للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المسلمون والعالم

[عودة الاستعمار القديم]

أ. د. عماد الدين خليل [*]

dremad٨@hotmail.com

هاهو ذا الاستعمار القديم يعود.. الجيوش والعتاد والبوارج والدبابات

والطائرات. يدور الزمن دورته، ثم ما يلبث أن يرجع إلى هيئته الأولى.. فإذا

بديار الإسلام تتلقى دفعة أشد ضراوة وهولاً من تلك التي تلقتها زمن الاستعمار

القديم.

هاهنا القنابل العنقودية، والصواريخ عابرة القارات، والطائرات الـ بي

٥٢، والقنابل الذكية والغبية، وذات الأطنان التسعة التي تعادل كل منها نصف

القنبلة الذرية التي ألقيت واحدة منها على هيروشيما والأخرى على ناغازاكي

اليابانيتين حيث لا تزال ذراري اليابانيين تعاني منه الأمرّين.

هاهنا أيضاً اليورانيوم المنضّب الذي يزرع الموت والوباء، ويسمّم الأرض

والهواء، وينفث في رحم الحياة والأشياء الاستعداد للسرطان الذي يفترس الأخضر

واليابس.

الجنود الأمريكيون تدفقوا على لبنان حيناً، وعلى الصومال حيناً آخر..

وعلى أفغانستان حيناً ثالثاً، وهاهم الآن يتدفقون على العراق لكي ينتشروا في مدنه

ومحافظاته، ويتخذوا فيها مواقعهم المحصّنة، ويعلنوا بلسان المقال حيناً ولسان

الحال في معظم الأحيان أنهم لن يغادروه قبل مضيّ سنوات وسنوات، وقبل أن

يضمنوا استمرار مصالحهم فيه، وضمان حمايتها من قِبَل ممثليهم في البلد المنكوب.

أية حضارة هذه، وأية مدنيّة؟ إنهم يرجعون بعقارب الساعة إلى الوراء..

إلى القرنين الماضيين، لكي يعيدوا مأساة استعباد القويّ للضعيف، وإمساك الغربي

المتفوّق بمصائر ومقدّرات عالم الإسلام الذي فك ارتباطه منذ زمن بعيد بمشروعه

الكبير المستمد من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والذي يملك القدرة

على حماية الأمة، والذي يعرف كيف يكسر اليد التي تمتد إليها بسوء.

ودائماً يجد الإنسان نفسه مضطراً لتذكُّر المعادلات القرآنية الحاسمة،

الصارمة، في هذا المجال، والتي تفسّر تماماً: لماذا هزمنا عبر القرون الماضية؟

ولماذا نهزم الآن: [لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ الكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ]

(النساء: ١٢٣) ، وقوله تعالى: [أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ

أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ] (آل عمران: ١٦٥) .

ودائماً كان فعلنا الخاطئ هو الذي يجذب إلينا الأعاصير المدمّرة من الشرق

والغرب.

وهاهو ذا الإعصار الأمريكي المبطن بالمكر اليهودي، يدوّم فوق رؤوسنا،

ولا ندري إلى أين سيمضي، وما الذي يريد بعد أن وضع العراق ونفط العراق في

جيبه، وضمن خزيناً احتياطياً هو الأكبر من نوعه في العالم كلّه؟!

الاستعمار القديم يعود.. وهاهي ذي الخوذ الأمريكية تتلامع في مدن العراق،

تؤكد فيما لا يقبل مجالاً للشك أنه ليس ثمة تقدم حقيقي للبشرية.. تقدم يمضي بها

صعداً صوب الأعلى والأكثر انسجاماً مع إنسانية الإنسان، وقيمه، إلا بأن تكون

الكلمة لهذا الدين، وصياغة المصائر والمقدرات بيد أبناء هذا الدين. وإلا فإن

عقارب الساعة ستظل تدور وترجع بالبشرية حيناً بعد حين إلى الحفر الضيّقة التي

كانت قد غادرتها يوماً، وهاهي ذي تعود لكي تعاني من الاختناق، والضيق،

وغياب كل عناصر وقيم الخير والحق والإنسانية والجمال.

