[صورة المسلم الملتزم في الدراما العربية المعاصرة]
وجه جديد للاغتراب
مدى الفاتح
قبل أربعة أعوام تقريباً، وبالتحديد في أغسطس من عام ٢٠٠٠م أذاعت (مونت كارلو) في أنبائها الصباحية نبأً غريباً عمَّا أسمته «ثورة شعبية» ضد مسلسل عربي بعنوان «العائلة» كان يُعرض آنذاك في اليمن، وأخبرتنا المذيعة أن المسلسل الذي كان يتضمن ـ بحسب الثائرين ـ إساءات بالغة للإسلام والجماعات الإسلامية، تحول إلى موضوع لخطب الجمعة في المساجد اليمنية، كما أثار حفيظة الكثيرين من الدعاة والعلماء.
على المستوى الشخصي أنا لم أشاهد المسلسل المذكور، ولا أعلم ما إذا كان قد عُرض على شاشة بلادي الصغيرة أم لا، إلا أنه وعلى كل حال فإنها لم تكن المرة الأولى ولا الأخيرة التي تتم فيها الإساءة بشكل مباشر ـ أو غير مباشر ـ للمسلم الملتزم، أو للثقافة الإسلامية كمجموعة عن طريق العمل الفني.
أما موضوع الغرابة الحقيقي فليس الإساءة بحد ذاتها؛ فقد اعتدنا على ذلك في أفلام وفنون الغرب التي لا يكتب لها النجاح إلا إذا طفحت بمشاهد تسيء إلى العرب والمسلمين بشكل يبدو في بعض الأحيان عدائياً كما في أفلام (سلفستر ستالون) ، (رامبو) ، وفيلم (تايتنك) ، وغيرها، وإنما تستغرب؛ لأن الدراما هذه المرة عربية تُنتج في بلاد العرب هناك حيث الغالبية المطلقة من المسلمين!
- سلوك الرافضين:
إن تلك الحقيقة البدهية الأخيرة إن دلت على شيء فإنما تدل من جديد على حجم الاغتراب الذي نعيش فيه، فنحن لا ننظر لأنفسنا إلا من منظور عيون الغرب، ولا نحاكم حضارتنا إلا من تلك الزوايا التي يحاكمنا بها أعداؤنا، وهي نظرة أقل ما يمكن أن توصف به: هو كونها نظرة مَرَضِية ومشوهة وغير موضوعية، تعمل على رفض جذورنا الحضارية الحقيقية لتفرض نماذجاً من واقع خيالها، إلا أن هذه النظرة للأسف هي نظرة منتشرة، بل وذات أغلبية، وإذا أخذنا صورة المسلم الملتزم (المستقيم) ، أو الداعية في دراما التلفزيون كمثال، ورأينا كيفية معالجة هذه الشخصية؛ فإننا سنكتشف أنها كانت سلبية على الدوام، سلبية تماماً.
فمن ناحية كان رأي قطاع كبير من العاملين بالحقل الإعلامي هو تجاهل هذه الشخصية بوصفها شخصية «معقدة» أو «مركبة» من (وجهة النظر الدرامية) وعدم الإلماح لها بخير أو شر، وهذا الرأي وإن كان يبدو في ظاهره محايداً إلا أنه يحمل في مضمونه مجافاة شديدة للواقع؛ فشخصية الملتزم ـ شاباً ـ أو شابة هي شخصية متنامية في المجتمع العربي المعاصر، ومن الصعب تجاوزها، خاصة لمن يزعم أنه حريص على تصوير الواقع العربي المعاصر كما هو؛ فالواقع الحق هو أن المجتمع العربي ما زال يحتفظ بقيمه، والواقع أن حركة التدين ليست في مراحل انحسارها كما يصورون بل هي في أوج نشاطها، والواقع أن الصحوة الإسلامية قد أصبحت محل تعاطف شعبي واسع، يزداد يوماً إثر يوم.
