[الموقف من التفجير في بلاد المسلمين]
أ. د. ناصر بن سليمان العمر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فقد طُلِبَ مِنِّي كتابة كلمات في بعض أحداث التفجيرات الأخيرة التي حدثت في دولة عربية أفريقية، فاعتذرت لعدم إلمامي بدوافعها ومَنْ خلفها ومسوغاتها وحقيقتها؛ فلما أُلح عليّ آثرت أن أكتب شيئاً حول منهج التفجير دون أن أُعَلِّق ذلك بحادثة معينة، أو فئة معينة؛ فأقول مستعيناً بالله: إن كثيراً من الأحداث التي لا يمليها شرع ولا عقل ينبغي أن نتساءل عن دوافعها الحقيقية يوم تشير أصابع الاتهام فيها إلى الإسلام أو إلى شخصيات إسلامية.
وينبغي أن نراعي في هذا التساؤل أموراً منها:
ـ هل الخبر جاءت به وسائل إعلامية موثوقة؟ لأن الله أمرنا بالتثبت، قال الله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: ٦] .
ـ فإن كانت موثوقة؛ فهل الحقيقة على ما ذكروا أم أنهم غُرر بهم وأُوهِموا أمراً مّا تريده جهات متحكمة دون أن يدركوا أبعاد ما فعلوه؟
ولست أدعو بهذا إلى إنكار الواقع أو الظاهر، لكن يجب النظر في الحوادث بعقل وعلم مع اعتبار القرائن، فبعض الجناة ربما بدرت عنهم أعمال لا تمتُّ للشرع بصلة، ومع ذلك يحاولون تسويغها باسم الشرع، مع أنه قد يصدر في أفعاله عن محض هوى، أو بغية انتقام مِنْ ظُلْمٍ وقع عليه أو على بعض ذويه، غير أنه يحاول فيما بعد أن يصبغه بصبغة شرعية، شأنَ كل مجرم وجانٍ جنى على من يراه مجرماً ثم دعاه داعي الهوى والنفس الأمارة إلى تسويغ عمله بخلع لباس شرعي على صنيعه.
وقد يحدث أن يكون تحركه ابتداء لنصرة ما يظنه ديناً، دون بصيرة أو علم.
ولا كبير فرق معتبر؛ فالجامع بين الاثنين هو جهل كل منهما بالدين. تجد أحدهم لم يجلس في حِلَقِ العلم، ولم يتربَّ على أيدي العلماء الربانيين، ولا عرف الفروق والتقاسيم، ولا درس مقاصد الشريعة، ولا ألمَّ بقواعدها المقررة، ثم يريد إقامة دولة الإسلام دون أن يستند إلى فتوى عالم رباني معتبر، بل ربما رمى أولئك العلماء بالتُّهم والنقائص حتى تصدق دعواه، ويعذر في هواه! فعمرك الله..؛ كيف تقصد إلى ذلك المقصد العظيم ولست أهلاً للنظر فيه فضلاً عن القيام به؟!
متى كان التفجير والتكفير سبيلاً للإصلاح؟
هب أن النظام في تلك الدولة لا يطبق الشرع؛ فما ذنب المجتمع والأمة؟
كيف تُهدر دماءٌ محترمة، وتٌزهق أنفس معصومة بحجج واهية؟
ما المصلحة التي سوف تجنيها فئة مستضعفة من مقارعة دولة متغلبة؟
هل سلك من هو أشجع منهم - صلى الله عليه وسلم - هذا المسلك مع من هم أظهر كفراً وأعظم معاندة من صناديد قريش بمكة حال الاستضعاف قبل الهجرة؟
وهل يظن منصف أن تفجير مبنى أو قتل سائح ـ وإن لم تكن له شبهة أمان ـ سوف يسقط دولة ويقيم نظاماً؟
ألا يعتبر هؤلاء بتجارب مريرة سبقتْ، عاد أصحابها يعترفون بخطأ مسلكهم بعد خراب البصرة وضياع البصيرة؟
إننا لا ندعو إلى إقرار الباطل، ولا إلى ترك منابذته والاستسلام له، ولكن يجب أن يكون ذلك بسبيل مشروع، لا بترويع الآمنين وقتل ضعفة معصومة دماؤهم وأموالهم.
