للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تعقيب على مقال

مدى تدخل الدولة في فرض الضرائب وتوظيف الأموال

للشيخ عثمان جمعة ضميرية

عبد العزيز بن حمد المحمد

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا

شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. أما بعد:

فقد كتب الشيخ الفاضل: عثمان جمعة ضميرية مقالا في مجلة (البيان) (العدد

الثالث عشر) بعنوان: (مدى تدخل الدولة في فرض الضرائب وتوظيف الأموال) ، وخلص إلى مشروعية فرض الضرائب بشروط ذكر بعضها. وقد كان لي بعض

الملاحظات على ذلك المقال فأحببت أن أذكر شيئا منها، ولست متعرضا لتحرير

القول في المسألة، فأدع ذلك لعلمائنا حفظهم الله.

أولاً: الكلام الذي نقله الكاتب حفظه الله عن الغزالي والجويني والشاطبي

مرتبط كله بالجهاد والاستعداد له وحفظ الأمن، وأين ذلك من الضرائب المتنوعة

التي تفرض اليوم، ولا تستخدم في الضروريات فقط، بل تتعدى ذلك إلى ...

الحاجيات والتحسينات، ومجالات الفساد المتنوعة. وإنما يصح الاستشهاد بكلام العلماء المذكورين - رحمهم الله - على الضرائب التي يحتاج إليها في القيام بالواجبات فقط.

ثانياً: قال الشيخ - حفظه الله - ص ٤٧: (وممن (في الأصل: مم) عرض

لهذه المسألة، وأيدها بالنصوص الشرعية والحجج القوية، الإمام ابن حزم في كتابه

العظيم (المحلَّى) ..) .

والواقع أن كلام ابن حزم ليس عن الضرائب وحكمها، وإنما هو عن إلزام

الأغنياء بسد حاجات الفقراء، إذا لم تقم الزكوات بهم. وأما موقفه من الضرائب،

فقد ذكره في كتابه (مراتب الإجماع) ، فقال، ص١٢١:

(واتفقوا أن المراصد الموضوعة للمغارم على الطرق وعند أبواب المدن وما

يؤخذ في الأسواق من المكوس على السلع المجلوبة من المارة والتجار ظلم عظيم

وحرام وفسق، حاشا ما أخذ على حكم الزكاة وباسمها من المسلمين من حول إلى

حول مما يتجرون به، وحاشا ما يؤخذ من أهل الحرب وأهل الذمة مما يتجرون به

من عشر أو نصف عشر، فإنهم اختلفوا في كل ذلك، فمن موجب أخذ كل ذلك

ومن مانع من أخذ شيء منه إلا ما كان في عهد صلح أهل الذمة مذكورا مشترطا

عليهم فقط) . وهذا الذي اعتمده شيخ الإسلام كما سيأتي.

ثالثاً: قال الشيخ - حفظه الله - ص ٤٤: (عرض فقهاء الشريعة الإسلامية

توظيف الأموال على الأغنياء، عند الحاجة، وقرروا جواز ذلك ... ) .

وقد يفهم من الإطلاق أن هذا قول العلماء كافة، وليس الأمر كذلك! وأول من

عرف عنه القول بمشروعية توظيف الوظائف أبو المعالي الجويني، وهو يقول عن

نفسه في (غياث الأمم) بتحقيق الديب، ص٢٦٦:

(لست (أحاذر) إثبات حكم لم يدونه الفقهاء، ولم يتعرض له العلماء؛ فإن معظم مضمون هذا الكتاب لا يلغي مدونا في كتاب، ولا مضمنا

لباب ... فليكن الكلام في الأموال وقد صفر بيت المال واقعة لا يعهد فيها ... للماضين مذهباً، ولا يحصل لهم مطلباً، ولنجر فيه على ما جرى عليه الأولون إذ دفعوا إلى وقائع لم يكونوا يألفوها، ولم ينقل لهم مذاهب، ولم يعرفوها) . وتبع الجويني على كلامه تلميذه الغزالي، ونقل الشاطبي كلام الأخير موافقا له كما وافقهم على ذلك علماء آخرون. وقد خالف في ذلك غيرهم مثل ابن حزم كما مرّ معنا، وابن تيميه كما سيأتي.

