للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المسلمون والعالم

حمَّى سنة ٢٠٠٠.. عود على بدء

الألفية الثالثة وتفاعلاتها الخطرة

عبد العزيز كامل

تابع القراء على صفحات (البيان) الغراء، السلسلة التي نشرتها المجلة على

مدى ثمانية أشهر بعنوان (حُمَّى سنة ٢٠٠٠) وكانت السلسلة تهدف إلى الكشف

عن تفاعلات متوقعة مع بدء الألفية الميلادية الجديدة، تقف وراءها عقائد وأساطير

وأحلام وأوهام تنطلق من قناعات دينية يهودية ونصرانية، تدعو إلى الاستعداد

لأحداث اقتراب الزمان من نهايته، مع ابتداء الألف الجديد وفي سنواته الأولى.

وقد أسهبت الحلقات في عرض مظاهر هذا الانشغال الديني المتأثر بالعقيدة

الألفية التي جاءت الإشارة إليها أولاً في العهد القديم (التوراة) ثم أشار إليها العهد

الجديد (الإنجيل) ، وهي العقيدة التي يؤمن أهل الكتاب بمقتضاها أن من واجبهم

أن يهيئوا للتفرد بالسيطرة على العالم؛ كمقدمة لا بد منها للاستعداد لمقدَم المسيح

المخلِّص الذي سيأتي ليحكم هذا العالم في الألف الأخيرة من عمر الدنيا، فيكون هذا

هو العصر الذهبي للبشرية.

لقد ترتب على التأثر بتلك العقيدة أحداث ومخططات ظلت تتابع منذ أواخر

القرن الثامن عشر للميلاد، وطوال القرن التاسع عشر ثم طوال القرن العشرين؛

حيث كان النصارى، وبخاصة البروتستانت، يدفعون باليهود نحو التحرك للسيطرة

على الأرض المقدسة التي ستشهد في اعتقادهم أكبر أحداث فصول التاريخ الأخيرة.

حاولت في هذه الحلقات رصد الخلفيات التاريخية الماضية والتداعيات الحاضرة

والتوقعات المستقبلة لهذه القناعات الدينية عند أهل الكتاب، وخاصة تلك المرتبطة

بحلول العام ٢٠٠٠ للميلاد الذي جعلوه موعداً فيما يبدو لتدشين خطوات تأسيسية في

المخططات الكبيرة المستقبلية في منطقتنا العربية الإسلامية.

أما وقد آذن العام ٢٠٠٠م بالأفول، فمن حق القارئ علينا أن نطلعه على

خلاصة التفاعلات الحُمِّية الألفية التي وقعت منذ بداية العام ٢٠٠٠م وحتى كتابة

هذه السطور [١] ، وهي تفاعلات تبرهن مع غيرها، على أن العقائد الدينية الغيبية

لدى أهل الأديان لا تزال تمثل عامل دفع قوي يحرك الأحداث في عصرنا هذا،

عصر المادة وتقنياتها والفتنة بها.

نحن لا نريد هنا بداهة أن نثبِّت دعاوى الذين كفروا من أهل الكتاب في أن

الزمان يسير لصالحهم وفق رؤى كتبهم «المقدسة» ، ولكن نريد لفت الانتباه، أو

تكرار لفت الانتباه إلى أن أساطيرهم المستمدة من كتبهم بعد التحريف تتحرك إلى

عالم الواقع ودنيا الحقيقة، لا تبعاً لما يقولون إنه (نبوءات) ولكن طبقاً لما يرتبون

من خطوات ومخططات تقوم على تنفيذها قوى عاتية، تشق طريقها في ساحات

خاوية وميادين فارغة من كل أثر مؤثر في التصدي أو التحدي.

إن هذه القوى التي تتحرك بتلك البرامج الدينية المستقبلية في أرضنا

الإسلامية لا تستنكف عن الإعلان عن ولائها الديني الكفري الصريح، وعن سعيها

العنيد العنيف لفرضه بعد عرضه على جماهير الأمم المشغولة بصغائر الأمور.