* إنهم يدسّون أنوفهم:

رحم الله زمن الاستعمار القديم.. والاستعمار الجديد الذي أعقبه والذي سمّي

(بالإمبريالية) .. رحم الله الزمنين المذكورين ليس لأنهما لا ينطويان على السوء؛

فما من إنسان يملك ذرة من عقل يجهل ما فعله الاستعماران في ديارنا، والدمار

الذي ألحقاه بالعمران والإنسان، مما زاد العالم الثالث، والإسلامي على وجه

الخصوص، تخلّفاً وضياعاً.

في أوّلهما كان الغزو مباشراً، وكانت الدول المستعمرة ترسل جيوشها إلى

البلدان التي نكبت بالتفوّق الغربي لكي تبقى هناك القرونَ الطوال، تعتصر خيرات

الأرض، وتستنفد قوى الجماعات المسحوقة من أجل أن يدرّ الضرع المترع

بالحليب في أفواه الغربيّ الآمن السعيد المتنعّم بكل الأطايب التي تأتيه من وراء

البحار.

وفي ثانيهما، حيث انسحبت الجيوش، وحلّت محلها النخب العسكرية المحلية

أو العلمانية المدنية التي تُمسك بخناق الشعوب نيابة عن الاستعمار.. كان الغربيون

يخترقون الأمة وعقيدتها وفكرها وثقافتها بوسائل الغزو الثقافي التي استهدفت

تزييف الهوية الإسلامية، وسحب الشعوب - رغباً أو رهباً - إلى حالة الانبهار

بالتفوّق الغربي والانسلاخ تبعاً لذلك عن الخصائص والمقوّمات.

لكن هذا كلّه ما كان يتمّ بشكل مباشر وإنما (من بعيد لبعيد) كما يقول المثل،

وفي معظم الأحيان من خلال أبناء الأمة المتمغربين أنفسهم.

أما الآن، عبر الموجة الاستعمارية الثالثة التي هندسها ريغان وبوش الأب

وبوش الابن، والحلقة المُحكمة التي تحيط بهم من ممثلي اللوبي اليهودي وعمالقة

المال في الولايات المتحدة.. بعد واقعة الحادي عشر من أيلول على وجه

الخصوص.

الآن، فيما يمكن تسميته بالاستعمار على الطريقة الأمريكية.. فإنهم مضوا

خطوات أبعد بكثير.. تمثل، إذا استدعينا مصطلحات هيغل في مثاليته المعروفة:

«موحّد النقيضين» : الاستعمار المباشر وغير المباشر.. العسكري والثقافي معاً.

هاهي ذي أمريكا ترسل مستشاريها ومبعوثيها ولجانها وهيئاتها إلى ديار

الإسلام، وترغم حكوماتها، بمنطق تكنولوجيا الحرب والقوّة، على استقبالهم وفتح

الطريق أمامهم إلى كل المؤسسات التي يراد لها أن تتحوّل عن وظيفتها الأصيلة،

وأن تغدو أداة للعقل الأمريكي ذي البطاقة اليهودية، لكي تعيد صياغة الإنسان

العربي والمسلم بما يتوافق مع مطالب العولمة من جهة، والتطبيع مع العدو

الصهيوني من جهة أخرى.

هاهم الآن يدسّون أنوفهم في مناهجنا الدراسية عبر مراحلها كافة، ويعيدون

صياغة مفرداتها من جديد.. يبدّلون ويزيّفون ويحرّفون، فلا يبقون فيها آية أو

كلمة أو عبارة أو إيماءة تدين اليهودية المنحرفة، واليهود المفسدين في الأرض،

أو تومئ بكراهيتهم واحتقارهم، وتعزّز بالمقابل قيم الانسلاخ عن الهويّة،

والإعجاب الذي يصل إلى حدّ الانبهار بمعطيات العولمة، والنظام الجديد ذي

القطبية الأحادية الذي تتزعمه أمريكا التي يراد لها أن تسترجع بريقها المفقود، بعد

أن أصبح الأمريكي في منظور كل شعوب العالم المستضعفة، بشعاً، مخيفاً، إلى

حدّ يثير القرف والاشمئزاز.

ومرة أخرى.. رحم الله زمن الاستعمارين القديم والجديد.. فها نحن نُقبل

على عصر توحّد النقيضين؛ حيث يتلقى عالم الإسلام واحدة من أشد الضربات

قسوة في تاريخه: تكنولوجيا القوة الجهنمية في أقصى وتائرها، والمكر اليهودي

في أشد صيغه خبثاً والتواءً ومكراً.

