقية الجثث؟! ..

وزير الخارجية (الإسرائيلي) شيمون بيريز (جزار قانا) اعترف مستبقاً

احتمال إدانته مستقبلاً كمجرم حرب بأن ما ارتكبه الجيش الإسرائيلي في مخيم جنين

هو مجزرة قد تمس صورة (إسرائيل) كما ذكرت صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية.

الموفد الخاص للاتحاد الأوروبي إلى الشرق الأوسط ميغيل انخيل موراتينوس

والمبعوث الأممي تيري رد لارسن وصفا ما حصل في مخيم جنين بعد تنظيفه!!

بأنه «مأساة إنسانية» ، وأقر موراتينوس بـ «أن ما حدث في مخيم جنين

للاجئين، أمر فريد لم يشهده من قبل» .

بيتر هانسن، المندوب العام للأونروا، عبر عن ارتعابه وأعلن المخيم

منطقة منكوبة.

في جنين: هناك ضحايا.. وهناك جناة.. هناك شهود.. وهناك اعترافات.

في جنين جريمة تحتاج إلى تحقيق وتبحث عن العدالة!!

فماذا فعل (ولاة أمور العالم) ؟

الناطق الرسمي باسم البيت الأبيض آري فلايشر قال: إن الرئيس بوش

«يؤيد إجراء تحقيق، وأن تقوم الأمم المتحدة بذلك، وقد دعا الرئيس إلى الشفافية

ويريد (رؤية) حقائق» .

الناطق باسم الخارجية الأمريكية ريتشارد باوتشر أعلن أن الحكومة الأميركية

«تؤيد إجراء تقويم معمق وحيادي» من قبل الأمم المتحدة لما وقع في مخيم جنين

خلال العملية العسكرية الإسرائيلية.

توني بلير رئيس وزراء بريطانيا أيد تحقيقاً دولياً عن أحداث جنين من قبل

اللجنة الدولية للصليب الأحمر.

منظمة العفو الدولية دعت مجلس الأمن الدولي إلى إجراء تحقيق مستقل على

الفور في انتهاكات حقوق الإنسان التي وقعت في جنين.

ثم ... أقر مجلس الأمن الدولي قراراً بإرسال لجنة تقصي حقائق وليس

محققين دوليين إلى جنين.

شُكلت اللجنة.. أعلن متحدث باسم شارون أن هذا الأخير لا يرى حاجة

لإجراء تحقيق مستقل في الأحداث التي شهدها المخيم.. قال مجلس الوزراء

(الإسرائيلي) إنه يرغب في عقد مزيد من المباحثات حول التفويض الذي تحمله

البعثة وتشكيلها..

وقال هذا المجلس: إن الظروف في المنطقة «غير مواتية بعد» لقيام البعثة

بمهمتها ... الحكومة الإسرائيلية ترفض التعاون مع فريق الأمم المتحدة لتقصي

الحقائق في مخيم جنين للاجئين الفلسطينيين، وتعلن أنها ستعمل على منع زيارة

الفريق للمخيم.

ثم ... بوش أجرى ثلاث مكالمات تليفونية مع شارون، وأكد له أن أمريكا لن

«تترك إسرائيل وحدها تواجه لجنة تقصي الحقائق الأممية» .

أبلغ نائب الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون السياسية كيران بريندركاست

الصحفيين عقب اجتماع خاص مع المجلس أنه «لما كان يبدو من بيان مجلس

الوزراء الإسرائيلي أن الصعوبات القائمة في وجه نشر فريق تقصي الحقائق لن

تحل في أي وقت قريباً، فإن الأمين العام يفكر في حل الفريق، وقد أبلغت المجلس

بهذا الأمر» .

وأخيراً ... حل الأمين العام للأمم المتحدة اللجنة وسرحها (متأسفاً!!) .

كان الأجدر به ألا يتأسف على تسريح لجنة، ولكن يتأسف على تسريح

العدالة المدعاة.

إنها مجرد لجنة تقصي حقائق!! هل لا يملك هؤلاء إمكانات فرض عدالتهم أم

أنهم لا يرغبون في البحث عن العدالة؛ لأن الضحية لا تستحق الاهتمام بها ولا

تستحق هذه العدالة المشوهة المبتورة؟!

إنها مرة أخرى القوة فوق الحق، ومجاملة الجلاد على حساب الضحية،

والمعايير المزدوجة.

معذرة أيتها العدالة.. نشتاق إليك دوماً، ولكن آسريكِ يمنعوننا من لقائك..

تخبرنا أختك الشهادة التي نلقاها دوماً أن لا سبيل لرؤيتك إلا إذا تحطمت

قيودك.

وداعاً أيتها العدالة.. مرحباً أيتها الشهادة!