لقد بدا أمام كل بصير أن هناك حزمة من الأحداث والتفاعلات المتجانسة في

طبيعتها يحاول الكتابيون أن يفتتحوا بها هذا القرن الميلادي ليثبتوا للعالم أن هذا

قرن (نهاية التاريخ) ، وكنت قد أشرت إلى أبرز موضوعاتها السياسية الدينية في

الحلقات الآنفة الذكر. والآن أعرض لأهم المستجدات المتعلقة بمشاريع تأجيج

الصراع الديني في المنطقة.

أولاً: الحرب السابعة: أوشكت على البدء.. أم بدأت بالفعل؟ !

انطلاقاً من مسلَّمة أن اليهود هواة حرب لا دعاة سلام كما دلت نصوص

الوحي، وتطبيقاً لهذه المسلَّمة على تاريخنا المعاصر، فقد كان متعيناً على أي

مراقب مدرك لهذه الحقيقة أن يفهم أن مسرحية السلام لن تستمر إلى آخرها، وأن

اليهود سوف يسدلون الستار عليها في الوقت الذي يريدون، ومن الفصل الذي

يحددون، وفي ضوء لجوء اليهود إلى افتعال حرب في كل عقد لتقليم أظافر العرب

وكسر شوكتهم وهو ما أسماه إسحاق شامير: (سياسة قلع الأسنان) [٢] فقد كان

المرجح أن يُقبل اليهود على افتعال حرب جديدة هي (الحرب السابعة) على

التوالي، بترتيب العقود بدءاً من الأربعينيات الميلادية (التي أعلنت فيها دولة

اليهود) ، وإلى هذا العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. فهذا هو العقد السابع،

فهل تقوم فيه الحرب السابعة؟

لقد كانت هناك مرجحات لإشعال تلك الحرب في بدايات الألفية الثالثة: وعلى

رأسها اغتنام اليهود لفرصة هذه الفترة المفصلية في التاريخ، لتأجيج مشاعر

النصارى الدينية في العالم لصالحهم، باعتبار أن رأس الألفية، مناسبة دينية

نصرانية تربط بعمق بين مستقبل اليهودية ومستقبل النصرانية، على أساس أن

اليهود أداة قدرية لتحقيق ما أسموه: (خطة الإله لعودة المسيح) ، فإذا ما كانت تلك

الحرب قائمة على خلفية أحداث اعتقادية، فإن ذلك قمين بأن يلهب العواطف الدينية

لدى شعوب العالم النصراني، ويوحد مشاعرها خلف دعاوى اليهود الزاعمة بأنهم

محور أحداث ما يستقبل من الزمان.

والأمر الثاني من المرجحات: هو استغلال اليهود لتلك الأجواء بعد توفيرها

لضمان أكبر قدر من الدعم الغربي للوقوف أمام غضبة العالم الإسلامي، إذا ما

أقبلوا على تنفيذ المشروع التآمري الكبير: (هدم الأقصى وبناء الهيكل) ، أو

محاولة تمرير خطة التنفيذ وسط زحمة الأحداث، لكي لا تبدو عملاً مستقلاً مفرداً

ومقصوداً.

والأمر الثالث من المرجحات لإقبال اليهود على إيقاد تلك الحرب: قطع شوط

جديد على طريق المشروع القديم (إسرائيل الكبرى) ، ذلك المشروع الذي ما كان

لليهود أن يصروا عليه لولا استخفاف العرب به وادعاء بعضهم استحالة تحقيقه،

بدعوى عدم قدرة ذلك الشعب الإسرائيلي الضئيل، على السيطرة على تلك البقعة

المترامية من النيل إلى الفرات، ولسنا هنا بصدد تفنيد أسس هذا الاستخفاف العربي

(العقلاني) ولكن فقط نذكر بأن اليهود سواء في (إسرائيل) أو في أمريكا لا

يقصدون السيطرة العمرانية الجغرافية البشرية، ولكن: الهيمنة السياسية

والاقتصادية والعسكرية، أو بتعبير آخر: (إدارة المنطقة) وهو ما يتطور بانتظام

على أرض الواقع منذ أن بدأ الصراع.

- ومن المرجحات رابعاً: ما أشار إليه بعض خبراء الاستراتيجية، من

ترجيح احتمال نشوب حرب في المنطقة بسبب نقص موارد المياه [٣] ؛ فاليهود

يضيفون بهذا سبباً آخر من الأسباب التي تجعلهم (مضطرين) إلى الكشف عن

أنيابهم المستترة خلف أقنعة السلام.