أما القسم الآخر من كتَّاب ومخرجي الأعمال الدرامية ـ ولعله القسم الأكبر ـ فإنه لا يتجاهل ـ كالأول ـ الشخصية المتدينة، فيعمل على تقديمها، لكنه وفي أغلب الأحوال لا يقدمها بصورة صادقة وحقيقية؛ فهو إما أن ينقل لك الجانب السلبي من هؤلاء الإسلاميين؛ حيث العقيدة المنحرفة والمرتبطة بالخرافات، والدجل، واستغلال البسطاء، أو أن يقدم لك صورة الشخصية المسلمة لا كما يجب أن تكون، وليس أيضاً كما هي بالفعل، بل كما يريد لها هو أن تكون، وسنمثل لكل هذا لاحقاً.
ما أريد قوله هو أن هذه الشخصية بشكلها الذي تعالج به حالياً نادراً ما تكون موقعاً لتعاطف المشاهدين، وحتى في المسلسلات المسماة «دينية» فإن المبالغة في رسم الشخصيات الإسلامية كشخصيات أسطورية تملك خصائص نادرة لن تتكرر يمنع عنها تعاطف المشاهد، كما يصيبه في الوقت نفسه بالإحباط واليأس والتباكي على ماضٍ لن يعود (١) . أما في حقبة السنوات الأخيرة حين علا صوت الاستنكار الشعبي لما يسمى بـ (الإرهاب الإسلامي) فإن المثقفين الرافضين قد استغلوا الأحداث أسوأ استغلال، وبدؤوا جهاراً بمحاربة ما يطلقون عليه رموز الإرهاب! لا غرو؛ فقد وجدوا الآن مسوِّغاً (شرعياً!) ، لكن ما هي رموز الإرهاب في نظرهم؟ هي الحجاب واللحية والجماعة الإسلامية! ثم بدأت فلسفتهم تأخذ شكلاً أكثر وضوحاً. إن أفضل طريقة للقضاء على الإرهاب، ورموز الإسلام السياسي هي القضاء على الإسلام ذاته.
وبدوا مصرّين على تحقيق هذا الغرض، مصرّين تماماً.
- الإساءة للنموذج الإسلامي في السينما:
وفي تلك المرحلة، وبينما كانت تتم تعبئة الشعوب داخلياً وخارجياً ضد كل من يمكن أن ينتمي للصحوة الإسلامية، كان يجري في هوليود الشرق ـ القاهرة ـ تنافس من نوع آخر؛ حيث كانت تستعد لإخراج سلسلة من الأفلام حول موضوع الساعة (الإرهاب) مستعينة بألمع نجوم الشاشة، إلا أن أعظم الأفلام أثراً ـ في رأيي ـ كان فيلم بعنوان: (الإرهابي) لـ (عادل إمام) النجم المصري المعروف، وفي هذا الفيلم استغل النجم قاعدته الشعبية العريضة الممتدة من المحيط إلى الخليج لإيصال رسالة ما، أما مضمون الرسالة فقد كان واضحاً منذ البداية: محاربة الإسلام الأصولي، وتسويغ مواقف بعض السلطات العنيفة ضد الإرهابيين المتسترين خلف عباءة الدين، وقد كانت هذه الأفكار المبدئية ولحد كبير محل تعاطف الجميع.
إلا أن النجم المشهور ورفاقه قد خذلوا الجمهور بشكل مفاجئ؛ فحينما وصل الفيلم إلى المنتصف ما عدنا ندري ما القضية بالضبط، وأين الرسالة؛ فقد بدأ الفيلم بهجوم على الجماعات المسلحة، ثم أصبح هجوماً على اللحية، ثم على الصلاة، ثم على أشرطة الدعوة، ثم ... إلخ.
