المسلمون والعالم
الأحداث في القوقاز ...
حرب لم يكسبها الروس، ولم يخسرها الشيشان
د/عبد العزيز كامل
بعد أن وطئ الروس بأقدامهم الثقيلة أرض العاصمة الشيشانية (جروزني)
وسط تواطؤ دولي مكشوف، هناك أسئلة تتوارد على الأذهان حول هذه الحرب
وانعكاساتها المحتملة على الصراع المحتدم الآن بين قوى الكفر والإسلام في الشرق
والغرب.
لعلي في هذه السطور أتناول بعض هذه الأسئلة المطروحة، ولنجعل الوقائع
تجيب عليها:
أولاً: هل انتهت الحرب باستيلاء القوات الروسية على قصر الرئاسة؟ :
التاريخ يجيبنا أن لا، بل إن تلك الحرب يمكن اعتبارها قد بدأت بالفعل،
وبخاصة بعد أن انحاز إلى الجبال المقاتلون الشيشان الذين يشتهرون بالتمرس في
معاركها عبر التاريخ، فروسيا لم تستطع طمس هوية هذا الشعب عبر مائة
وخمسين عاماً من الصراع في شمال القوقاز، ذلك الصراع الذي بدأه القياصرة
(البيض) النصارى، ثم تبعهم القياصرة (الحمر) الشيوعيون، ثم هاهم أدعياء
الليبرالية الروسية (الغبراء) يحاولون إعادة الكرّة عن طريق المخالب والأنياب
(الديموقراطية) .
لقد خاض الإمام شامل حرب عصابات في جبال القوقاز لأكثر من ثلاثين سنة، وحتى بعد أن سقط في (ميدان الكرامة) عام ١٨٥٩م فإن الحرب استمرت حتى
عام ١٨٦٤م. وأهل الشيشان يقولون: إن الحرب التي بدأت فعلياً كحرب عصابات
لن تنتهي إلا في حالتين: إما أن تستقل الشيشان عن روسيا الاتحادية ويرحل
المحتل الروسي عنها، وإما أن يفنى ذلك الشعب مفضلاً الشهادة على الحياة تحت
سيطرة عدو حاقد يضع الشعب الشيشاني في مرتبة أدنى من مستوى الآدمية.
ثانياً: ما الذي دفع شعباً صغيراً كشعب الشيشان (مليون و٢٠٠ ألف نسمة)
أن يقدم على تحدي قوة من أكبر قوى العالم العسكرية لينازلها إلى النهاية؟ وهل يعد
هذا ضرباً من الانتحار الجماعي أو المغامرة بحياة الشعوب؟
لك أيها القارئ أن تتصور حال شعب يتوارث إذلاله أعداؤه جيلاً بعد جيل
محاولين إقصاءه عن دينه وهويته خلال مائة وخمسين عاماً من الحروب، مرة
لتنصيره، ومرة لإجباره على الردة والدخول في دين من لا دين لهم من الملحدين
الشيوعيين، ومرة لإكراهه على الاندماج القسري مع عدوه الروسي فيما يسمى بـ
الاتحاد الروسي..
ماذا ينتظر من الشعب الشيشاني الغني بموارده النفطية وغيرها عندما يرى
٩٨% من موارده تتحول كل سنة إلى موسكو بينما لا يبقى له غير ٢% منها؟ ..