وفي ظل استمرار موجة الجفاف التي تعم أكثر مناطق الشرق الأوسط، والتي

استمرت عامي ١٩٩٨، ١٩٩٩م [٤] ، وتبدو مستمرة هذه العام أيضاً كما توقع

الخبراء والله أعلم فإن دولة اليهود التي تحصل على ٩٠% من المياه من موارد

جاراتها العربية، قد يستبد بها النزق الممزوج بالجبروت لمحاولة الاستحواذ على

نسب إضافية من الـ (١٠%) ، المتبقية لدول الجوار المسالم. ونحن نعلم أن من

أبرز أسباب الاختلاف في عملية السلام على المسار السوري الإسرائيلي مسألة

السيادة على المنطقة المحيطة ببحيرة طبرية؛ حيث يطمع اليهود أن يضمنوا

السيطرة على هذا المورد المائي الهام.

- أما المرجح الخامس: فهو الإصرار اليهودي النصراني المشترك على

استراتيجية الإخضاع التي تمارس بإصرار منذ زمان ضد أمة الإسلام بعامة

والعرب بخاصة ودول «الطوق» أو المواجهة المحيطة بـ (إسرائيل) بشكل

أخص.. وهي الاستراتيجية التي أطلق عليها شامير: (استراتيجية قلع الأسنان)

كما سبقت الإشارة إليها.

- وهناك مرجح سادس، وهو: أن الساحة العربية كما لمح أو صرَّح أكثر

قادة العرب في مؤتمر القمة الأخيرة، غير مستعدة للحرب الآن! ! كأن اليهود

سيقبلون هذا الاعتذار العربي لتأجيل وقت الحرب إن كانوا قد قرروها بالفعل!

وهل يطلب عاقل من اليهود إذا ما أرادوا أن يشعلوا ناراً للحرب أن ينتظروا

استعداد العرب لها؟ ! إنها ستكون بنظر اليهود فرصة ذهبية أخرى تقدمها إليهم

العلمانية العربية الفاشلة على طبق من فضة! حيث أعطوا اليهود هدنة مجانية

استمرت أكثر من عشرين سنة لكي يتمكنوا من تغيير خارطة الواقع بحسب تفاصيل

المتوقع، ولكي يتأكدوا من أن البقعة المباركة قد باعها أصحابها بثمن بخس سفارات

ومكاتب معدودة، ترفرف عليها أعلام نجمة داود في فضاء يضج بالصمت ...

صمت سلام القبور!

هذه هي أبرز المرجحات.

أما الذرائع، فلا تسل اليهود عن ذريعة.. إن جعبتهم ملأى بالذرائع

المزروعة كالألغام في كل مكان، ولكني أرى فيما يُسمى (حزب الله) ، وما يُدعى

من بطولاته المستوردة أو المصنعة محلياً ذريعة جاهزة أو يجري تجهيزها لإجراء

عملية إخضاع جديدة تقر بها أعين الشانئين المبغضين لهذه الأمة المسلمة من يهود

القلب أو يهود القالب، ولا نحتاج هنا إلى تعديد احتمالات التصعيد أو

(سيناريوهات) التنفيذ التي يمكن أن تترتب على اختيار هذه الذريعة أو تلك،

ولكن دعونا ننتظر لنرى ما ستسفر عنه التداعيات المحتملة أو المرتب لها من

وراء تفجير (انتفاضة الأقصى) في هذا التوقيت المريب..! هل يضربون

سوريا؟ ! احتمال وارد. هل يثنُّون بلبنان أو بالفلسطينيين في لبنان؟ أمر

محتمل.. هل يصعِّدون الموقف ويوسِّعون الدائرة؟ أمر غير مستبعد! هل

يضربون بتركيز أشد في الداخل الفلسطيني لإيجاد واقع جديد لمرحلة جديدة؟ أم

هل يُضرِبون عن كل هذا ويعدلون إلى أسلوب آخر؟ ! كل الاحتمالات يمكن

توقعها إلا توقع أن يقلع اليهود عن ديدن الإفساد، وخلق التخريب الذي أشار

إليه القرآن: [كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ

فَسَاداً وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ المُفْسِدِينَ] (المائدة: ٦٤) .