وبدا ذلك غريباً؛ لأنه من المعروف عن أبطال هذا الفيلم أنهم يختارون أدوارهم بعناية، أما (عادل إمام) فهو لا يعمل وحده، وهو محاط دوماً بفريق يليق به ذي مستوى عالٍ من التمثيل والإخراج، إلا أن نوايا (عادل إمام) الخفية في هذا الفيلم أفسدت حتى الحبكة السينمائية التي بدت سخيفة ومملة، وذات خطاب مبتذل. والقصة باختصار: هي أن أحد شباب الجماعة المسلحة يأتي إلى العاصمة لتنفيذ جريمة اغتيال، ويصور الجزء الأول كيف أن هذا الشاب غير مرتاح لحياته الملتزمة المليئة بقيود الدين والخلق، ثم يحدث أن يفقد وعيه في حادثة؛ حيث يؤخذ لبيت عائلة لا علاقة لها بالدين إلا الاسم، يبدو معقداً في البداية، ويبدأ في مقارنة حياته السابقة بحياته الحالية، وسرعان ما تُحسم المقارنة لصالح حياته الجديدة؛ حيث الخمر، والنساء، والعالم الجديد، وفي نهاية الفيلم يترك الالتزام كلية واقعاً في حب إحدى بطلات الفيلم، أما النهاية التراجيدية فهي أن جماعته الإرهابية تلاحقه وتقتله قبل اكتمال فرحته.
لقد كان هذا الفيلم بحق نكسة لجميع أعمال (عادل إمام) والفريق الذي معه الذين قدموا من قبل عدة أعمال ناجحة، وربما كان من الممكن أن يُكتب لهذا الفيلم انتشار أوسع، لولا طابع السخرية العنيف من المظاهر الإسلامية الذي تميز به منذ البداية، والسذاجة الفائقة التي عولج بها السيناريو والحوار.
إلا أنه يبدو أن الكثيرين لا يشاركونني الرأي؛ فقد حصد بطل الفيلم جوائز عدة بعد هذا الفيلم! كما اعتبرته اليونسكو ممثلاً للسلام والنوايا الحسنة، ويا سلام!!
- الشاشة الغشاشة:
ولأسباب استراتيجية فضّل العاملون في قطاع الدراما نقل المعركة إلى التلفزيون بوصفه الوسيلة الأكثر شعبية وانتشاراً، إلا أن السخرية من الإسلاميين ورجال الدعوة كانت تتطلب هذه المرة حنكة من نوع خاص؛ فالأسلوب الساخر غير محبَّذ في التلفزيون، ولنأخذ على سبيل المثال عدداً من الأعمال، اخترتها من بين الأعمال الأكثر شهرة، والتي لاقت نجاحاً منفرداً في مجتمعنا العربي المسلم.
إن أحدهم فضّل اتباع طريقة التحليل النفسي لدراسة سلوك الشاب المنتمي للجماعة الإسلامية، وفي رأيه أن المشكلات الاجتماعية هي التي تدفع الشاب لهذا الاتجاه المتطرف؛ حيث يقوده اليأس من الحياة الحاضرة إلى البحث عن حياة أخرى أجمل؛ إنني أعني بالتأكيد قصة (اسطبل عنتر) ؛ ففي هذا المسلسل تجمع الجماعة المشبوهة عدداً من المنحرفين نفسياً، وباسم الدين تخدعهم لتنفيذ الأهداف الشريرة لإمام الجماعة الذي يستغل ضعفهم ومشكلاتهم، وسرعان ما يكتشف الشاب الذي انضم أخيراً للجماعة بحثاً عن الحق والخير أن هذه الجماعة ما هي إلا ستار لتنفيذ العمليات الإجرامية، وما ظنَّه شيخاً لم يكن في الواقع سوى مجرم محتال. والفكرة التي تبدو واضحة خلف مشاهد المسلسل هي أنه يجب التعامل مع دعاة الدعوة السلفية بوصفهم مرضى نفسيين، يتم علاجهم ببعث الأمل فيهم وحل مشاكلهم النفسية والاجتماعية.
ومن مَعِين الأعمال الروائية الذي لا ينضب قام التلفزيون المصري باستعارة رواية إحسان عبد القدوس (لن أعيش في جلباب أبي) ، ومن أجل ما يعرف بالمعالجة التلفزيونية يقوم العاملون على إخراج المسلسل بالتصرف في الرواية حذفاً وإضافة؛ مما ينعكس بطبيعة الحال على شخصية الابن الذي يتعرض لهزة نفسية تقوده إلى طريق الزهد والتشدد؛ وهي المرحلة التي لا يلبث فيها كثيراً حتى يُشفى منها، ويتجاوزها عائداً إلى حالته الطبيعية، (وهي الفكرة السابقة نفسها) .