ماذا ينتظر من شعب لم يكن يوماً (أرثوذكسياً) في ملته أو (سلافياً) في عرقه
وسلالته، ومع ذلك يُكره على أن يكون جزءاً لا يتجزأ من جسم روسيا الأرثوذكسية
السلافية؟ ! .. ماذا ينتظر من شعب يُنظر إليه باحتقار لدرجة أن يقرر الزعيم
المتجبر ستالين أن ينفيه بأكمله إلى مجاهل سيبريا، ويسلم أرضه لأهل (جورجيا)
بدعوى أنه تعاون مع النازيين أعداء روسيا، ثم يُكتشف بعد ذلك بسنوات طويلة أن
هذا الاتهام كان مجرد (غلطة) ! ! .. وماذا ينتظر من شعب يتوعده الزعيم القومي
المتطرف متنامي الشعبية جيرنوفسكي بسلب حقوقه المدنية و (إخصاء كل رجل
فيه) ! ! .. وماذا ينتظر من شعب يتخذ لكل هذه الأسباب قراراً جماعياً بالانفصال
عن هذا الاتحاد الروسي الإجباري، ظناً منه أن الدنيا قد تغيرت وأن العالم الحر
المنادي بحق الشعوب في تقرير مصيرها سيناصره ويؤازره، فإذا بهذا العالم يقف
مع عدوه ضده؟ ! .. ثم ماذا ينتظر من شعب اختار زعيماً له عن طريق الانتخاب، ثم يراد إكراهه على الخضوع لزعامات مصنعة في الخارج من عملاء مأجورين
ومعينين من قبل العدو وقادمين من الخارج فوق الدبابات؟ ! إن هذه الأسباب
وغيرها تفسر لنا: لماذا أجمع هذا الشعب على الوقوف خلف زعامة تقوده لمحاولة
الخروج من هذا الهوان.
ثالثا: لماذا أقدم يلتسين على خوض غمار هذه الحرب بهذا الإصرار؟ :
من الناحية الاقتصادية التي لها الأولوية في قرارات عُبّاد المادة أراد الروس
أن يحافظوا على احتكار مصادر النفط الشيشاني الغنية، ويُؤَمنوا مرور أنابيب
النفط عبر هذه الأراضي التي يطلق عليها (بوابة آسيا) ، ثم هم يريدون استمرار
تحويل نسبة الـ ٩٨% من الموارد الشيشانية إلى جوف الدب الروسي المتخم بالشر
والشره.
أما الناحية السياسية، فلا شك أن التسليم بخروج الشيشان من تحت المظلة
الروسية، سيؤدي حتماً إلى تفكك الاتحاد الروسي الجديد، ليلحق بالاتحاد السوفيتي
الفقيد، الأمر الذي سيعده الروس نذير شؤم يهدد أحلامهم بقيام إمبراطورية روسية
تكون وريثة للشريك السابق في قيادة العالم، وستتضاعف الكارثة إذا تتابع خروج
الجمهوريات الإسلامية الأخرى في منطقة القوقاز التي تتشكل من نحو ٤٠ أقلية
عرقية وقد يكون انفصال الشيشان أول مسمار في نعش الاتحاد الروسي كما كان
استقلال دول البلطيق أول سهم في صدر الاتحاد السوفيتي البائد.
رابعاً: هل حقق الروس أهدافهم من حرب الشيشان؟ :
يستطيع المرء أن يجزم بأن هدف الروس المعلن من هذه الحرب وهو إعادة
النظام وفرض احترام الدستور لم يتحقق؛ فالأرض الشيشانية مازالت تغلي تحت
أقدام الروس، وعندما وضعت روسيا قواتها في حالة تأهب في ١٤/١٢/١٩٩٤،
ثم بدأت القتال بعد ذلك: كان مقرراً لهذه الحرب ألا تستغرق وقتاً طويلاً، حتى إن
وزير الخارجية الروسي قد صرح بأن المهمة العسكرية في الشيشان لن تستغرق
أكثر من ساعات معدودة، ومما يدل على أن الروس كانوا جادين في إنهاء هذه
الحرب بسرعة: أنهم حشدوا لغزو الشيشان ١٥٠ ألف مقاتل، بينما لم يحشدوا
لغزو أفغانستان إلا نصف هذا العدد، ولكن الذي حدث أن المعركة طالت وزادت
أعباؤها مما أوقع يلتسين في ورطة، ووجد الروس أنفسهم غارقين في مستنقع
حرب عصابات يبدو أنها ستكون طويلة ومرهقة ومذلة للروس ومما زاد من ورطة
الرئيس الروسي وعده بتخفيض عجز الميزانية الروسية بنسبة كبيرة لعام ١٩٩٥،
ولكن تلك الحرب عرقلت برامجه من أجل الوفاء بهذا الوعد، وأصبح حصوله على
مساعدات آتية من الغرب محل شك، نظراً لأن صندوق النقد الدولي له حساسيات
خاصة به فيما يتعلق بالأزمات الداخلية في الدول التي تتعامل معه.