إن هناك شواهد كثيرة تدل على أن اليهود يُعِدُّون في هذه الآونة لإشعال حرب

جديدة؛ فمن تجميد لعملية السلام، إلى تهديدل سوريا ولبنان، إلى تجديد لأسلحة

المستوطنين، إلى اتجاه للتكتل بين الحزب الحاكم والأحزاب اليمينية الدينية

المتطرفة، إلى استدراج أو توظيف لـ (بطولات) (حزب الله) ، إلى مزيد من

إراقة دماء الفلسطينيين العزل، إلى اتجاه متزايد لعزل القدس ومنع المصلين من

الوصول للمسجد الأقصى.

كل هذه أعواد ثقاب من شأن الواحد منها فقط أن يضرم ناراً تشتعل بها

المنطقة كلها، ولكن هل يطفئها الله هذه المرة أيضاً؟ إنه على ذلك قدير، ولكن

مقاديره سبحانه تجري حسب حكمته لا حسب شهواتنا [وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ

وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ] (محمد: ٤) .

ولكن هل هناك بوادر عملية، أو خطوات تنفيذية بدأها اليهود بالفعل على

طريق الحرب؟ ! هم يقولون كما صرح (شاؤول موفاز) رئيس هيئة الأركان

الإسرائيلي في (٢٨ رجب ١٤٢١هـ ٢٥ أكتوبر ٢٠٠٠م) : «بأن الجيش

الإسرائيلي يعيش حرباً بدأت بالفعل، وقد تستمر لمدة عام» ! وقد كرر هذا الكلام

في (٣ شعبان ١٤٢١هـ ٣١ أكتوبر ٢٠٠٠م) .

هذا من الجانب الإسرائيلي، أما من الجانب الفلسطيني فلا نظن أن الحالة

التي يعيشها الشعب هناك منذ اندلعت أحداث الأقصى يمكن أن توصف بوصف أقل

من وصف الحرب، بل إن الحروب المعتادة تجري أحداثها في الغالب على جبهات

القتال بين جيوش معدة لوظيفة القتال، أما الحرب التي يصطلي الفلسطينيون

بويلاتها اليوم فهي بدع في الحروب، إنها حرب الطفولة المعزولة، في زمن غياب

الرجولة المسؤولة. وإلى أن تعود هذه الرجولة إلى مسؤوليتها، فهل هذه الحرب

الدائرة الآن هي بواكير حرب أكبر، أم مقدمات حرب أكبر، أم جس نبض، أم

(بروفة) لحرب أكبر؟ هذا ما ستسفر عنه أحداث الأيام والأشهر القليلة المقبلة،

ولكنها على أية حال البداية العملية الحقيقية للحروب الدينية المستقبلية التي ينبغي

أن نعد لها أجيالنا.

ثانياً: القدس.. أهذا هو الحل النهائي؟

كان العام ٢٠٠٠م، هو عام الحل النهائي حسبما قررت الدولة اليهودية وهو

عام الحسم النهائي كما وعدت السلطة الفلسطينية حيث توعد عرفات بإعلان الدولة

الفلسطينية فيها، على أن تكون عاصمتها القدس. لقد كان على رأس المسائل

المؤجلة لعام ٢٠٠٠م ضمن مفاوضات (الحل النهائي) قضية القدس التي تأتي في

مقدمة الموضوعات التي جرت دحرجتها منذ مؤتمر مدريد عام ١٩٩١م، حتى العام

٢٠٠٠م، بحجة إعطائها فرصة كافية للدراسة والتشاور. وكان معها من القضايا:

مسائل اللاجئون، الحدود، والمستوطنات والمياه، والدولة، وقد حشرت هذه

القضايا كلها ليتم الانتهاء منها في المباحثات الغامضة التي عرفت بـ (كامب ديفيد

الثانية) ، وقد تفاعلت الأحداث بعد هذا المؤتمر الذي أعلن عن تحطمه على صخرة

بيت المقدس؛ وكأنها رسالة أُريد لها أن تصدر في شكل توصية ضمنية عن

المؤتمر، مضمونها: أنه لا حل نهائياً لقضية القدس إلا بما يدبر اليهود ويخطط

النصارى، ولهذا فقد تتابعت التفاعلات المتنوعة عن مفاوضات الحل النهائي في

كامب ديفيد وكان من أبرزها كما لا يزال الناس يذكرون: توعد بيل كلينتون أن

يقدم موعد نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وهو الإجراء الذي من شأنه أن يجر

أكثر دول العالم إلى التتابع في هذا النقل، حيث يضع هذا العرب والمسلمين أمام

أمر دولي واقع، وكان هذا التوعد الأمريكي رداً على تهديد ياسر عرفات بإعلان

الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس، وهو الإعلان الذي ظهر أن الأمريكيين لا

يقلون عن الإسرائيليين معارضة له؛ فهم وإن أظهروا في بعض الأحيان موافقتهم

على مبدأ إعلان الدولة الفلسطينية بشرط تجريدها من مقومات الدولة، إلا أنهم لم

يقبلوا في لحظة من اللحظات أن تكون القدس عاصمة لها، وهذا ما جعل (كلينتون)

يخرج عن تحفظاته المصطنعة، وحياده الكاذب، ويعلن أن السلطة الفلسطينية

تعرِّض نفسها لسحب الاعتراف بها، ومنع المساعدات عنها إن هي أعلنت عن قيام

هذه الدولة بتلك الصيغة التي يرددها عرفات بشكل دائم، أي أن تكون القدس

عاصمتها.

ومما شهده العام ٢٠٠٠م أيضاً فيما يتعلق بأمر القدس أن عرفات اضطر بعد

ضغوط من الدول (الصديقة والشقيقة) إلى تأجيل هذا الإعلان الذي كان مقرراً في

١٣ سبتمبر ٢٠٠٠م إلى أجل غير مسمى. وهو تأجيل يدل على أن الأطراف

المعنية تدرك تماماً أن الحل النهائي لمصير القدس له صيغة واحدة مقبولة لدى

(الشرعية الدولية) ومن يقومون عليها في العالم (الحر) ، وهي صيغة أن تكون

القدس عاصمة أبدية موحدة لدولة اليهود.

ومن التداعيات المتعلقة بمصير القدس ما قرره يهوذا باراك من العزم على

تنفيذ مشروع الفصل بين العرب والفلسطينيين، وهو الفصل الذي من شأنه أن

يجعل من المناطق الفلسطينية وعلى رأسها القدس الشرقية مناطق حصار يفرض

ويرفع عنها حسبما تقضيه الظروف الإسرائيلية.

وقد شهدت الفترة التي أعقبت (كامب ديفيد) مناورات للتعمية على ما يراد

للقدس أخذت شكل مشروعات معروضة للنقاش بشأنها من جديد، ومنها مشروع

التدويل: أي جعلها مدينة دولية مفتوحة، أو عاصمة للعالم كما اقترحت بعض

القيادات الفلسطينية أو يتم تقاسم السيادة عليها بشرط ألا يأخذ الفلسطينيون منها إلا

اسمها، بعد أن يخلع ذلك الاسم على مدينة (أبو ديس) ، كما اقترح أن تُسند

السيادة (المؤقتة) على القدس إلى الأمم المتحدة.