ومما يوضح الخلاف في المسألة من قديم، ما ذكره التنبكتي في كتابه

المطبوع بهامش (الديباج المذهب) في ترجمة الشاطبي صاحب (الاعتصام) ، إذ

قال ص ٤٩: (وكان صاحب الترجمة ممن يرى جواز ضرب الخراج على الناس عند ضعفهم وحاجتهم، لضعف بيت المال عن القيام بمصالح الناس، كما وقع للشيخ المالقي في كتاب الورع قال: توظيف الخراج على المسلمين من المصالح المرسلة ولاشك عندنا في جوازه وظهور مصلحته في بلاد الأندلس في زماننا الآن لكثرة الحاجة لما يأخذه العدو من المسلمين، سوى ما تحتاج إليه الناس، وضعف بيت المال الآن عنه، فهذا يقطع بجوازه الآن في الأندلس. وإنما النظر في القدر المحتاج إليه من ذلك، وذلك موكول إلى الإمام ... وكان خراج بناء السور في بعض مواضع الأندلس في زمانه موظفاً على أهل الموضع، فسئل عنه إمام الوقت في الفتيا بالأندلس الأستاذ الشهير أبو سعيد بن لب فأفتى أنه لا يجوز ولا يسوغ، وأفتى صاحب الترجمة بسوغه، مستنداً فيه إلى المصلحة المرسلة، معتمداً في ذلك إلى قيام المصلحة التي إن لم يقم بها الناس فيعطونها من عندهم ضاعت ... ووقع لابن الفراء في ذلك مع سلطان وقته وفقهائه كلام مشهور ... ) .

وأما شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - فقد قال (مختصر الفتاوى

المصرية، ص ٤٥٥) : ( ... في أوائل الدولة السلجوقية أفتى طائفة من الحنفية والشافعية - إذا لم يكن في أموال بيت المال كفاية لرزق الجند الذين يحتاج إليهم في الجهاد - أن يوضع على المعاملات، وأنكر ذلك غير هؤلاء، وحكى أبو محمد بن حزم في كتاب الإجماع: إجماع العلماء على تحريم ذلك، وقد كان نور الدين محمود الشهيد بن زنكي قد أبطل جميع الوظائف المحدثة في الشام والجزيرة ومصر والحجاز، وكان أعرف الناس بالجهاد، وهو الذي أقام الإسلام بعد استيلاء الإفرنج والقرامطة على أكثر بلاد هـ) .

وقال أيضاً في (الأموال المشتركة) (١) : (.. وأما من بعد الخلفاء الراشدين

فلهم في تفاصيل قبض الأموال وصرفها طرق متنوعة: منها ما هو حق منصوص

عليه موافق للكتاب والسنة، ومنها ما هو اجتهاد يسوغ بين العلماء إذا كان الإمام

من أهل الاجتهاد وله علم، وقد يسقط الوجوب بأعذار ويباح المحظور بأسباب،

وليس هذا موضع تفصيل ذلك، ومنها ما هو اجتهاد ولكن صدوره لعدوان من

المجتهد أو تقصير منه شاب الرأي فيه الهوى، فاجتمعت فيه حسنة وسيئة، وهذا

النوع كثير في الملوك وغيرهم جداً، ومنه ما هو معصية محضة لا شبهة فيه بترك

واجب أو فعل محرم ... ولم أعلم أن في الدولة الأموية وصدر الدولة العباسية

وظفوا على الناس وظائف تؤخذ منهم غير الوظائف التي هي مشروعة في الأصل ... وكانت سير الملوك تختلف ... ومنهم من يقصد اتباع الشريعة وإسقاط ما

يخالفها، كما فعل نور الدين لما أسقط الكلف السلطانية المخالفة للشريعة التي كانت

تؤخذ بالشام ومصر والجزيرة، وكانت أموالا عظيمة جداً، وزاد الله البركات،

وفتح البلاد، وقمع الأعداء بسبب ذلك، لما عدل وأحسن.

ثم هذه الوظائف السلطانية التي ليس لها أصل في كتاب ولا سنة، ولا ذكرها

أحد من أهل العلم المصنفين في الشريعة، ولا لها أصل في كتب الفقه من الحديث

والرأي، هي حرام عند المسلمين، حتى عند من يأخذها، ويعرف حكم الله، وقد

ذكر ابن حزم إجماع المسلمين على ذلك. ومع هذا، فبعض من وضع بعضها

وضعه بتأويل واجتهاد علمي ديني، واتفق على ذلك أهل الفتوى والرأي من بعض

علماء ذلك الوقت ووزرائه ... في نصف المائة الخامسة حدثت أمور منها بناء

المدارس والخوانق ووقف الوقوف عليها، وصنف أبو المعالي الجويني كتاباً للنظام، ... سماه غياث الأمم ... وذكر فيه قاعدة في وضع الوظائف السلطانية عند الحاجة

إليها للجهاد، فإن الجهاد بالنفوس والأموال واجب، بل هو من أعظم واجبات الدين، ولا يمكن حصول الجهاد إلا بالأموال التي تقام بها الجيوش، إذ أكثر الناس لو

تركوا باختيارهم لما جاهدوا لا بأنفسهم ولا بأموالهم، وإن ترك. جمع الأموال

وتحصيلها حتى يحدث فتق عظيم من عدو داخلي أو خارجي تفريط وتضييع،

فالرأي أن تجمع الأموال، وترصد للحاجة، وطريق ذلك أن توظف وظائف راتبة

لا يحصل بها ضرر، ويحصل بها المصلحة المطلوبة من إقامة الجهاد.