* الخزين الكبير:

الخزين الاحتياطي لنفط العراق، أصبح أو سيصبح عما قريب، أضخم

خزين للنفط في العالم كلّه.. يكفي أن نتذكر التسمية التي أطلقت منذ زمن على

واحد من حقول النفط في جنوب العراق: (حقل مجنون) .. لا لشيء إلا لأنه سئم

الاعتقال تحت الأرض، على مدى عشرات القرون، وأصبح يتململ بين الحين

والحين لكي يطلّ برأسه من هناك، تماماً كما كان عفريت ألف ليلة وليلة يطل

برأسه من القمقم المسحور لكن ما يلبث أن يثور ويموج.. الأهالي في محافظة

ميسان الجنوبية، ما كان أحدهم يضرب فأسه في الأرض حتى تنبجس منها فوّارات

النفط المحبوس، تريد أن تتدفّق بحريّة، وأن تنساح إلى كل مكان.

قيل إن السلطة السابقة في العراق كانت قد منحت حق التنقيب في هذا الحقل

العملاق لمجموعة من الشركات الفرنسية، وأن إسراع أمريكا بإعلان الحرب على

العراق، ووضع الطين والعجين في أذنيها كي لا تصغي إلى كل الدعوات المنادية

باعتماد الأساليب السلمية وتجنّب ويلات الحرب، إنما كان سببه الأوّل، ودافعه

الأساس، هو قطع الطريق على المحاولة قبل أن يقع الفأس في الرأس، وتتمكن

فرنسا من خلال نفط «مجنون» من تأكيد استقلاليتها، وربما استقطابها لدول

الاتحاد الأوروبي والسوق الأوروبية المشتركة، وتشكيل قطبية جديدة تجابه القطبية

الأمريكية الأحادية التي تستأثر بالعالم وتتفرّد بحكمه.

إن وضع اليد على الخزين الكبير لنفط العراق يعني فيما يعنيه، ليس فقط

قطع الطريق على الدول الأوروبية لإعادة العالم إلى توازنه المفقود، بعد غياب

التعددية القطبية، ومنع أمريكا من الانفراد بحكم العالم، وإنما إلى جانب هذا تمكين

الحياة الأمريكية بكل مصالحها وأهدافها وقيمها وطرائقها في الحياة، من الاستمرار

والديمومة، ربما لقرن آخر من الزمن.

وهذان الهدفان، في المنظور البراغماتي الصرف يجعلان أمريكا تصرّ منذ

اللحظات الأولى على تحقيق هدفها بوضع اليد على نفط العراق من خلال آلة

الحرب الجهنمية التي تمسك بها مافيا النفط الأمريكية التي تتفرد الآن بالسلطة العليا

في البيت الأبيض، وتوظّف منصب الرئاسة لتحقيق المزيد من الأرباح.

ومعروف أن بوش الأب وبوش الابن ونائبه ديك تشيني، ووزير دفاعه

رامسفيلد، ومسؤولة الأمن القومي في البيت الأبيض رايس، هم أعضاء كبار في

إدارة واحدة من أضخم كارتلات النفط العملاقة في الولايات المتحدة الأمريكية.

ومنذ اللحظات الأولى، كانت كل المؤشرات تومئ بلسان الحال أو لسان

المقال، بأن أمريكا ستمتطي ماكنة الحرب، وستصمّ أذنيها عن كل نداءات السلام..

ذلك أن الأهداف التي ستحققها القوة، ويضمنها التفوّق الأسطوري لتكنولوجيا

الحرب، تستحق فعلاً في المنظور المصلحي وعلى المستويين الخاص والعام،

تلبية نداءات الإغراء.

المستوى الخاص يجعل الضرع العراقي يدرّ في أفواه ملوك النفط الذين قدّر

لهم أن يصلوا إلى البيت الأبيض.

والمستوى العام، في منح أمريكا ضمانات الاستمرار الحضاري لقرن من

الزمن أو يزيد.

وساذج مغفل كل من خُيّل إليه أن أمريكا كان يمكن أن تتراجع عن قرار

الحرب؛ لأن شعوب العالم ودوله ومنظماته، بل الشعب الأمريكي نفسه، فضلاً

عن منظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وقفت في وجهه، وبحّت أصواتها، في

محاولة مستميتة، لمنع آلة الحرب من أن تبدأ دورتها المؤذنة بالويل والدمار.

