تأملات دعوية
[تعميم النموذج الشاذ]
محمد بن عبد الله الدويش
النموذج الشاذ يستهوي الأذهان ويأخذ بألباب النفوس؛ ومن ثم فهو مادة سهلة
لكثير من المتحدثين إلى الناس وعَّاظاً وخطباء وكتَّاباً؛ فالصور السوية المتسقة مع
القاعدة لا تستهوي النفوس ولا تستثير الانتباه، إنما يستثيرها ما يخرج عن القاعدة
ويشذ عن الإطار.
إنك حين تسير في الطريق تقابلك آلاف المركبات، فلا يلفت نظرك إلا التي
لها ما يميزها، أو أصابها عطل أو حادث.
وحين تجالس الناس فإن من يفقد حاسة من الحواس يلفت نظرك غير الذي
يتمتع بسائر حواسه.
وحين يتحدث خطيب أو محاضر لساعات عدة، فتبدو منه كلمة لا تليق فإنها
تلفت أنظار الناس أكثر من سائر الكلام الذي قاله.
لذا تتوافر الهمم على تناقل النماذج الشاذة والصور الغريبة والحديث عنها،
سواء تلك التي في واقع الناس القريب، أو ما في المصنفات والكتب.
ومطالبة الناس بالتخلي عن التعامل مع النماذج الشاذة أو دعوتهم إلى عدم
الاحتفاء بها، كل ذلك مناقض لطبيعة الإنسان وجِبِلَّته.
إلا أنه مما لا ينبغي أن يُقبل أن تؤثر هذه الطبيعة والسمة على مواقف من
يفترض فيهم النضج والموضوعية.
وثمة صور خاطئة في التعامل مع النماذج الشاذة، ومنها:
الصورة الأولى:
تعميم النموذج الشاذ وتحويله إلى قاعدة، ومن ذلك الحكم على المجتمعات من
خلال صور ومواقف محدودة، ولسان حال هؤلاء كمن يقول: إن الزنا والسرقة
والقتل كانت شائعة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ حيث أقيم الحد على
طائفة من هؤلاء، أو ما يعمد إليه سفهاء العصر فيختارون نماذج مما صح أو لم
يصح من أخبار المجون واللهو المحرم فيصبغون به صبغة مجتمع الصدر الأول.
ومن تعميم النموذج الشاذ الحكم على الأشخاص من خلال تصرفات محدودة لها
ظروف وملابسات معينة، أو الحكم على الجماعات من خلال تتبع سقطات بعض
أفرادها، والتعامل بانتقائية في ذلك.
الصورة الثانية:
محاكمة النفس أو المستمعين والقراء إلى النموذج الشاذ، وذلك بأن يورد
المتحدث خبراً أو خبرين لا ثالث لهما ويعقب على ذلك بقوله: «أين نحن من
فلان؟» .
إن إبراز مواقف القدوة والتأسي بها أمر مطلوب وله أثره التربوي الذي لا
يخفى، وتطلُّع النفس إلى المثل العليا والنماذج المتميزة يعلي همتها، لكن إبراز
النموذج على أنه مثل يحتذى ويقترب منه يختلف عن جعله محكاً يحاكم الإنسان
نفسه على ضوئه، أو يحاكم الناس إليه.
ومن النتائج السلبية للإيغال في ذلك أن يصاب الشخص بالإحباط؛ نظراً لأنه
إنما يقارن نفسه بهذه النماذج، وهذا أكثر ما يحصل لدى الشباب، وهم أحوج
الناس إلى بعث الأمل في النفوس، وإلى غرس الثقة والشعور بالقدرة على الإنجاز
والنجاح.
الصورة الثالثة:
وهي أكثر ما تحصل في الميادين العملية، فقد نطالب العاملين بمستوى من
الأداء محتجين بأننا قد وصلنا إليه، أو أن فلاناً وفلاناً وصلا إلى هذا المستوى.
إن غاية ما يمكن أن نستنتجه من هذه المواقف أن الناس يستطيعون أن يصلوا إلى
هذا القدر، لكن هذا لا يعني أن كل الناس قادرون على ذلك.
إن الناس مواهب وطاقات، وقدرات وإمكانات، وتفاوتهم في ذلك لا يحصيه
إلا خالقهم، والتفاوت يشمل الإيمان والتقوى ويشمل القدرة البدنية والقدرة النفسية،
والقدرة العقلية ... إلخ.
وهذا يعني أن ما يطيقه فلان قد لا يطيقه غيره، وما ينجح فيه قد لا ينجح فيه
سواه.