خواطر في الدعوة
[رجل الفطرة]
محمد العبدة
يرجع الداعية - في بحثه الدؤوب عن أصحاب الفطر السليمة الذين لا
يحملون بين جوانحهم عوامل الضعف والهزيمة النفسية - إلى سيرة مُعلِّم الخير
محمد -صلى الله عليه وسلم-، ليستلهم منها معالم تنير له الطريق.
ومن الدروس المستفادة من السيرة النبوية أن الله سبحانه وتعالى بعث أكرم
خلقه من بيئة لا هي بالحضرية المدنية المغرقة في الترف وفنون النعيم والملذات،
ولا هي بالبدوية الجافية البعيدة عن التمدن والعمل المشترك، فالأسر القرشية لم
تصل بعد إلى تعقيدات المدنية، ولم تأسرها الشكليات والمظاهر، ولا يزال شباب
قريش يألفون الخشونة والفروسية، رغم عيشهم في بيئة تجارية مبتعدين عن خلق
المذلة والمراوغة التي يألفها من استحكمت فيه عوائد الترف، أو عاش تحت قهر
الاستبداد والبحث عن لقمة العيش في بيئة مادية لا رحمة فيها ولا شفقة.
ولا نعني من هذا أنه لا بد من العيش في قرى أو مدن صغيرة -كمكة عند
البعثة-، فهذه سطحية في التفكير وسذاجة، ولكن المقصود هو: العيش في أجواء
الفطرة السليمة، أجواء التخفف من القيود التي تكبل المسلم عن الانطلاق في دعوته، هذه القيود التي لم يأت بها شرع ولا حكم بها عقل، ولكن دواعي الانحطاط هي
التي تهتف بها.
فالدعوة لا يتم أمرها ولا يقوى عودها إلا برجال تعودوا الخشونة، تتجافى
جنوبهم عن الانغماس في النعيم، كلما سمعوا هيعة طاروا إليها.
والرجل الذي عاش حياته راضياً بالقليل، بل خائفاً من ذهاب هذا القليل،
عاش يسمع وصايا والدته تحذره وتخوفه من أي عمل عدا العمل الذي سيعيش منه،
هذا الرجل قد انغرس في نفسه الضعف، وأصبح بعيداً جداً عن المغامرة وركوب
المصاعب، فهو دائماً يخاف من المجهول، يخاف من المستقبل، يفكر دائماً في
الاحتياطات اللازمة لتدبير (العيش) .
هذا الرجل الذي يحمل أتعاب مدينة مرت عليها قرون وهي تعيش تحت قهر
كل متغلب، وتألف كل قادم، هو لا شك يشعر بضآلة نفسه وقصور همته، ولا
يسمح لتفكيره بأن يخطر له ذكر الأعمال الكبيرة والمشروعات العظيمة، بل إذا
حمل فكرة قوية يمسخها إلى (نصف) فكرةٍ يؤوِّلها حتى تتمشى مع ضعفه وانحطاطه، فهو دائماً في منتصف طريق ونصف نهضة، لا هو بالبادىء، ولا هو بالمنتهي، فإذا تعلم ودرس أصبح نصف دارس أو نصف طبيب، وإذا كان موظفاً يحس أنه
جزء صغير من آلة ضخمة، فمثل هذا لا يساعد على التحفز لعمل كبير، فهو
رجل (الحد الأدنى) .
ونحن نريد رجل الفطرة الذي يملك حيوية الاندفاع والتضحية، فيه بساطة
وسمو، فإذا عقل الإسلام وفقهه فقد جمع (نوراً على نور) ، وهو الرجل المؤهل
للتغيير.