* الصراع على الماء:

وهذا هو مكسب آخر من مكاسب إعلان الحرب على العراق سيتحقق

لإسرائيل هذه المرة، ضمن العطايا والمنح الكبيرة التي قدّمتها أمريكا لها منذ قيامها

وحتى اللحظات الراهنة.

إذا كان النفط سيذهب للجيب الأمريكي بالدرجة الأولى؛ فإن الماء يراد له أن

يصبّ في أفواه «بني إسرائيل» أولاً وأخيراً.

«إسرائيل» التي تعاني من شحّة مواردها المائية، ويتحلّب ريقها منذ زمن

بعيد لمورد مائي سخيّ ودائم يمنحها الأمن المهزوز.

إن العراق قياساً على مساحته يعد واحداً من أكثر دول العالم غنى في ثروته

المائية: نهران كبيران وثلاثة فروع كبرى هي الأخرى: دجلة والفرات والزابان

الأعلى والأسفل وديالى.. هذا فضلاً عن خزين جوفي كبير، وشبكة أسطورية من

العيون والجداول والبحيرات.

وتحويل الثروة المائية في العراق إلى «إسرائيل» ليست مستحيلة، كما

يبدو للوهلة الأولى، فثمة المنابع في الأراضي التركية، وثمة التقلّبات السياسية

المتواصلة هناك، فيما قد يتيح وصول حزب علماني صديق لإسرائيل، إلى

السلطة، لا يرى مانعاً البتّة من عقد الصفقة الشيطانية التي تمّ انتظارها طويلاً بين

الطرفين، وتحويل الفائض المائي إلى «إسرائيل» عبر قنوات ستمدّ لهذا الغرض

رغماً عن دول الجوار، وبمباركة وحراسة أمريكا نفسها.

والتاريخ لا يمنح فرصه مرتين، كما يقول المثل، ولعل الجغرافيا لا تمنح

هي الأخرى فرصها مرتين.

لقد حبا الله - سبحانه - العراق، والعديد من الدول العربية والإسلامية،

ودول العالم الثالث عموماً، بواحدة من نعمه الكبرى: الماء. ولكن حكومات هذه

البلدان طالما أغمضت عيونها عن هذه المنحة الكبيرة، ولم تحاول إلا في القليل

النادر وفي الحدود الدنيا أن توظف هذا الخزين الذي لا يقل أهمية عن أغنى معادن

الأرض وكنوزها، بل على العكس، لم تلتفت حتى إلى ضرورة شكم تدفّقه وإلجام

غضبه بتخطيط محكم ومدروس لتقنيات الريّ، فكان ينقلب عليها وبالاً زمن

الفيضانات والسيول، وتتحوّل النعمة الكبرى إلى نقمة تلحق الويل والدمار

بالمزارع والحقول، بل بالقرى والمدن المنتشرة على ضفاف الأنهار.

ها هو عقاب الله - سبحانه - يتنزّل على الذين أنكروا نعمته، فتمتد يد

لصوص البشرية، وقراصنة العالم، ومفسدي الأرض، وموقدي الفتن والحروب

لكي تسرق الماء من أفواه أصحابه، فتقتلهم عطشاً.

وصدق الله العظيم القائل في محكم كتابه: [أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم

مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ] (آل عمران: ١٦٥) .

* مجزرة الثقافة:

لم تحدث في تاريخ البشرية إلا مرة واحدة.. وهاهي ذي المرة الأخرى.

عندما دخل المغول البرابرة بغداد عام ٦٥٦ هـ (١٢٥٨م) أحرقوا وخرّبوا

ونهبوا.. وكان «الكتاب» إحدى ضحاياهم. قيل يومها إنهم لم يبقوا مكتبة،

وأن نهر دجلة السخيّ تلوّن بمداد الحبر الأسود الذي نزفته عقول الآباء والأجداد

على مدى قرون متطاولة. ها هو ذا يتحلّل وتضيع «الكلمة» التي هي جوهر

الحضارات وسراجها المنير.

وحدّثنا ابن الغوطي ورشيد الدين الهمذاني، وغيرهما من المؤرخين عما

أسموه بـ «أسبوع القتل العام» الذي ذهب ضحيته مئات الآلاف من سكان بغداد،

وذهبت معها مئات الآلاف من مصنّفات العلماء والفقهاء والفلاسفة والأدباء.