لقد صبرت رسل الله على دعوة أقوامهم ما صبروا؛ فهذا نوح ـ عليه السلام ـ لبث في قومه ألف سنة إلاّ خمسين عاماً داعياً لم يزهق روحاً ولا قتل كافراً..؛ فكم صبرت أنت؟!
إنها دعوة للتعقل والنظر في عواقب الأمور والعمل بمنهج الإسلام الحق في الدعوة وسلوك منهجه في التغيير على بصيرة، وإلاّ فإن النية الصالحة ـ إن كانت حقاً صالحة ـ وحدها لا تكفي، حتى تكون على منهج النبوة وسبيل المؤمنين.
لقد مكث نبينا - صلى الله عليه وسلم - بضع عشرة سنة في مكة ومعه رجال لم يكن أحدهم ليتأخر في تقديم روحه نكاية بالكفار لو كان ذلك مشروعاً؛ فليس أبناء اليوم واللهِ أعظم شجاعة وأكثر غيرة على الدين منهم، بل آثر بعض الصحابة أن يفرَّ بدينه إلى أرض البعداء صيانةً لنفسه من الأذى.
ثم إنّ الناظر لدولة الإسلام بعد الهجرة إلى المدينة يجد فيها إبّان قوة الدولة فئتين من الذين يترصدون المؤمنين ويؤذونهم: طائفة تظهر الإسلام وتبطن الكفر، وزعيمهم عبد الله بن أُبَيّ بن سلول، وهؤلاء لم يُتعرض لهم، أخذهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بما يظهرونه من الإسلام، بل خلع قميصه ليكفِّن به زعيمَهم ومتولي كبرهم.
وأما الفئة الثانية فممثلة في بعض الكفار من اليهود الذين آذوا رسول الله وآذوا عموم المؤمنين سباً؛ نثراً وشعراً، وقائدهم كعب بن الأشرف، ولمّا كانت دولة الإسلام قائمة في المدينة أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كعباً بذنبه وجريمته وحده، فكان اغتياله الذي لم ينل غيره من أعوانه ونظرائه وموافقيه ومن هم على ملته، بل تُرُصِّد الرجل وحده ونيل منه دون إهدار لحرمة من سواه، ولم يتكرر هذا منذ بعث محمد - صلى الله عليه وسلم - حتى مات. الأمر الذي يدلك على أنها قضية عين لها أسبابها وظروفها وملابساتها الخاصة.
فكيف يسوغ إذاً أن يُترصد من يظهر الإسلام والأصل صدقه، والواجب أخذه بالظاهر حتى لو كان منافقاً؛ فليس شراً من ابن سلول؟ وكيف يسوغ قصده من قبل طائفة مستضعفة لم تتحيز في دولة ولم تقم لها شوكة؟
إخوة الإسلام: إن الواجب تجاه الولاة والحكام هو السمع والطاعة ما لم يخلعوا ربقة الإسلام، وإن جاروا وظلموا؛ فجلدوا الظهر وأخذوا المال، فإن رأى راءٍ ـ وكان من أهل النظر ـ أن الإسلام من بعضهم براء فلا يسوِّغ له ذلك منابذتهم حتى يجتمع معه في رأيه أهل الرأي المعتبرون كما قال - صلى الله عليه وسلم -: « ... إلاّ أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان» (١) . فلا يكفي أن يرى أحدٌ الكفرَ وحده، ولا يكفي أن تراه جماعة أهل الرأي وليس لهم فيه دليل بيِّن لا امتراء فيه، بل مجرد شُبَه وتأولات لا ترقى إلى اليقين القاطع والبرهان الساطع.
فإنْ توفر شرط الخروج فلا بد من اعتبار المصلحة والمفسدة المترتبة عليه، والتي لا تتصور أبداً في تفجير مبانٍ أو مرافق عامة، ولا في قتل أشخاص مستأمنين أو لهم شبهة أمان. وإذا كان الأمر كذلك فسبيل التفجير سبيلٌ ينبغي أن يعلن رفضه في المجتمعات الإسلامية.