ولكن وفي حمأة هذا التنافس في اختراع صيغ تخرج القدس من إطار السيادة

الإسلامية التي رفضت رفضاً باتاً إذا بباراك وشارون يقلبان الطاولة، ويعلنان

بلعلعلة الرصاص في سماء الأقصى، وبلغة السحل في شوارع القدس؛ أن هناك

حلاً واحداً لمصير القدس وهو تفريغها من كل من يقول لا إله إلا الله، وقد أبان

اليهود خلال أحداث انتفاضة القدس أن أهل القدس مستثنون من الانتفاض، وكأن

الإسرائيليين يقولون: فلينتفض الفلسطينيون في أرجاء فلسطين، أما القدس التي

يتجمعون في أيام الجمع في أقصاها للذود عنه وعنها، فلا بد من التحكم فيمن

يدخلها ومن لا يدخلها، إن هذا يعني أنهم يقدرون على جعل القدس مدينة معزولة

عن الفلسطينيين والعرب، بل عن المسلمين والعالم في الوقت الذي يريدون. وقد

أثبتت الأحداث أنه لا اختلاف بين كل الفرقاء في داخل الكيان اليهودي حول مصير

القدس، وهذا ما أعلنه الرئيس الإسرائيلي الجديد (موشيه كتساف) بعد حلف

اليمين الدستورية في (١/٨/٢٠٠٠م) حيث قال: «إن القدس الموحدة تحت

السيادة الإسرائيلية، لن تكون محل اختلاف بين الإسرائيليين، ولن ينقسموا بشأنها

إلى معسكرين» ، وقد صادق الكنيست الإسرائيلي في اليوم نفسه على قانون

أساسي (يعادل قوة الدستور) ينص على أن القدس بشطريها هي عاصمة إسرائيل

الموحدة الأبدية، وهذا يعني أن أي حزب أو حكومة أو شخص أو جهة تدعو إلى

غير هذا، تكون خارجة على الدستور.

ثالثاً: المسجد الأقصى: هزة يهودية ... وصحوة إسلامية:

بعد الهزة التي أحدثها اقتحام (وليس زيارة) شارون للمسجد الأقصى مع

المئات من حراسة المدججين بالسلاح من طلائع الدجال، بعد هذه الهزة انقدحت

شرارة الانتفاضة من بؤرة المركز في القضية المركزية؛ فقد أحدث الاقتحام ما كان

يتوقعه أو ينتظره شارون ومن ورائه باراك؛ حيث تزلزلت الأرض المقدسة،

وتداعت لزلزالها بقية بلدان المسلمين، وقد ظهر كما لم يظهر من قبل أن الانتفاضة

هذه المرة لها وللتداعيات حولها طابع خاص؛ فهي في ملامحها الأولية تأخذ صورة

انتفاضة إسلامية، لا وطنية ولا قومية، يمكن لها إذا أُحسن توجيهها أن تكون بداية

لتصحيح المسيرة التي اعتراها الاعوجاج في المراحل السابقة من الصراع.

وتسلسل الأحداث بعد بدء الانتفاضة في ٢٨ جمادى الثانية من عام ١٤٢١هـ

الموافق ٢٥ سبتمبر (أيلول) من عام ٢٠٠٠م، لا يزال مستمراً، ولكن المخطط

اليهودي النصراني الإجرامي الرامي إلى هدم المسجد الأقصى، يلقي بظلاله القاتمة

على تلك الأحداث التي ضبطت برامجها فيما يظهر على تواقيت الفعل المستفز،

ورد الفعل المنتظر. فماذا كان يُنتظر من المسلمين في فلسطين أن يفعلوا وهم

يرون نجساً من الأنجاس يدنس بأقدامه الساحات الطاهرة [٥] ؟ وماذا كان ينتظر

منهم وهم يشاهدون الدماء تسيل رداً على الاحتجاج؟ وماذا كان ينتظر وهم يرون

الدبابات تنضم إلى المصفحات، والرشاشات تساندها الطائرات؟ ! إنها ردود

الأفعال التلقائية المنتظرة لكي يبنى عليها ما بعدها.

ها هو العام ٢٠٠٠م تفتعل فيه الأحداث الجسام، ليؤكد بنو إسرائيل لبني

إسحاق أن عصر التحام الأمة الضالة مع الأمة الغضبية قد بدأ، وأن مسيرتهما

المشتركة لإنجاز ما تبقى من أشراط العلو الكبير تمضي بانتظام، وأن ذكرى ذلك

العام الميلادي التي لا يعترف اليهود بصاحبها، تمثل علامة فارقة في التاريخ،

ولهذا فلا ينبغي أن يكون عاماً ككل الأعوام في نظرهم.