لكأن هؤلاء الغزاة كانوا على موعد مع الهمجية في أقصى وتائرها، والتي لا

تسمح للعقل بأن يخفق، ويبدع، ويرسم بالكلمات معالم الطريق للمدلجين في دروب

الحياة الدنيا.

اليوم يجيء الأمريكيون، أحفاد رعاة البقر لكي ينفذوا المذبحة نفسها؛ ليس

بالضرورة بأيديهم، ولكن بأيدٍ مستعارة جيء بها من هنا وهناك لكي تنفّذ المطلوب.

وحتى أولئك السفلة من النهابين والمخرّبين، ما كان بمقدورهم أن يفعلوا ما

فعلوا، لو لم يسكت الجندي الأمريكي، حامي الحرّية، والمبشّر بالعصر

الديمقراطي الجديد، عن فعلتهم الشنعاء.

ولقد تحدّث شهود عيان، كيف أن أبواب المتاحف والمكتبات العامة، ودور

الوثائق والمخطوطات، عندما كانت تستعصي على الدهماء، كانت الدبابات

الأمريكية تتقدم لكي تكسر مزاليجها عنوة، وتفتح الطريق أمام المهاجمين.

ويقيناً فإن بمقدور زخّة من الرصاص، أو حركة من مدفع ينتصب في مقدمة

الدبابات المنتشرة في كل مكان، كانتا كفيلتين بحماية هذا التراث الذي نسجته

القرون الطويلة، وسهرت عليه أجيال متعاقبة من أبناء الأمة.

والهدف واضح لا يقبل مماحكة ولا جدلاً.. إنه تدمير العمق الثقافي لهذا البلد

الأصيل، وإلغاء هويته، لكي يسهل من ثم على مهندسي العصر الجديد الذي تسعى

القيادة الأمريكية فيه إلى تسطيح حياة الأمم والشعوب، وتجريدها من عمقها الروحي

والثقافي، وتحويلها إلى خامة طيّعة قابلة لإعادة الصياغة بما يجعلها مزرعة

للمصلحة الأمريكية، ولفلسفتها البراغماتية التي يضيع في ثناياها الإنسان، ويغيب

البعد الديني، وتنهار منظومة القيم الخلقية، وتفقد الحياة البشرية مغزاها العميق،

لكي تصبح لهاثاً محموماً وراء الحاجات الأساسية، وتكاثراً بالأموال والأشياء.

إنها ثقافة النظام العالمي الجديد، الذي لا يسمح بوجود ثقافة أخرى إلى

جواره.. ثقافة أكثر عمقاً وامتداداً وغناءً وانسجاماً مع إنسانية الإنسان.. لأن

مجرد المقارنة في حالة كهذه سيكشف منذ اللحظة الأولى عوار الثقافة الجديدة..

الثقافة المتضحّلة التي يراد لها بقوة آلة الحرب أن تسود العالم، وتتفرّد

بالمصائر والمقدرات.

وعبر أيام قلائل، من الاجتياح الأمريكي للمدن العراقية، تعرّضت أربع

مؤسسات كبرى للنهب: المتاحف والمكتبات ودور الوثائق وخزائن المخطوطات.

ولو أن الأمر توقّف عند حدود النهب لكان يمكن تسويغه بحاجة السفلة

والدهماء إلى الدولار ورغيف الخبز، يستبدلونه بأثر أو كتاب أو وثيقة أو مخطوط،

داخل العراق أو خارجه، تماماً كما كانت المصنّفات البغدادية تباع أكداساً بعيد

الغزو المغولي لتجار الكتب القادمين من خارج بغداد، مقابل حفنات من القمح

وأرغفة من خبز الشعير.

ولكن الذي حدث، بعد دخول أمريكا المحرّرة، أن الأمر لم يقف عند حدود

السرقة والنهب، ولكنه الحريق الذي يعقب كل اجتياح لهذه المراكز الحضارية..

الحريق الذي كان يترك كل ما تبقى رماداً، عبر واحدة من أبشع المجازر الثقافية

في التاريخ.. وهنيئاً لحراس العهد الجديد على أن تمكنوا من تحقيق المطلوب!

* مافيتان!!

مافيتان تحكمان أمريكا، وتتحكمان بأصوات الناخبين وبالناخبين أنفسهم:

كارتلات المال العملاقة، واللوبي اليهودي.