وفي أحد المشاهد يسأله رفيق جماعته السابقة قائلاً: لماذا حلقت لحيتك؟ فيجيبه بما معناه أن لا أحد له شأن بذلك، وأنه لم يكن لديه سبب معين لإرخاء اللحية؛ فيبهت رفيقه أمام هذا المنطق، وينتهي المشهد هنا كما أراد المخرج، وهو يُظهر رجل السنَّة بمظهر الضعيف الذي لا يمتلك حُجة، ولا يقتنع بما يفعل.
ومن جهة أخرى تظهر سلسلة من الأعمال الدرامية هدفها: تكريس فكرة (الإسلامي المنافق) ؛ أي: الشخص الذي يستغل مظهره كملتزم بالسنَّة لتنفيذ أعمال الشر مستغلاً ثقة الناس به؛ منها مسلسل (الإعصار) الذي تكتشف فيه أن رأس العصابة هو الرجل ذو اللحية الكثيفة، والشارب المحفوف والأصابع التي لا تفارق المسبحة. ونجد سمات هذه الشخصية مع تعديلات بسيطة في مسلسل (وما زال النيل يجري) لـ (أسامة أنور عكاشة) ، إلا أن الأخير يقدم هذه النظرية بشكل أكثر عمقاً، يعرض لك شخصيتين إسلاميتين: إحداهما أقرب ما تكون لأهل السنة في مظهرها، أما الثانية فهي شخصية عالم إسلامي شاب مستنير حليق الوجه، يتميز أنه لا يجد حرجاً في التعامل مع الجنس الآخر، وتفسير النصوص بما يتلاءم مع روح العصر، وبينما يجعلنا التسلسل الدرامي نكتشف تحالف الشخصية السُنّية مع قوى الشر والاستغلال، تبرز لنا شخصية الإسلامي التقدمي المتحضر الذي يحارب الجهل، والعادات الضارة، ويقتنع بضرورة تنظيم النسل، تلك الشخصية المتمثلة في الإسلامي (المودرن) .
وهنا نسأل عن فحوى رسالة هذا العمل الكبير: فهل المقصود تقديم صورة أكثر تحضراً لرجل الدين الذي لا يتوقف كثيراً عند أحكام النصوص (رجل الدين هي العبارة الأكثر استخداماً في سيناريو المسلسل) أم أن الفكرة هي أن التمسك بالمظهر الإسلامي ليس بالشيء الرئيس، وأن الأهم هو العقل والقلب؟ (وهو المنطق نفسه الذي تلجأ إليه بعض النساء المسلمات عند حديثهن عن نزع الحجاب) .
أما في (زيزينيا) كما في غيره من الأعمال التي تعرض المواصفات الاجتماعية للمجتمع المصري المعاصر فإن شخصية نمطية تتكرر بانتظام تلك هي شخصية الصوفي الدرويش؛ حيث هناك يتحد الدين مع الجهل والتخلف، والاستغلال المحمي بالأساطير والخرافة؛ فحينما يقدم المؤلف (أسامة أنور عكاشة) يقدم شخصية الولي؛ فإنه بلا شك يقدمها بحسب المفهوم الشعبي السائد، لا بحسب معناها الأصيل، ولا يبذل مزيداً من الجهد لتفسير هذه المفاهيم بحثاً عن «واقعية العمل الفني» .
ولا يستطيع أحد أن ينكر وجود هذه النماذج وانتشارها في معظم البلاد العربية والإسلامية، إلا أن الاقتصار على تقديمها كنموذج وحيد لرجل الدين المسلم يحتاج لإعادة نظر، لكن يبدو أن هذه الصور المشوهة للعقيدة الإسلامية هي المثال الوحيد المسموح به في دراما التلفزيون، وهذا ما تعبّر عنه ـ على الأقل ـ الدراما المصرية المعاصرة.
