للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

صورة الثورة الفرنسية في تطبيقاتها العربية

د. مصطفى السيد

أمة الصحراء يا شعب الخلود ... من سواكم حلّ أغلال الورى؟

أي داع قبلكم في ذا الوجود ... صاح لا كسرى هنا لا قيصرا؟ !

من سواكم في حديث أو قديم ... أطلع القرآن صبحاً للرشاد؟

هاتفاً في مسمع الكون العظيم ... ليس غير الله رباً للعباد

بين تأليه الشعوب بجعلها مصدراً للتشريع، أو تأليه الفرد وتأليه الفكر في

غاب الضلال يظل الإسلام فرصة البشر الوحيدة في الخروج من المآزق المعنوية

والمادية، وأبيات (إقبال) التي صدر بها المقال تفسير لقول الله عز وجل [قُلْ إنَّ

هُدَى اللَّهِ هُوَ الهُدَى] كما تحدد بوضوح: أن لا دور إلا للإسلام، ولا بديل عن

الإسلام إلا الإسلام.

أقول ذلك، وقد بلغ صخب التنافس والتسابق على الإشادة والإشارة إلى

منجزات الثورة الفرنسية ١٨٩٨م بلغ هذا التنافس ذروته، ولم ينكد على فرنسا

فرحتها، ويفسد عليها بهجتها سوى جارتها في الجغرافيا وشريكتها في التاريخ

(بريطانيا) التي امتلكت من الشجاعة ما افتقدتها الوفود العربية الإسلامية التي راحت

ترتجل معلقات الإطراء والمدح لهذه الثورة ودورها [*] .

مميزات الثورة الفرنسية، موجودة في بريطانيا قبل الثورة الفرنسية، ودموية

الثورة موثقة ومخلدة برائعة القاص الإنجليزي تشارلز ديكنز (قصة مدينتين) التي

صدرت عام ١٨٥٠ م وقد حملت تاتشر نسخة من الكتاب هدية منها للرئيس ميتران.

أمر لافت للنظر أن تستحضر المرأة الإنجليزية تراثها أمام برج إيفل وفى

قاعات الإليزيه، ولكن النظر ينقلب حسيراً أن نجد رجالات العرب المسلمين لا

يحضرهم شيء عن الإسلام صاحب الدعوة العملية ليس لحقوق الإنسان فقط بل

لحقوق الحيوان «أإن لنا في البهائم لأجراً؟ فيجيب الرسول الكريم -صلى الله

عليه وسلم-: (في كل ذات كبد رطبة أجر) عليك الصلاة والسلام يا رسول الله

وأنت تخاطب (أُحُد) » هذا أحد جبل يحبنا ونحبه «.

هذه العاطفة التي تمتد إلى الجلاميد الصلاد هل يمكن أن يسبقها شيء في

الحقوق بكل صورها؟ .

ويقف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لجنازة يهودي، لا تقرباً إلى لجان

حقوق الإنسان بل ليكون وقوفه -والله أعلم- سنة ماضية لا تظاهرة إعلامية.

وإذا كانت مبادئ الثورة الفرنسية (المقدسة) هي التي تحكم أوربا في مطالع

القرن العشرين فلنر ثمرة ذلك.

يقول البير كامي ١٩١٣-١٩٦٠ الحائز على جائزة نوبل والذي يعد فكراً

وشخصية، جزائرياً بحسب المولد والنشأة، وفرنسياً بحسب الثقافة والانتماء،

يقول: (إن سبعين مليون أوربي بين رجل وامرأة وطفل قد اقتلعوا أو نفوا أو قتلوا

خلال خمسة وعشرين عاماً بين١٩٢٢-١٩٤٧) [١] .

أما ضحايا هذه الثورة عشية ظهورها فبلغت كما يذكر فيليب دوفاليه مؤرخ

فرنسي معروف أربع مائة ألف مواطن في غرب فرنسا وحدها، وفى مصدر آخر

أن هذه المذابح الثورية (أتت على سبع سكان فرنسا) ، لقد قال أحد كبار الكتاب في

الغرب (بيتر فايس) : (وضعنا ماكينة الثورة، لكننا لا نزال نجهل طريقة استعمالها)

وأنا لا أدري إن كانت هناك ثورة حديثة قد تجاوزت هذا القول.