فأية ديمقراطية هذه التي تدّعيها أمريكا؟

الشركات الكبرى توظف أموالها لشراء أصوات الناخبين وذممهم.. واللوبي

يوظف المال والجنس لتحقيق الهدف نفسه، فأية ديمقراطية هذه؟ وما قيمة أن

يتربّع في الكونغرس الأمريكي أكثريات ممن باعوا أنفسهم للشيطان اليهودي،

وأصبح أمن «إسرائيل» ورفاهيتها أكثر أهمية عندهم بكثير من المصالح القومية

العليا لأمريكا نفسها؟

وإلا فما معنى أن تمارس هذه الأكثريات ضغوطاً متواصلة حتى ضد الرئيس

نفسه من أجل إرغام كل المفاصل السياسية العليا في الولايات المتحدة لتنفيذ مطالب

اللوبي اليهودي في الداخل، و «إسرائيل» والحركة الصهيونية في الخارج،

بعيداً عن أي اعتبار للمصالح العليا للأمريكيين أنفسهم؟

وما معنى أن تعجز هذه الأكثريات عن حماية ماء وجه هذا الرئيس الأمريكي

أو ذاك، عندما يتلقى إهانة ما أو مساساً بكرامته من هذه الشخصية الإسرائيلية أو

تلك.. بل قد تبلغ الوقاحة بهؤلاء أن يهدّدوا الرئيس الأمريكي نفسه، والكونغرس

(واقف يتفرّج) بل قد يتجاوز ذلك إلى التعاطف الكامل مع بني «إسرائيل» ضد

الرئيس الأمريكي نفسه..

وما معنى أن تخرج التظاهرات الجماهيرية الحاشدة من الأمريكيين تجوب

الشوارع، وتحيط بالبيت الأبيض، وترفع مطالبها الملحّة بعدم توريط أمريكا بأية

حرب عدوانية قد تفترس رجالها وأموالها، فلا يعطيها البيت الأبيض سوى «أذن

من طين وأخرى من عجين» ؟! أما أعضاء الكونغرس فإنهم يصمّون آذانهم وكأن

نداءات الجماهير التي أوصلتهم إلى المجلس لا تعنيهم من قريب أو بعيد.

وما معنى أن تُجمع ولايات بكاملها على رفض الحرب ضد العراق من خلال

عشرات ومئات الآلاف من الرسائل الموجهة إلى البيت الأبيض، فلا يردّ عليها

الرئيس وممثلو الأمة سوى بالتجاهل وعدم الاكتراث؟

أية ديمقراطية هذه التي تعجز عن حماية رؤساء أمريكا أنفسهم إذا قدّر لأحدهم

أن يتخذ قراراً يمليه عليه ضميره وضمير الأمة الأمريكية ومصلحتها القومية العليا،

ويمارس من خلاله قدراً من العدل في مسألة الصراع العربي الإسرائيلي قد يحمي

مصالح أمريكا نفسها، وينمّيها، ليس فقط في البلدان العربية، ولكن على مدى عالم

الإسلام، وربما دول العالم الثالث كله.. فإذا به يتعرّض للاغتيال على يد اللوبي

اليهودي الحاكم في أمريكا.. فما يكون من أعضاء الكونغرس إلا السكوت على

الجريمة، بل التغطية عليها، وليذهب الرئيس الأمريكي نفسه إلى الجحيم؟!

أية ديمقراطية هذه والإدارة الأمريكية تناقض نفسها ومبادئها، فتسعى

لإجهاض أية محاولة ديمقراطية جادة في بلدان العالم الإسلامي تمكن الإسلاميين بقوة

الأصوات المنتخبة من الوصول إلى البرلمان، والتهيؤ لحكم الشعوب وفق مبادئ

الشريعة التي هي أكثر قدرة على منحها الأمن والرفاهية والسعادة، من كل القوانين

الوضعية المصمّمة لبيئات هي غير بيئاتها، وظروف غير ظروفها.

يكفي أن نتذكر الجزائر في بداية التسعينيات، وتركيا عبر النصف الثاني

من القرن الماضي، لكي نعرف البعد الحقيقي للديمقراطية الأمريكية، وزيفها،

وكذبها، وهي تتعامل مع الخارج.. أما في الداخل فإن الذي يحكم أمريكا، ليس

الرئيس ولا الكونغرس، وإنما المافيتان العملاقتان: بيوت المال، واللوبي اليهودي.