بل إن سلوك مسلك التفجير في بلاد الإسلام لا يخلو من اقتراف كبائر موبقة، فقلَّ أن يسلم من تلك الحوادث نفر ممن يظهر الإسلام، أو لا سبيل إلى تيقُّن كفرهم، واقرأ سورة الفتح وتأمل قول الله ـ تعالى ـ: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح: ٢٥] ، فكيف تعارض النصوص العاصمة للدماء بشُبَه وأمور لم تفهم على وجهها، كقياس من أفسد القياس على مسألة التترُّس التي لم يتصور المستدِلُّ بها صورتَها المُجْمَع عليها؛ والتي تقضي باستئصال شأفة جيش المسلمين إن هم أحجموا عن رمي الترس؛ فيجعل بعض هؤلاء رميَ الترس جائزاً مطلقاً ويزعم أن الأمة أجمعت على هذا الباطل! ثم يقيس عليه ما هو فيه؛ فيعارض النصوص الصريحة بلا أصل مؤسس ولا فرع محقق. في الصحيحين أن أسامة بن زيد ـ رضي الله عنه ـ لمَّا صَبّحوا الحُرَقات من جُهينة أدرك رجلاً، فقال: لا إله إلا الله، فقتله ـ لظنِّه أنه قالها تعوذاً ـ فلما أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أقال: لا إله إلا الله؛ وقتلته؟!» ، قال: قلت: يا رسول الله، إنما قالها خوفاً من السلاح، قال: «أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟!» ، فما زال يكررها عليّ حتى تمنيتُ أني أسلمت يومئذ، فقال سعد: وأنا والله لا أقتل مسلماً حتى يقتله ذو البطين ـ يعني أسامة ـ قال رجل: ألم يقل الله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإنِ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة: ١٩٣] ؟ فقال سعد: قد قاتلنا حتى لا تكون فتنة، وأنت وأصحابك تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة.
وتأمل في قصة قتل موسى ـ عليه السلام ـ للقبطي الكافر الظالم في دولة ملحدة رئيسها فرعون، ومع ذلك يسأل موسى ربه أن يغفر له، بل قال ـ عليه السلام ـ: {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ} [القصص: ١٥] ، ولم يسمِّه جهاداً بل حكم على نفسه بالظلم، وسوف يعتذر بهذا الفعل عن الشفاعة الكبرى يوم القيامة، هذا مع أنه لم يُرِد قتله، فماذا يقول هؤلاء المترخصون الخائضون في دماء المسلمين والآمنين؟ فالله المستعان!
وإذا دخل الناس في الفتن وتلوثت الأيدي بالدماء شق بعدها الخروج منها؛ ففي صحيح البخاري، عن ابن عمر أنه قال: «إنَّ مِنْ ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفكَ الدم الحرام بغير حله» .
وفيه أيضاً عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصبْ دماً حراماً» .
قال ابن حجر: وقد ثبت عن ابن عمر أنه قال لمن قتل عامداً بغير حق: «تزود من الماء البارد! فإنك لا تدخل الجنة» .
وأخرج الترمذي من حديث عبد الله بن عمر: «زوال الدنيا كلها أهون على الله من قتل رجل مسلم» ، قال الترمذي: حديث حسن، وقد أخرجه النسائي بلفظ: «لقتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا» ، قال ابن العربي: «ثبت النهي عن قتل البهيمة بغير حق والوعيد في ذلك؛ فكيف بقتل الآدمي؟ فكيف بالمسلم؟ فكيف بالتقي الصالح؟» (١) .
ألا فليتِّقِ الله مَنْ ركب هذا الخطر، ولَيتُبْ إلى الله منه قبل أن يلقى ربه بدماء معصومة، تجعله في مصاف المفسدين الذين اجترح ما اجترح نكاية بهم.
إن علينا لزوم منهج الأنبياء والمرسلين: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النحل: ٣٥] ، وأما الجهاد فإنه قائم ماضٍ إلى يوم القيامة، وله أماكنه وشروطه كما في فلسطين والعراق وغيرهما، وليس من الجهاد في شيء ترويعُ الآمنين، واستباحةُ دماء المسلمين.
هذا واللهَ أسأل أن يلهمنا البصيرة في الدين، وترَسُّم خطى أهل العلم الراسخين، من الصحابة المرضيين، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
والحمد لله أولاً وآخراً، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.