لقد كان الإفراز الرئيسي لمؤتمر مدريد واتفاقيات أوسلو الإيحاء بأن الفلسطينيين قد اعترفوا بحق اليهود بما اغتصبوه من فلسطين، وأن منظمة التحرير الفلسظينية هي حقاً الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني الذي لم يأبه كثيراً بهذه الادعاءات، واختار من يعارض أوسلو ولا يعترف بمنظمة التحرير ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني؛ ولذا نلاحظ أن حماس تتعرض لضغوطات من جهات متعددة وكلها تصب في اتجاه واحد هو الاعتراف بإسرائيل، وهو يعني أن الجميع يحسون أن القضية الفلسطينية معرضة للعودة لنقطة الصفر، وأن كل التنازلات التي قدمتها الحركات العلمانية المناضلة لم يعد لها قيمة؛ لأن مشروعها النضالي الذي تخلت عنه والذي يرفع شعار «تحرير فلسطين كل فلسطين من البحر إلى النهر» قد رفعته قوى أخرى أكثر انتماءً للأمة التي تتلمس طريق العودة إلى هويتها الحقيقية بعد أن عاشت في التيه لعقود خلت، وهي هنا تحتاج لمن ينير لها طريق الخروج من المأزق وليس من يقنعها بالبقاء في التيه.
إن ما حدث في فلسطين رسالة لكل المصلحين والسياسيين تعيد للأذهان أن القادة يجب أن يسيروا أمام الأمة، وأنه لا مكان لمن يمشي في الوسط أو الخلف، وأنه ليس المهم أن تفتح لهم الأبواب في الشرق أو الغرب، بل الأهم أن تفتح لهم قلوب الأهل والأمة، وأنه وبقدر ما كانت التنازلات عن الحقوق سبباً للسقوط فإن الثبات على المبادئ الصحيحة والصبر عليها هو سبيل النهوض والتمكين.
إن هذه القضية أساسية في فهم تصرفات أطراف السلطة الفلسطينية التي تعي أنه ليس أمامها للبقاء سوى أن تختار: أن ترفع مستوى مطالبها وتقترب من مواقف حماس بل وتزايد عليها؛ وهذا يقتضي بروز قيادات جديدة من فتح تقوم بهذا الدور؛ ولذا فإن الخيار الأول لهذه الأطراف هو تجريد حماس من أساس قوتها، ولذلك فلا نستغرب أن زعيماً فلسطينياً يدعي الوطنية يرى أن قضيته الأساسية هي مطالبة حماس بالاعتراف بإسرائيل وليس المطالبة بتحقيق وعودها الانتخابية للناس التي تقوم على رفع سقف المطالب الفلسطينية، ومحاربة الفساد، وتهيئة سبل العيش الكريم؛ إنه لا يطالب الآخرين بمساعدة الشعب الفلسطيني ورفع الظلم عنه وعدم حصاره وتجويعه، بل إنه يطالب حماس بالإذعان كما أذعن، وبالتنازل كما تنازل حتى يكونوا سواء. ففي خطاب التكليف قال محمود عباس، رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية؛ إنه مستعد للتدخل إذا ألحقت الحكومة المقبلة بقيادة حركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية (حماس) ضرراً بمصالح الشعب الفلسطيني. وقال عباس في خطابه:«ما أن تتولى حكومتك مهامها فإني أطلب منك مجدداً إجراء التصحيحات الضرورية لبرنامجك» .
وأضاف:«اختيار الديموقراطية لا يعني رفض الالتزامات القانونية والسياسية للسلطة الوطنية الفلسطينية ولمنظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني» .
وقال عريقات كبير المفاوضين الفلسطينيين: إن رسالة عباس إلى هنية تشدد على أسف عباس لرفض حركة المقاومة الإسلامية ثلاثة مبادئ رئيسية من مبادئ السلطة الوطنية الفلسطينية وهي: الاعتراف بحق إسرائيل بالوجود، دعم مفاوضات السلام لتحقيق إقامة دولتين تعيشان جنباً إلى جنب بسلام، وقبول مبدأ حكومة منفردة ممثلة للشعب الفلسطيني.
إذا كانت حماس تواجَه حالياً بمصاعب جمة تتلخص في الحصار الاقتصادي الخانق الذي يتمثل في تسلمهم خزينة خاوية، ومنع المساعدات الخارجية، وإغلاق المعابر حتى جاع أهل غزة، ويضاف إليه حصار سياسي بمنع الاتصال بمسؤولي الحكومة الجديدة وحصر الاتصال بالرئاسة، وشمل ذلك حتى المنظمات الدولية مثل منظمة العمل الدولية التي قام مندوبها بتجاهل وزارة العمل والتعامل مع قطاع الأعمال مباشرة، ويضاف إلى ذلك التحديات الأمنية التي تتمثل في تزايد عمليات الاغتيال الإسرائيلية وتركيزها على كوادر الجهاد وفتح والمقاومة الشعبية، ومحاولة جر التنظيمات إلى اقتتال داخلي كما حصل على خلفية اغتيال «عبد الكريم القوقا» القائد العام لألوية الناصر صلاح الدين الجناح العسكري للجان المقاومة الشعبية، بل وصل الأمر إلى منع موكب رئيس الوزراء الجديد من تجاوز أحد حواجز الأمن الوقائي؛ فإن أهم المكاسب هو عودة القضية إلى البداية وإحياء عدم شرعية إسرائيل وإحياء قضية اللاجئين.
ونحن الأن في وضع يتقابل فية حكومة فلسطينية لا تعترف بإسرائيل وحكومة إسرائيلية فازت على أساس شعار تعيين حدود الدولة؛ إنها بداية مرحلة انقلاب يحس فيها اليهود بالخطر؛ فعلينا ألاَّ نضيع الفرصة، ولْنتمسك بالمبادئ.
(*) أستاذ مساعد في كلية الهندسة، جامعة الملك سعود، الرياض، المملكة العربية السعودية.