ملف السلام العربي/ الإسرائيلي
[الشرق أوسطية عنوان مرحلة]
ولماذا وقع الأردن؟
د/عبد الله عمر سلطان
الأردن يوقع اتفاق سلام مع إسرائيل ...
مصافحة تاريخية بين الحسن ورابين تنهي نصف قرن من الصراع ...
مولود جديد للسلام برعاية كلنتون ...
هل هي كرة الثلج تبدأ عادة بكتلة صغيرة من ذرات الماء المتجمدة ثم تقذف
بها عوامل خارجية إلى أسفل السفح فتتورم بإطراد وتكبر وهي تلقى مصيرها
المنحدر؟
«لم يكن الاتفاق الأردني / الإسرائيلي في المحصلة النهائية إلا انعكاساً
لوضع الذي يأخذ في التشكل هذه الأيام بعين اتفاق رابين / عرفات، ودليلاً آخر
على أن من يحدد إطار اللعبة وحدود العلاقة في المنطقة هو طرف مستفيد من
سقوط (قطع الدمينو العربية) واحدة بعد أخرى في سبيل ترسيخ النظام الشرق
أوسطي الجديد. بهذه العبارات حدد أحد كبار المحليين الفرنسيين الوضع الحالي في
المنطقة، وأضاف: (كل ما فعله الحضور المسرحي لبيريز وحسن - ولي العهد-
هو أنه أخرج الاتصالات الأردنية/الإسرائيلية من حيز السرية والظلام إلى السطح
والواجهة الإعلامية.. لقد حاول الملك حسين أن يخفي هذه الاتصالات التي كان
آخرها قبل يومين من توقيع الاتفاق حينما رتب مع بيريز لتفاصيل (الحفلة)
ونصوص وثيقة العلاقة القادمة ... لكن الجميع يعرف أن رائحة الصديق الإسرائيلي
كانت تفوح بشره في الأردن بعد كل لقاء حميم.
مهنته كملك ...
قبل أكثر من عقدين تحدث الملك الأردني لصحافي فرنسي عن شخصيته
وطموحاته وماذا ينتظر منه أن يقدم كملك للكيان الهاشمي ومشروعه القومي الذي
فجره جده الشريف حتتين تحت حراب رجال المخابرات البريطانية.
لقد كانت مخاوف الملك حسين منذ صعوده إلى السلطة وهو شاب لم يتجاوز
الثامنة عشرة أن يحافظ على هذا الكيان المسمى بشرق الأردن، وهذه المخاوف
تغذيها دوماً حقيقة مزعجة ظلت تلاحق جده الملك عبد الله تتمثل في أن هذا الكيان
(صُنع) على عين الإنجليز و (أقيم) في غرف وزارة المستعمرات البريطانية)
كبديل للوطن الفلسطيني الذي وُعد به الصهاينة داراً لحلمهم وموطناً لفكرتهم ... و، وكأي (ثائر) صُنع وبَزغ في مشرقنا التعس فقد سارع الملك عبد الله إلى تبني
مشروع المملكة الأردنية الهاشمية كمرحلة مؤقتة حتى يتحقق حلمه السلطوي لأكبر
بأن يكون ملكاً لسوريا وما تبقى من بلاد الشام، هذا الوطن البديل لفلسطين كان
ثمنه أن يقبل الملك عبد الله بالكيان الصهيوني على أرض فلسطين ويعترف به سراً
وتجري الاتفاقات مع الإنجليز واليهود مقابل تثبيت ملكه في ضفة الأردن الشرقية
مع وعود مستقبلية بتوليته مقاليد سوريا مقابل حفظ أمن الكيان الصهيوني وضمان
سلامته.
وفي خضم الاتفاقيات وتنفيذها سقط الملك عبد الله برصاص الاغتيال على
بوابة الحرم المقدس وهو لم يهنأ بتحقيق حلمه الطموح وإن كان قد تولى ملك الضفة
الغربية ثمناً للمعركة الخاسرة التي أطلق عليها (النكبة) وهي في حقيقتها
(الصفقة) ال تي تاجر في سبيلها الشريف حسين وذريته بمقدرات ومقدسات وثوابت الأمة مقابل وهج السلطات وفي سبيل غرور الملك ...
ألم يكن من السخرية أن يرفض الخليفة العثماني (التركي) عبد الحميد أن يبيع
فلسطين لهرتزل وهو في أمس الحاجة للمال والدعم اليهودي والغربي، وأن يتنازل
الملك عبد الله (العربي) عن مسرى جده الهادي -صلى الله عليه وسلم- بعد أن وثّق
المعاهدات مع وايزمن وبن غوريون ... ؟ !
وإن كان حلم عبد الله كبيراً وجشعه مشهوراً فإن حفيده الذي تولى الملك بعد
أبيه المريض كان ولا يزال يدفع ثمن فكرة الوطن/البديل ويحاول أن يتمسك بشرق
الأردن في ظل تسارع الخطى نحو الحل النهائي الذي يقتبس فكرة خبراء وزارة
المستعمرات القديمة والقائلة بإزاحة أهل فلسطين عنها وأحلامهم شرق النهر بعد أن
عملوا على إقامة كيان وديع مسالم مستغرب يحكمه (هاشمي) لم يطلق رصاصة
واحدة في وجه اليهود مما دفع إسحاق رابين للقول:» إن وجود الملك حسين
ضروري لتحقيق السلام والأمن (أمن اليهود) حيث لم تشهد حدودنا حوادث إرهاب
أو شغب في ظل حكمة العاهل الأردني «.