أما فكر الثورة الفرنسية - ونحن لا نزال في دائرة المراجع الفرنسية - فهو

تأليه العقل [٢] .

وفى المصادر الغربية يقولون عن الثورة الفرنسية: (نصبت العقل معبوداً

تقدم له القرابين وتقام له الشعائر) [٣] .

ولم يكن الغرب مجمعاً على تقديس هذه الثورة، فأهالي (فرساي) خذلوا كل

توسلات ميتران للمشاركة في احتفالات الثورة، ونفر من شباب جامعة السوربون

اقترحوا إقامة نافورة في ذكرى الثورة ترش الناس بالماء وان يكتب عليها شعار

الثورة معكوساً: غباء - حماقة - وحشية، وعلى غلاف (نيوزويك) الأمريكية ٢٠

فبراير الماضي ١٩٨٩ مقصلة وجسم ممدود ورأس مقطوع والعنوان: مراجعة

الثورة الفرنسية.

وإذا كان كلام الساسة المسلمين الذين شاركوا في أعراس باريس بمناسبة

مرور قرنين على الثورة الفرنسية في أواخر يوليو تموز ١٩٨٩ والذين لهم قرص

في كل عرس، إذا كان كلام هؤلاء يصنف عادة أنه كلام بروتوكولي فالعجب

العجاب يتأتى من كهنة الثقافة عندنا الذين يعدون بداية وجودنا وميلادنا الإنساني يوم

دخلت خيول هذه الثورة مصر ١٢١٣- ١٢١٥هـ-١٧٩٨-١٨٠١م إن هذا الوجه

الخادع للثورة الفرنسية جعل قطباً من أقطاب التاريخ المصري ينشد في بداية كفاحه

الوطني ١٨٩٥: وهو مصطفى كامل ينشد ابتغاء الغوث من هذه الثورة:

أفرنسا يا من رفعت البلايا ... عن شعوب تهزها ذكراك

انصري مصر، إن مصر بسوء ... واحفظي النيل من مهاوي الهلاك

وانشري في الورى الحقائق حتى ... تجتلى الخير أمة تهواك [٤]

إن هؤلاء جميعاً من المبهورين بالثورة الفرنسية ينطبق عليهم قول جومار

المشرف على بعثة الطهطاوي ورفاقه: (يظهر من فحوى كتاباتهم أنهم قبل أن

يكتبوا يفكرون بعقل فرنسي لا بعقل عربي) [٥] .

إن هؤلاء جميعاً يعدون (محمد علي) ١١٨٢-١٢٦٥هـ الأب الروحي للدولة

العربية الحديثة الوليدة العربية للثورة الفرنسية، وإن رفاعة الطهطاوي الذي ولد في

العام الذي انسحب فيه الفرنسيون من مصر ١٨٠١-١٨٧٣ هو المنظر الثقافي

الأبرز لهذه الدولة ولتلك المرحلة.

وإن كان جمهور الكهنة في معابد الثقافة الهلنستية والغربية لا يزالون في

حالة استغراق تام وهم يرتلون أسفار الثورة الفرنسية، فإن نفراً من الباحثين قد أخذ

يقرأ هذه الثورة بعقل سليم معلنين أنها باتت من النفايات التاريخية وقد آن الأوان

للدخول في مناقصة بيعها وتصفية ملحقاتها من علمانية وحقوق إنسان الخ الأطر

الجميلة لمضامين فارغة.

إن الحملة الفرنسية على مصر قد نبهت مصر إلى تاريخها الفرعوني للالتفاف

على التاريخ الإسلامي، إن صورة فرعون الديكتاتور في القرآن كافية لمن ألقى

السمع وهو شهيد.

إن الحملة الفرنسية قد اصطحبت معها أكثر من (٣٠٠) امرأة سافرة وكن

أزواجا أو خليلات للجنود وكن معرضاً أو نموذجاً لما تريده الثورة الفرنسية للمرأة

المسلمة في مصر وهو أن تحاكي هذه النماذج الهابطة الساقطة [٦] .