وحتى في الجزء الأخير من مسلسله الأشهر (ليالي الحلمية) حينما اضطر صاحب (الليالي) لمعالجة الأنموذج الجديد من الإسلاميين ـ على الأقل ليبدو أكثر واقعية ـ فإنه لم ينتج إلا مشاهد ضعيفة وسطحية لا تتناسب مع روح العمل الممتد، والذي استغرق العمل فيه سنوات طوالاً.
أحد هذه المشاهد مشهد لحفل غنائي شعبي يشترك فيه الجميع بمرح وسعادة، لكن لسوء الحظ فإن جماعة متطرفة تتدخل لتحاول إفساد الحفل باعتباره منكراً، إلا أن الحضور يمنعونها من ذلك، وينبري أحد المتحدثين مسوغاً ذلك أنه لا حرج في الفرح، وأن «الفرفشة» هي عادة هذه الأحياء التي ترفض صوت التطرف، وينتهي المشهد مرة أخرى بإظهار المعارضين بشكل الهمج المتشددين، بينما ينتصر صوت الاعتذار المنادي بالغناء والرقص والمرح.
وهنا مشهد آخر يحاول سيناريو المسلسل إقناعنا بأن المشكلات الاجتماعية كانت وحدها السبب في تحوّل أحد نجوم المسلسل عن طريق الاعتدال إلى التطرف، متجاهلاً بشكل يدعونا للتشكك تلك الجذور الفكرية لهذه الجماعات.
لقد تحدث (عكاشة) كثيراً عن الضغوطات التي تصاحب الأعمال الدرامية، والتي يتعرض لها الكاتب (منها لقاؤه مع تلفزيون السودان) ، حيث قال: «إن الفرد لا يستطيع أن يقول كل ما يؤمن به» وأنا بدوري أتفهم ذلك، لكنني في الوقت نفسه أربأ بهذا الكاتب الكبير أن يكون (أداة) ، أو أن يكتب كما يراد له؛ فالسخرية من رجال الدين والورع ليست خطرة فقط من الناحية العقدية، ولكنها أيضاً تشوه ـ ولحد كبير ـ المعالجة الدرامية التي يجتهد المؤلف في نظمها، ولا أعتقد أن الكاتب بحاجة للتذكير بالحكمة القديمة: إذا لم تستطع قول الحق فلا تقل الباطل!
وكمثال أخير لإقحام الفكرة الإسلامية المشوهة، والأمثلة كثيرة للأسف: نأخذ مسلسل (أهل الدنيا) الذي يحكي قصة الرجل المتسلط (شيخون) الذي أمضى حياته في جمع المال، ولغرض وحيد هو أن يصبح تاجراً عظيماً، فقضى حياته بلا حب ولا عواطف، وقد سيطرت عليه النزعة المادية التي جعلته يحطم أمامه كل القيود، إلا أن ذلك الرجل يندم في النهاية حينما يضيع المال ويخذله الجميع ـ حتى أبناؤه ـ فيُظهر احتقاراً لنفسه وللمال، ويبدأ في الحلقة الأخيرة في اعتزال الحياة ليعيش زاهداً بل متصوفاً، وسؤالي الآن لمخرج المسلسل الذي أنهاه بآية كريمة من تأصيل الدراما كما يبدو: ألم يكن من الأفضل أن تتوج هذه التوبة بتعرُّف الرجل على طريق الإسلام الصحيح بدلاً من انخراطه في سلك هذه الجماعة المبتدعة التي لم تطلب منه لكي يصير ولياً بعد بضع سنوات إلا أن يتبعهم في الرقص والغناء ودق الطبول؟ إن هذا جعل النهاية تبدو ـ بالنسبة لي على الأقل ـ غير إيجابية، وإن أنهاها بنص قرآني.