والوظائف الراتبة لابد أن تكون على الأمور العادية، فتارة وظفوها على

المعاوضات والأملاك، مثل أن يضعوا على البائع والمشتري في الدواب والحبوب

والثمار وسائر الأطعمة والثياب مقداراً، إما على مقدار البيع وإما على مقدار الثمن، ويضعوا على الجعالات والإجارات، ويضعوا على العقارات من جنس الخراج

الشرعي، فكان ما وضعوه تارة يشبه الزكاة المفروضة المشروعة، وتارة يشبه

الخراج الشرعي، وتارة يشبه ما يؤخذ من تجار أهل الذمة والحرب، وتارة يشبه

المكس.

ومنهم من يعتدي فيضع على أثمان الخمور ومهور البغايا ونحو ذلك، مما

أصله محرم بإجماع المسلمين، ومنهم من يضع على أجور المغاني من الرجال

والنساء ...

حقيقة الأمر في ذلك أن هذا من القسم الثالث والرابع، فإن هذا إذا صدر

باجتهاد فهو في الأصل مشوب بهوى ومقرون بتقصير أو عدوان، وإن التقصير أو

العدوان صادر أيضاً من أكثر الرعية، فإن كثيرا منهم أو أكثرهم لو تركوا لما أدوا

الواجبات التي عليهم من الزكوات الواجبة والنفقات الواجبة والجهاد الواجب

بالأنفس والأموال، كما أنه صادر من كثير من الولاة أو أكثرهم، بما يقبضونه من

الأموال بغير حق، ويصرفونه في غير مصرفه، ويتركون أيضاً ما يجب من

الأمر والنهى، فجمع هذه الأموال وصرفها هي من مسائل الفتن ... ) .

وقد أطلت النقل من (الأموال المشتركة) لأهمية الكلام، ولعدم توفر المصدر

عند كثير من القراء فيما أظن.

رابعاً: نقل الشيخ عثمان -حفظه الله -عن بعض العلماء تضعيف حديث

فاطمة بنت قيس عن ابن ماجة، ولفظه: (ليس في المال حق سوى الزكاة) ،

وسكت عن حديثها عند الترمذي بلفظ. (إن في المال حقاً سوى الزكاة) ، مع أن

الإسناد واحد، وقد ضعفه العلماء للعلة ذاتها.

وإنما اختلف العلماء في لفظ ابن ماجة: هل هو خطأ من بعض النساخ، أم

هو هكذا؟ وانظر في ذلك: السنة للبيهقي (٤/٨٤) ، وتحفة الأشراف للمزي (١٢/

٤٦٥) مع تعليق الحافظ في (النكت الظراف) (والأطراف بأوهام الأطراف) لولي

الدين العراقي (ص ٢٣٠) ، وانظر كلامه أيضاً في (طرح التثريب) (٤/١١) ،

(والتلخيص الحبير) لابن حجر (٢/٦٠) ، وحاشية تفسير الطبري لأحمد شاكر (٣/

٣٤٤) ، وحاشية سنن ابن ماجة بتحقيق الأعظمي (١/ ٣٢٨) .

خامساً: نقل الشيخ عثمان -حفظه الله - (ص ٤٩) عن الشيخ حسن البنا-

رحمه الله - قوله: (ومن لطائف عمر رضى الله عنه أنه كان يفرض الضرائب

الثقيلة على العنب، لأنها فاكهة الأغنياء في ذلك الوقت، والضريبة التي لا تذكر ...

على التمر، لأنه طعام الفقراء، فكان أول من لاحظ هذا المعنى في الحكام والأمراء، رضي الله عنه) .

وكيف يقبل مثل هذا في بحث علمي؟ ! فكان ينبغي معرفة سند الخبر

وصحته قبل نقله.

هذا ما تيسر التعقيب عليه، والموضوع بحاجة إلى بحث وتحرير، والله

المستعان.

وختاماً أسأل الله لي وللشيخ عثمان التوفيق والغفران، وأن يهدينا لما اختلف

فيه من الحق بإذنه، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وآله

وصحبه وسلم.

١- رسالة لشيخ الإسلام ابن تيمية، أخرجها الدكتور ضيف الله بن يحيى

الزهراني، عام ١٤٠٦ هـ، اعتماداً على مخطوطة في مكتبة الأوقاف ببغداد،

تحت رقم ١٣٧٥٤، لكثرة ما في طبعته من تصحيفات، فقد اعتمدت على صورة

المخطوطة الملحق (بملاحظات على تحقيق كتاب الأموال المشتركة) لعبد العزيز

ابن إبراهيم المرداس، نشر دار ابن القيم بالدمام (الأوراق: ٤ - ٦) .