ومما يدل على شدة اضطراب يلتسين من عدم انتهاء هذه الحرب بسرعة: أن
قواته ظلت تقصف العاصمة الشيشانية بشراسة وجنون غير عابئة بالأصوات التي
تنبعث من هنا وهناك منادية بوقف القتال ووصلت به العجلة إلى حد اعتبار الحرب
منتهية بمجرد الاستيلاء على قصر الرئاسة الذي تسلمه الروس مدمراً تماماً وخالياً،
ثم أعلن بوقاحة أن مهمة الجيش قد انتهت وأن الشرطة تتولى فرض النظام، ولكن
ظهر بعد ذلك أن المقاتلين الشيشان لايزالون يقاومون الجيش الروسي حتى كتابة
هذه السطور في مناطق مختلفة من العاصمة (جروزني) .
وقد أدى استمرار القتال، وبالتالي استمرار الانقسامات في المواقف داخل
الحكومة والجيش الروسي إلى المزيد من الإرباك لـ يلتسين، مما قد يضطره إلى
التضحية ببعض معارضيه ككباش فداء، وهنا لن يكون في مقدوره أن يحكم قبضته
على منصب الرئاسة، ولاتزال تفاعلات هذه الحرب مستمرة على الساحة الروسية
نظراً لتزايد عدد القتلى والأسرى والجرحى الروس في الحرب، أما على الساحة
الدولية: فإن ديمقراطية يلتسين المدّعاة قد أصبحت نوعاً من المزاح الثقيل الذي لا
يضحك أحداً! ، وإلا فكيف تقرر روسيا الديمقراطية إزاحة رئيس منتخب من شعبه
من على كرسي الرئاسة بواسطة الدبابات والطائرات؟ !
أما من الناحية الإعلامية: فقد خسرت موسكو الحرب دعائياً، واهتزت
صورتها وهي تحشد قواتها وتكشر عن أنيابها بكل شراسة في مواجهة شعب أعزل
يدافع عن أبسط حقوقه، كما ظهر زيف وكذب إعلامها في تغطية أنباء الحرب،
وقد اعترف بهذه الخسارة الإعلامية سيرغي ستيباشين رئيس جهاز مكافحة التجسس
في موسكو.
خامساً: ما هي انعكاسات أحداث الشيشان على ما يسمى الشرعية الدولية؟ ،
وما هو تقييم موقف الغرب من هذه الحرب؟ :
مثلما سقطت مصداقية الديمقراطية الروسية مع كل صاروخ كان يسقط على
(جروزني) ، فإن مصداقية الديمقراطية الغربية أيضاً كانت تسقط مع كل قتيل أو
جريح يسقط من أهل الشيشان، ذلك لأن الغرب هو الذي أعطى يلتسين الضوء
الأخضر، لكي يبدأ تلك الحرب الجائرة، فهو لم يكتف هذه المرة بمواقفه السلبية
الباردة فيما يتعلق بقضايا المسلمين، بل إن موقفه اتسم في معظمه بمباركة هذا
الغزو مبرراً إياه بأن جمهورية الشيشان تعتبر من الناحيةالقانونية جزءاً من الاتحاد
الروسي، وبالتالي: فإن مسألة تدمير العاصمة فوق رؤوس سكانها يعد مسألة
داخلية في مفهوم دعاة حقوق الإنسان وحق الشعوب في تقرير مصيرها! إن هذه
الدول التي وقفت موقفاً صارماً من الاتحاد السوفيتي السابق من أجل إطلاق عدة
آلاف من اليهود السوفيت ليهاجروا بحرية إلى الأرض المغتصبة في فلسطين
بدعوى حق الإنسان في العيش حيث يريد: هي الدول نفسها التي تتنكر الآن لمجرد
حق الحياة الآمنة للشعوب المسلمة المستضعفة في الشيشان والأنجوش والبوسنة
وفلسطين وغيرها، وتلك الدول التي ساندت بحزم المفكر الروسي أندريه سخاروف
ضد الرئيس السوفيتي الأسبق ليونيد بريجنيف بدعوى حق الإنسان في أن يفكر كما
يريد، هي نفسها التي لا تريد أن تقر الآن لشعوب بأكملها أن تشق طريقها في
الحياة حسب ما تمليه عليها قيمها ومعتقداتها، وهذا الموقف المتنكر لحرية الشعوب
في تقرير مصيرها جعله الغرب وقفاً على الشعوب الإسلامية فقط، أما حينما
قررت جمهورية (ليتوانيا) في عهد جورباتشوف الانفصال والاستقلال، فإن تلك
الدول قد وقفت خلفها بكل قوة، مما عجل بانفراط عقد الاتحاد السوفيتي البائد،
فحقوق الإنسان المسلم مستباحة لكل من أراد الغزو أو التطهير العرقي أو فرض
النظام واحترام الدستور! ، أما حقوق الإنسان في مثل (هايتي) و (بنما) فمن أجلها
يُعد الغزو وتجييش الجيوش أمراً واجباً حتى لا تضيع القيم الديمقراطية! .