- البطولة الزائفة:
الواقعية: هو المشجب المفضّل لدى كُتّاب السيناريو لتسويغ المآخذ، مشجب مهترئ، أصبح بالياً وسقيماً؛ بحيث لم يعد يحتمل المزيد من أسمال الفنانين وقرين الواقعية: هو البطولة الزائفة التي تمنح لمن لا يستحق كما منحت للشيوعيين في (ليالي الحلمية) ، متجاهلة عن عمد خذلانهم التاريخي لقضايا أمتهم، وحديثهم القديم عن دعوتهم المزعومة للتكامل مع (الدولة العبرية) بالتحالف مع الطبقات الاشتراكية في المجتمع، تلك التي لم يكن آخرها (قاسم أمين) الرجل الذي أفنى عمره في سبيل إخراج المرأة من بيتها، وحثها على نزع الحجاب، وتشجيعها على الاختلاط بالرجال.
هذه الواقعية وغير الواقعية عميت أن ترى دور الحركات الإسلامية والجهادية في التحرر من الاستعمار، أما (الحركات الإسلامية) فلم تلق في أي عمل درامي تقريراً أو اعترافاً بالفعل لدورها الوطني على الأقل أسوة بغيرها من الحركات السياسية، وما زال الفنانون لا يستحيون أبداً، ولا يخجلون وهم يُسندون أدوار البطولة لشخصية شيوعية تتحدث في القرن الحادي والعشرين عن الماركسية، وتضع في مكان مقدّر صورة بحجم كبير لـ (لينين) (حسن.. مسلسل الأصدقاء ٢٠٠٢م) .
البطولة الزائفة هي دوماً خلفنا، وهو أمر لا يجعلنا نشعر بالدهشة، خاصة إذا استحضرنا إجابات لأسئلة مِن نوع: مَن هو الذي يكتب ويُعِدُّ ويموّل هذه الأعمال؟ ولمصلحة من هذه الأفكار المغلوطة؟ وما الغرض من تمرير هذه الأعمال بهذا الكم؟ هل هو فقط غرض تجاري؟ أم..؟ ولنترك الإجابة عن هذه الأسئلة لفطنة القارئ الكريم!
ولنعد لذلك المسلسل الناجح (زيزينيا) ، لمن أسندت البطولة؟
لشخصية منحرفة مولعة بالنساء، ومصابة بعقدة الانتماء لشخصية أقل ما توصف به هو كونها شخصية مَرِيضة، نعم هذا هو البطل الواقعي الجديد؛ فليس في المجتمع نبلاء ولا فضلاء ولا ملتزمون بالدين، بحسب المسلسل فليس فيه سوى هذا المثال الشاذ، والغريب أن هذه الشخصية تتكرر بالاستعانة بالممثل الجماهيري (يحيى الفخراني) نفسه في مسلسل لاقى هو الآخر نجاحاً ورواجاً، وهو (أوبرا عايدة) ؛ حيث نجح المؤلف والمخرج، وطاقم العمل في إقناعنا بكون المحامي الأفاك ـ والمشغول هو الآخر بغرائز نفسه ـ قد يصبح أيضاً بطلاً محبوباً.
وحتى حينما يحاول هؤلاء الفنانون تقديم عمل يخدمون به قضايا أمتهم فإنهم لا ينتجون إلا أعمالاً هشة ومسطحة، لا تثير سوى الضحك والاستهزاء والاستخفاف بتلك القضايا؛ لماذا؟ لأنهم ببساطة لا يملكون التصور الصحيح لقضايا الإنسان والوجود، ولا يفهمون جدوى كوننا على هذه الأرض، وفاقد الشيء أبداً لن يعطيه؛ ولأنهم في الوقت ذاته ملوَّثون ومضللون ـ ما زالوا ـ بالشعارات القومية، والعلمانية التي لا تجعل أفقهم يمتد لأكثر من حدود المحيط والخليج.