رابعاً: الهيكل الثالث: حجر الأساس (الرسمي) يسبق كل الأحجار:

شهد هذا العام ما لم يسبق حدوثه على صعيد المسعى الخبيث لبناء الهيكل

الكفري الشركي المنسوب زوراً لسليمان عليه السلام [٦] أما هذا الحدث فهو صدور

إذن رسمي من الدولة العبرية لجماعة أمناء الهيكل اليهودية الأمريكية بإرساء حجر

الأساس إيذاناً بمرحلة البدء في التنفيذ (في ١٥/١٠/ ٢٠٠٠م) ، ومن الغريب هنا

أن زعيم الجماعة (غورشون سلمون) قال للصحفيين في تلك المناسبة: «إن

مشروع البناء سيحتاج إلى مدة سنة كاملة للانتهاء منه» ، ووجه الغرابة في ذلك أن

رئيس هيئة الأركان الإسرائيليي (شاؤول موفاز) صرح بعد ذلك بأيام قليلة أن

الحرب التي اعتبرها قد بدأت قد تستمر لمدة عام! فهل يبقى اليهود على أوار

الحرب مع الفلسطينيين وغيرهم حتى ينجزوا مشروعهم المشؤوم؟ !

أمر آخر لافت، يتعلق بالهيكل الثالث وما يُعَدُّ له؛ فالبقرة الحمراء التي أعلن

عن ظهورها عام ١٩٩٦م، يبدو أن اليهود قد استبدلوها بأخرى (موديل ٢٠٠٠)

فقد أُعلن في شهر أغسطس من عام ٢٠٠٠م عن ظهور بقرة أخرى مطابقة

للمواصفات (أمريكية هذه المرة) في ولاية تكساس، وقالت صحيفة يدعوت

أحرونوت في عددها الصادر في (١٦/٩/٢٠٠٠م) : «إن البقرة الجديدة ستنقل

إلى القدس قريباً» .

وهنا أذكِّر بأن موضوع البقرة المنتظرة ليس قصة فكاهية يتندر بها اليهود في

مجالسهم بل هي عقيدة وشريعة لازمة عندهم، تتعلق بتطهير شعب يوقن بأنه

متلبس بالنجاسات منذ ألفي عام، ولن يتطهر منها إلا برماد تلك البقرة، ولذلك

يطلقون على عملية إحراقها قبالة الهيكل لتطهير الشعب اليهودي بها: (الشريعة

الأبدية) كما نصت على ذلك توراتهم.

خامساً: البصمات الألفية على السياسة الدولية:

بدت هذه المظاهر في أشكال متعددة أراد أصحابها فيما يظهر ألا يمر العام

٢٠٠٠م، دون بصمات يتركها محفورة في ذاكرة التاريخ؛ بحيث تظل مرتبطة

بتلك الذكرى النصرانية في الأصل التي تحولت إلى تقويم دولي. شهدت سنة

٢٠٠٠م أكبر هجمة تبشيرية في عقر ديار المسلمين؛ إذ أتيحت لرأس النصرانية

الكاثوليكية (بولس السادس) أن يقيم على أراضي المسلمين قداسات مفتوحة وعلى

الهواء، وذلك في زيارته للمنطقة التي شملت فلسطين والأردن ومصر في شهر

مارس ٢٠٠٠م، وكان مقرراً أن يزور العراق وسوريا أيضاً، إلا أنه أجَّل زيارة

سوريا، وألغى زيارته للعراق تجنباً للسخط والاحتجاج الأمريكي. لقد كانت تلك

الزيارة (الألفية) ذات معانٍ وإيحاءات متعددة، تترك انطباعاً بأن نصارى

الكاثوليك الذين يتحدث باسمهم (البابا) قد بدؤوا يجدُّون في السير على الدرب الذي

سبقهم إليه نصارى البروتستانت، للاقتراب من اليهود، والتحول الكبير إلى ما

يخدم أهدافهم في منطقتنا الإسلامية، وكان على رأس هذه الخطوات في ذلك،

إشعار رأس الكنيسة الكاثوليكية اليهود، بأنه لا مانع لدى النصرانية الكاثوليكية من

اتخاذ القدس عاصمة لهم (مؤقتاً) ، وقد ظهر ذلك من خلال زيارة بابا الفاتيكان

للقدس، وإقراره الضمني بكونها عاصمة لدولة (إسرائيل) بعد حضوره للعديد من

المناسبات واللقاءات التي ألقى اليهود فيها على أسماعه عبارة (القدس هي العاصمة

الموحدة الأبدية لدولة إسرائيل) دون أن يصدر عنه ما يدل على تحفظ أو اعتراض.