* الصرخة المختنقة:

هنالك، داخل الولايات المتحدة الأمريكية أصوات مخلصة تدرك الحقيقة،

وترى بأم عينيها كيف تقود مافيات النفط والمال، واللوبيات اليهودية، أمريكا، إلى

الاصطراع مع المصالح القومية العليا لأمريكا نفسها، وثوابتها التاريخية، وتقاليدها

التي نسجها، وسهر عليها، وضحى من أجلها، أبناء أمريكا أنفسهم، برؤسائهم

الذين كانوا أكثر تفانياً وإخلاصاً وتشبثاً بالمصلحة العامة للأمة، وليس بمصالحهم

الضيقة المحدودة، ومذهبياتهم المنحرفة، وسلوكهم الطائش، وخنوعهم غير

المسوَّغ على الإطلاق للعلق اليهودي يستنزفهم ويستنزف معهم القدرات الأمريكية

حتى النخاع.

لا يمكن بحال من الأحوال أن تمرّر اللعبة القذرة على عقل الأمريكي ووجدانه،

وهي تمارس بهذا القدر الفاضح من التكشّف والوضوح، دون أن تكون هناك،

بنسبة أو أخرى، شرائح من الأمريكيين ترفض اللعبة، وتستهجنها، وترى فيها

ضياعاً محتوماً لأمريكا والأمريكيين، إن لم يكن اليوم فغداً، وإن لم يكن في الغد

فبعد غد، والتاريخ لا يقاس بالأيام والسنين، ولكن ربما بالعقود والقرون.

تتراكم أعمال السوء، وتتجمع نويات السرطان التي لا تكاد تُرى، لكي ما

تلبث أن تنتشر هنا وهناك، وتفترس الأخضر واليابس.

بعض الأمريكيين نبّهوا إلى هذا المصير المفجع.. أشاروا في مقالاتهم

وندواتهم ومؤلفاتهم، وعبر وسائل الإعلام، وفق الهامش الضيّق المتاح، إلى هذا

الذي يتهدّد أمريكا، ودعوا بحرارة وصدق وإخلاص إلى إيقاف اللعبة، وبيّنوا كم

أن القيادات الأمريكية الأخيرة اندفعت بأكثر مما يجب وراء إغواء المصالح الخاصة

حيناً، والضغوط اليهودية في معظم الأحيان.. وأن هذا لن يمضي بدون ثمن أو

عقاب قد يأتي على الأخضر واليابس.

فئة أخرى من الأمريكيين تجاوزت الرفض بالكلمة.. إلى الرفض بالفعل،

وانتهى الأمر بالفئتين إلى العزل الوظيفي أو الاجتماعي، وإلى تلقّي حملات

إعلامية تنوء بثقلها العصبة أولو القوة، بل إن بعضهم الآخر تعرّض للتصفية

الجسدية، أو على الأقل أرغم على الاختفاء.

فئة ثالثة اكتفت بالرفض السلبي، واحتفظت في ذوات أنفسها، دون أن تعلن

عن قناعاتها، بقدر كبير من المقت والكراهية لهذا الذي تشهده أمريكا، وينفذه

ساساتها الكبار فيما هو نقيض ابتداء لكل ما يمكن أن يخدم أمريكا، ويعيدها ثانية

إلى موقعها المؤثّر والفعّال الذي ضيّعه اليهود وأرباب المال.

ويوماً بعد يوم، ستجد هذه الأصوات المختنقة، بعد أن تتجمع وينضاف

بعضها إلى بعض، وتشكل تياراً هادراً مؤثراً في الساحة الأمريكية، ستجد نفسها

قديرة على أن تطلق صرختها المكبوتة لكي تدوّي في سماء أمريكا.. في سمع

الرأي العام الأمريكي ووعيه ووجدانه.. وحينذاك قد يتغيّر الحال ويتعرى دور

العلق اليهودي الذي لا تهمّه البتّة مصلحة أمريكا والأمريكيين، بقدر ما يهمّه أن

يمتطي هذا الحصان الطيّع، ويسوقه إلى حيث يريد هو، لا ما يريده الأمريكيون

أنفسهم.


(*) مؤرخ ومفكر عراقي يعمل أستاذاً في قسم التاريخ كلية الآداب جامعة الزرقاء الأردن.