ولأنهم يعملون في ظل حكومات تجاهر بسعيها لقمع الأفكار التي تناقش هذه القضايا من منظور شرعي وإسلامي؛ لكل ذلك فالمنتوج لا يصبح سوى مثل ذلك العمل الذي قيل عنه إنه يتحدى (إسرائيل) ، ويناقش بروتوكولات حكماء صهيون، ويتحدث عن حقبة مهمة في التاريخ العربي، وأنه محارب من أمريكا وتلاحقه الضغوطات لتمنع عرضه، فلما عرض وجدناه عملاً بهلوانياً مملاً، لا يشير في النفس سوى الاستياء والضجر، ففيه قليل جداً من التاريخ، وكثير من الدجل الدرامي الذي جعل أولئك الذين كانوا ينتظرون عرضه يتخلون عنه منذ بدايات حلقاته. هذا هو مسلسل (فارس بلا جواد) الذي تسابقت القنوات العربية على عرضه بعدما تأكدت من خلوه من أفكار الدمار الشامل، أما مؤلفه ومعدّه ومخرجه للتلفزيون (محمد صبحي) فقال ـ في حوار له أيضاً مع التلفزيون السوداني ـ إنه لم يكن يريد التحدث عن «قضيتنا» من منطلق ديني، ولم يكن يريد الإساءة لأحد؛ فهل وصل بنا الهوان إلى هذا الحد؟!
- وختاماً:
فقد كانت هذه مجرد ملاحظات سريعة. أما معالجة هذا الموضوع من كل نواحيه فأعتقد أنها تحتاج لعدد من الدراسات والبحوث المتخصصة، وما أريد التنويه عنه هو أن هدف هذه المقالة لم يكن تجاوز الحكم الشرعي في قضايا التمثيل والدراما، وإنما كان مناقشة واقع قائم، ورد حجة أولئك الفنانين الذين يصرون دوماً على دور الفن، وضرورته، وخدمته لقضايا المجتمع.
لقد قطعت المؤسسات العلمانية دوراً كبيراً في ترويض المجتمعات الإسلامية بفضل ما تملكه من أدوات؛ لذا فإنه لا يجب النظر إلى هذه القضية بوصفها حدثاً منفرداً؛ فتشويه الرمز الديني لا ينفصل عن التشويه الحضاري العام الذي تعرضه الأعمال العربية بتقديمها المجتمع في الصورة التي تريد له أن يكون بها، لا بشكله الواقعي والمنطقي، وهذا بدوره لا ينفصل عن قضية التغريب والاستلاب، الفكرين اللذين انتشرا كالسرطان في الفنون العربية، تماماً كما انتشر من قَبْل في الأدب والسياسة والاقتصاد.
إن المسلسلات العربية ـ بشكلها الراهن ـ ما عادت تثير فقط غضب الجماعات الإسلامية المتشددة، بل أيضاً أثارت غضب الشخصيات الوطنية التي تبحث عن الأصالة؛ فها هو (فاروق خورشيد) أحد كبار الإعلاميين المصريين، والناشطين من ذوي النزعة القومية الناصرية، قال معلقاً على هذه المسلسلات: (وقارن معي بين هذا الكَمّ الفني من مسلسلات الإعلام! ماذا أضافت؟ لا شيء سوى التدمير، وحينما كان الكِتاب في الستينيات هو الأساس كان الاهتمام به أساسياً، ولما تغير الوضع وأصبح الراديو والتلفزيون يأخذان كل الوقت أصبح لكُتَّاب المسلسلات التافهة حظوة كبيرة؛ فهم يقومون بهدف دعائي يخدم كثيراً من أصحاب السلطة بأي شكل، لكن قيمة الكتاب تبقى ما بقي قراء) (١) ، وإنما كانت الأمثلة من الأعمال المصرية بوصفها الدراما الأكثر انتشاراً في العالم العربي؛ وهي لذلك معنية أكثر من غيرها بتقديم الصورة المقنعة للمجتمع العربي بسلبياته وإيجابياته. لكن المحزن هو أنها معنية ـ في الوقت ذاته ـ بالنضال ضد ما يسمى بـ «الإسلام السياسي» ، وهو ما ساهم لحدٍ كبير في توجيه أعمالها في مسار موحد واحد بعيد عن الحياد.