إن نابليون عمل من خلال المجلس الذي شكله لحكم مصر على نسف آيات

المواريث التي تميز الرجال عن النساء [٧] ، وذلك كله كان الأرضية التي انطلق

منها دعاة تحرير المرأة، ولقد كان الطهطاوي هو الجسر الأكبر الذي عبرت من

فوقه أفكار الثورة الفرنسية.

والحق أن قراءة إسلامية لجهود الطهطاوي الفكرية باتت أمراً ملحاً لعدة

أسباب:

* الثناء المطلق على الطهطاوي داعية ودعوة لدى كل حديث عن جذور

النهضة ومن مختلف المنابر والمواقع الثقافية إلا من عصم ربك.

* أثر الطهطاوية في الحكم والحكومات العربية الحديثة والمعاصرة لأنه كان

الجسر بين العرب والثورة الفرنسية، والانطلاق من دعوته وتجربته لتدعيم وترميم

كل جسور التقارب مع الغرب.

*دعوته نقض وإجهاض لدور الشريعة وإلا فبم نفسر كونه (أول من كتب

للمصريين في المباحث الدستورية، وعرب دستور فرنسا في ذلك الحين) ؟ [٨] .

تترس العلمانيون واليساريون والتلفيقيون خلف الطهطاوية ليحتسبوا على

الإسلام سيئات الحكم في العالم الإسلامي في كل الأعصر، إرجافاً لإبعاد الإسلام

عن قيادة الحياة والمجتمع.

ترتب على مشروع محمد علي - والذي نفذه فكرياً الطهطاوي - انكماش

وتهميش لدور الأزهر التاريخي وذلك لصالح المدارس والبعثات التي شكلت العمود

الفقري للبنيان الثقافي الجديد، وألحق العلماء بهذا المشروع الجديد [٩] .

وإذا كانت إقامة رفاعة في فرنسا التي بدأت عام ١٨٢٦ قد وضعته بصورة

نهائية وتامة في صف المبهورين والمحامين عن فكر الثورة الفرنسية فإن ذلك ما

كان ليتم لولا جهود شيخه شيخ الأزهر حسن العطار أيامئذ، هذا الشيخ (الذي فر

إلى الشام عشية دخول الفرنسيين مصر ثم عاد ليلتقي معهم ويتصالح مع الحضارة

الغربية بل يتجاوز ذلك ليعجب بالفرنسيات ويتغزل بهن وهذا ليس كلام الدوائر

الإسلامية بل سطره رأس من رؤوس الحداثيين في مصر صلاح عبد الصبور في

كتابه (قصة الضمير المصري الحديث) ص ٢٣ - ٢٤، ولو قال غير عبد الصبور

هذا الكلام لنبز بالعري من الوعي وألبس حلة التطرف وكسوة التعصب. وهكذا

(كانت استجابة الطهطاوي الكاملة لما قدم له في فرنسا من أطعمة فكرية ومعتقدية) .

(لقد صرعت العلمية الغربية الطهطاوي عالماً وعاملاً، وأجبرته على أن يدفع ثمن

حضوره على مسرح الفكر الحديث، انقطاعاً كاملاً عن دورة الاجتماع الإسلامي

الداخلية، ولم يزوده هذا الحضور إلا بما يحتاجه في إطار الموقع الذي يحتله في

أجهزة التجربة التحديثية لمحمد علي، لم يكن مؤسساً لها، بل ملتحقاً بها على سبيل

التبعية الشاملة، ولم يكن الطهطاوي أزهرياً متنوراً يواجه التجربة الأوربية عن

قاعدة المكانة التاريخية للأزهر بل كان نتاج انهيار الدور التاريخي لهذه المؤسسة

والتحاق أفراد محددين بالسلطة الناشئة (سلطة محمد علي) فالطهطاوي لم يكن

أزهرياً متنوراً بقدر ما كان تعبيراً أزهرياً هامشياً لمشروع التحديث الناشئ على

أنقاض مؤسسة الأزهر التاريخية) [١٠] .

إننا نتساءل لماذا أهمل دور الجهاد والقتال من قبل الشعب المصري ضد

الحملة الفرنسية؟ ولماذا أغفل رفض قطاعات كثيرة من الشعب للتفرنس بكل

صوره؟ ..