وكان من اللافت أيضاً أن يشهد العام ٢٠٠٠م عودة إلى الحديث عن الطرح

النصراني للحل النهائي لقضية القدس، وهو أن تصبح القدس (عاصمة العالم) ،

وهو الطرح الذي أصبح أكثر الصيغ قبولاً على المستوى الدولي بعد أن تعارضت

الصيغ المعروضة من الجانب الفلسطيني العربي، والجانب الإسرائيلي الأمريكي.

أما على الجانب السياسي المدفوع دينياً، فقد شهدت الولايات المتحدة

الأمريكية ولأول مرة في تاريخها معركة انتخابية، كانت المزايدة على الموقف من

القدس ونقل السفارة الأمريكية إليها إحدى الورقات الكبرى للتنافس على كسب

أصوات اليهود، لا بل إن استرضاء اليهود قد بلغ حد أن يُعيِّن الحزب الديمقراطي

نائباً يهودياً أرثوذكسياً متديناً لمرشحه للرئاسة الأمريكية وهو السيناتور (جوزيف

ليبرمان) ، وهذا يعني أن نسبة من الشعب الأمريكي لا تقل عن نسبة من صوتوا

لآل جور تقبل أن يكون الرئيس الأمريكي يهودياً قلباً وقالباً. وهذا تحول في غاية

الخطورة، يدل على المدى الذي وصلت إليه قوى اليمين الديني النصراني

الصهيوني السائرة بإصرار في طريق تسلم زمام السلطة في القطب الوحيد في

الأرض؛ فهل تشهد الألفية الجديدة في مراحلها الأولى صراعاً تنافسياً بين النجوم

الخماسية والنجوم السداسية على العلم الأمريكي؟ أم ستصبح أمريكا القرن الحادي

والعشرين هي ولايات متحدة إسرائيلية؟ !

لقد ترادفت تلك التفاعلات، والألف الثالث للميلاد لم يبدأ بعد.. فالعام ٢٠٠٠ م

قد حل (خطأً) محل العام ٢٠٠١م الذي يمثل العام الأول في ذلك القرن، فهل

تستمر التخاريف العلمية والعملية لبداية الألفية لعام آخر.. الله أعلم!


(١) في ١٠/٨/١٤٢١هـ ٦/١١/٢٠٠٠م.
(٢) قال إسحاق شامير، رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق في كلمة له أمام حشد من اليهود الأمريكيين: «يتعين علينا في كل عشر سنوات مرة أن نُجِلسَ العرب على كرسي طبيب الأسنان، كي نقلع أسنانهم التي نبتت حتى لا يعضونا بها» ! .
(٣) انظر (قراءة في فكر علماء الاستراتيجية) ، د جمال عبد الهادي، ص ٢٠، طبعة ١٩٩٩م.
(٤) ظاهرة الجفاف في العامين الماضيين أوجدت وضعاً لم نسمع به من قبل في بعض الدول العربية، وهو الدعوة العامة إلى صلاة الاستسقاء، وقد حدث هذا في كل مصر والعراق وسوريا، وحتى الدولة المغتصِبة (إسرائيل) دعا حاخاماتها إلى إقامة صلوات يهودية خاصة من أجل طلب السُقيا من
السماء!.
(٥) الحاخامية اليهودية الكبرى ظلت تمنع اليهود من دخول المسجد الأقصى طوال السنوات الماضية، خوفاً من أن يطأ أحدهم موضع (قدس الأقداس) الذي لا يجوز ليهودي لم يتطهر برماد البقرة الحمراء أن يطأه برجليه ومع ذلك فإن هؤلاء الأنجاس لا يرون بأساً في تنجيس أرض المسجد الأقصى واستباحته رغم أنهم لم يطهروا بعد، ولن يطهروا أبداً! .
(٦) صحيح أن سليمان عليه السلام شيد المسجد الأقصى تشييداً عظيماً في عصره، ولكنه بناه على أساس التوحيد والإيمان، لا على أساس الشرك والكفر والبهتان الذي يريد اليهود والنصارى أن يشيدوه على أساسه.