سادساً: ما مدى إسلامية المعركة التي يخوضها الشيشان ضد الروس؟ :
هذا السؤال يتكرر كلما نشب صراع بين قوى الكفر وبين طوائف أو شعوب
من المسلمين المستضعفين المنسيين! ، وربما كان هذا السؤال بريئاً للتأكد من
شرعية دعم المقاتلين في هذا الصراع، وربما يكون مغرضاً: الهدف منه التثبيط
وصرف أنظار المسلمين عن قضايا إخوانهم في الدين والعقيدة الذين يستنصرون بهم
فيوجبون عليهم النصرة.
والذي يتضح من تاريخ هذا الشعب في الجهاد وصموده ضد رياح التغيير
التي هبت عليه من كل جانب: أنه شعب يريد الحق على أقل تقدير وإن لم يكن
مستقيماً كل الاستقامة على منهاجه، وأحاديث القادة هناك وإن كانت مما ينبغي أن
تؤخذ على حذر إلا أنه لا ينبغي أيضاً أن تتجاهل فيها العاطفة الإسلامية! ؛
فالشيشان أصحاب قضية وإن انتشرت بينهم الخرافة والبدعة! ، ولكن الأصل
المعمول به عند علماء أهل السنة كما قرر ذلك الإمام ابن تيمية أنه يجاهد مع الأمير
الفاجر الأمير الكافر، فإذا أضفنا إلى ذلك أنهم مستضعفون غاية الاستضعاف
بالنسبة لعدوهم كان الأمر آكد؛ فالنسبة العددية بين الروس والشيشان هي ١٠٠:
١، أما القوة العسكرية: فجيش الشيشان لا يتعدى الـ (٤٠) ألف مقاتل بينما
الجيش الروسي يتألف من أكثر من مليوني جندي، وأما عن ناحية العتاد: فسلاح
الشيشان: معظمه من السلاح الخفيف، وحتى الثقيل منه فمحدود وقديم، أما
الروس: فيملكون أكبر وأقوى ترسانة للأسلحة في العالم. وهذه المقارنة علي كل
حال لا تعني صرف النظر عن نصرة هؤلاء المظلومين المستضعفين في حرب
الإبادة التي شنت عليهم، ولكنها مما يؤكد وجوب نصرتهم بالمستطاع في معركتهم
المصيرية؛ فنحن أمة نؤمن بالغيب، وبأن الله (تعالى) قد أحكم في الكتاب آية
تنبيء عن سنة كونية ثابتة لا تتغير وهي قوله (تعالى) : [كم من فئة قليلة غلبت
فئة كثيرة بإذن الله، والله مع الصابرين] [البقرة: ٢٤٩] . لقد أعلن الرئيس
جوهر دوداييف أن خسائر الروس في تلك الحرب قد بلغت ١٢ ألف روسي. ومن
يدري، فلعل الله (تعالى) قد شاء أن ينزل زعامة الاتحاد الروسي من علياء كبريائها
على يد المستضعفين الشيشان، كما أسقط من قبل بنيان الاتحاد السوفييتي ركاماً
على يد المستضعفين الأفغان.
وصدق الله العظيم في قوله: [ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي
عليه لينصرنه الله] [الحج: ٦٠] . اللهم انصر إخواننا وثبت أقدامهم، وزلزل
الأرض من تحت أقدام أعدائهم.. آمين.