ولماذا كان البحث عن أسباب القوة خارج حدود المجتمع الإسلامي؟ وبالتالي

لماذا لم يبحث الطهطاوي عن مصادر القوة داخل بنيان المجتمع الإسلامي وداخل

الخزين الفقهي والمخزون الفكري الإسلامي؟ .

ألم تكن سياسة الهروب هذه تكملة وتتويجاً لحالة هروب وانقطاع تاريخيين

للسلطة في العالم الإسلامي عن النموذج النبوي التاريخي من جهة، واستمراريته

المتحققة في تيارات الأمة القاعدية في المرحلة التي تلت انقطاع رأس الهرم

السياسي والفقهي الإسلامي عن النموذج النبوي الشريف) [١١] .

وإذا انطلت على الأذهان أكذوبة التحديث وأصالتها وفائدتها المحققة فإننا

نتساءل عن ثمرتها على الأرض هل كانت في هيمنة بريطانيا على مصر (المحدَّثة)

لعشرات السنين؟ .

ولا بأس أن نثبت هنا ما قاله فهمي هويدي: (إن المصريين دفعوا كل فواتير

التحديث وضرائب التغريب كاملة دون أن يجنوا من ذلك ثمرة تذكر) [١٢] . ...

ويقول لويس عوض مقوِّماً رجالات عهد التحديث قديماً وحديثاً:

(السادات وأبناء محمد علي فصيل واحد في الفساد، وهذان العصران من

أسوأ عصور مصر، وعندما نتتبع العصرين سنجد أن التاريخ يعيد نفسه في الفساد

والنهب وفتح البلاد على مصراعيها أمام القوى الخارجية) [١٣] [**] .

لقد انفتحت اليابان على الغرب، محتفظة بكل مقوماتها الذاتية واعتزازها

بروحها ولغتها، فأخذت دون أن تدفع ضريبة معنوية، أما الانفتاح الطهطاوي فلم

يبق ديناً، ولم يأت بدنيا.


(*) - لا غرابة في ذلك فموقف بريطانيا هو موقف الند للند أما مواقف الآخرين فهي مواقف العبد أمام السيد، وقد يظفر العبد بالعتق الجسدي أما العتق النفسي فيحتاج إلى زمن طويل حتى يكون، وقد لا يحصل أبداً التحرير.
(١) السير كامو: تأليف جرمين بري، ترجمة جبرا إبراهيم جبرا [ص ١٣] .
(٢) المصدر السابق / ٢٤٣.
(٣) قصة الضمير المصري الحديث: صلاح عبد الصبور.
(٤) المصدر السابق / ٢٤٣.
(٥) البعثات العلمية في عهد محمد علي ثم في عهد عباس الأول وسعيد: عمر طوسون.
(٦) دراسات في تاريخ مصر الحديث / ٩٤ د عمر عبد العزيز.
(٧) المصدر السابق /١٨٧، وكان اسم المجلس (فرمان الشروط) والذي وصم كل أعضائه من المصريين بالخيانة بعد رحيل نابليون.
(٨) في الأدب الحديث، عمر الدسوقي / ٢٦.
(٩) مجلة الفكر العربي، بيروت، عدد ٤٥، من مقال من أكمل ما قرأت في تحليل دور الطهطاوي د حسن الضيقة بعنوان (الطهطاوي وعقيدة التحديث) .
(١٠) من مقال: د الضيقة.
(١١) المصدر السابق.
(١٢) الأهرام، رمضان ٢٦ منه ١٤٠٩ هـ.
(١٣) مجلة الشراع، عدد ٣٦٩.
(**) ويلاحظ القارئ كيف استثنى لويس عوض عصر عبد الناصر من عصور الفساد ولو أنه لم يفعل لقلنا: (صدقنا وهو كذوب) ! ولويس عوض هو لويس عوض، وهل من عاقل ينتظر صدقاً منه ومن مدرسته؟ ! والعصر المستثنى (وهو حلقة في سلسلة) هو العصر الذي صنع لويس عوض، وسلطه ليفسد في الفكر، ويخرب في الثقافة، فكيف لا يستثنيه؟ ! .