هل عرفتم إذن ماذا يعني (جلالته) بمهنته كملك؟ ؟
تحديات أضخم من الإمكانات:
بالرغم من النعوت والصفات والمواهب الشخصية التي يتمتع بها الملك
الأردني فإن الصحافي البريطاني الشهير (دايفيد هرست) صديق الحسين لخص
الوضع في الأردن عشية عودة الحسين من رحلته العلاجية بالقول: إنه الملك الذي
شهد أعنف التحديات في ظل التحدي الناصري والقومي وواجه بحسم الثورة.
الفلسطينية التي صفيت في أيلول الأسود عام ١٩٧٠م وفاقت شعبيته أي زعيم آخر
في المنطقة أيام حرب الخليج حين وقف في صف العراق ليصبح في خانة الثوريين
ولذا فقد أصبح يخاف من المستقبل حيث عوارض المرض الخبيث (السرطان) ،
وموجة الإسلام السياسي العاصفة، وأهم من ذلك وضع الأردن بعد السلام وهذا كله
يجعل من موقف الحسين موقفاً صعباً ... وما لم يقله صديقه البريطاني ما قاله
معلقون آخرون (إن الأردن أصبح مرتبطاً بوجود الحسين فبوجوده يبقى وبزواله
ربما يضمحل ... )
إن التحدي الحقيقي قد جاء من الجهة الأخرى من ضفة نهر الأردن حيث
يسعى اليهود الذين تربطهم بالعرش الهاشمي صلات سرية وثيقة أن يكون الأردن
هو البديل عن أرض الرسالات التي من المستحيل - في عرفهم - أن يحكمها
سواهم، وفي ظل الوضع العربي العاجز والانهيار الذي انتاب قيادة المنظمة
(العرفاتية) فلا يستبعد أن يحل (الناطور الفلسطيني) محل (العاهل الهاشمي على المدى المتوسط / البعيد ... ، وهكذا فقد يجد العاهل الأردني القادم أن (المملكة العربية) التي وعد ماكموهن جده بها قد انكمشت، وأن الوطن البديل قد أصبح فكرة قائمة وبعيدة عن حكم ذرية الحسين. التي أدت للمعسكر الغربي أكبر خدمتين في المنطقة خلال قرن: تصفية الخلافة الإسلامية العثمانية وتسليمها (مع غيرهم) فلسطين بقدسها لليهود.. وكل هذا يتم تحت لافتة ضخمة يحملها (شريف) من آل البيت ... !
الاتفاق الباهت!
في ظل السباق القائم بين عرفات والحسين بعد أن اتضح أن أمريكا وإسرائيل
قد قبلتا يد عرفات المدودة بخنوع وذلة؛ وقع ولي عهد الأردن مع بيريز (سفر
السلام) القادم حتى يضمن الأردن دوراً في النظام الشرق الأوسطي الجديد بالرغم
من أن أول من انتقد اتفاق السلام الفلسطيني اليهودي كان (جلالة الحسين) لكنه
سرعان ما ابتلع اعتراضاته وتهديداته وأصبح الاتفاق في نظره (خطوة شجاعة)
و (علامة جريئة) تستحق أن تحظى بكل الدعم، فالمرحلة المقبلة هي مرحلة
كسب الرضى الإسرائيلي، والأردن له سجل مشرف (في ظل قيادة الحسين) في حفظ أمن الدولة العبرية ...
ومع كل هذا يظل التحدي أكبر من مهارة الحسين ودبلوماسيته ومراوغته
السياسية، صحيح أن الحسين، كما قال هرست قد خاض بحر الظلمات العربية
وخرج سالماً حتى الآن، ولكن الصلح مع اليهود وعلاقة شرق الأردن بالدويلة
الفلسطينية الرمزية في غزة وجزء من القطاع تقتضي أن يدلف (الصانعون) للكيان
الأردني للموضوع دون رتوش أو مقدمات لأن المسألة تمس وجود الأردن ذاته الذي
وُضع منذ البداية كوطن بديل لفلسطين، الحسين في هذه المرحلة لا يواجه الأشقاء
العرب ... إنه يواجه السادة الذين سمحوا له بالوجود! وإن كانت الظروف تقتضي
(تأمير) وتمليك القميص الأردني للملك عبد الله وذريته في السابق؛ فإن الأردن
منذ البداية في الفكر الصهيوني / الصليبي هو الوطن الفلسطيني على المدى البعيد،
واذا كان هذا الهدف يتعارض معه بقاء الأسرة الهاشمية واحلالها بقبائل عرفات
ومنظمته فإن هذا الحل سيجد طريقه للواقع وهذه التضحية بحسن أو حسين ليست
غالبة حتماً.... مع ميل العواصم الغربية إلى تفضيل القيادة الأردنية الحالية
المتمرسة في قياد اللعبة بمهارة وحنكة، خصوصاً أن على اللائمة موضوعاً يثير
(مثلث السلام) الأردني/الفلسطيني/الإسرائيلي والمتمثل بتحجيم الحركة الإسلامية
على ضفتي النهر، وهنا فربما خرج الحسين رابحاً ومنفذاً لهذا الهدف الثالث الذي
يحلم الغرب بتحقيقه في مواجهته الحضارية الراهنة مع الإسلام، وتلك مهمة
تستحق أن يندمج فيها الممثلون حتى لا تعرف في النهاية الحسين من عرفات من
رابين ... !
أليست المرحلة تحمل عنوان (الشرق أوسطية) ؟ .