قصة قصيرة
الموت صبراً
محمد علي البدوي [*]
في عصر الديمقراطيات الحديثة، عصر المثاليات والشفافية الإنسانية،
عصر (حقوق الإنسان) والندوات العالمية المفعمة بمثل هذه المشاعر الرهيفة
النبيلة.. يموت الإنسان في (.....) ......
كل شيء يحتضر.. الماء.. الهواء.. الشمس وقد تلفعت بحمرة الشفق،
وأخذت تتوارى في خجل، الليل وهو يبسط رداءه على شوارع المدينة،.. كانت
عقارب الساعة تزحف نحو السادسة مساء ببطء شديد عندما عاودت الطائرات
المحمومة قصفها للمدينة، بدأت صافرات الإنذار تزأر بشدة والموت يوزع هنا
وهناك نُذره.. لكن الناس صاروا لا يبالون بذلك، لقد ألفوا المنظر، ألِفوا ألسنة
النيران، وتساقط الشظايا، ... إنهم يقبلون على الحياة في نهم ظاهر ...
أخذت الأفكار تشتعل في رأسه، وراحت الصور تتلاحق أمام ناظريه قاتمة
كئيبة «.. الجثث المبعثرة، رائحة الدماء المنبعثة بين الأنقاض وقد اختلطت
بنداءات الاستغاثة، الوجوه الشاحبة بفعل الفقر والعوز، الأجساد اليابسة المتهالكة،
الأطفال وهم يتضاغون، الجوع الذي يفتك بالجميع بلا رحمة» ، ضغط على
عينيه عنوة ثم صرخ في حدّة:
- إلى متى هذا الحصار الكريه يجثم على صدورنا؟ .. يقطف أرواحنا؟
يقتل أحلامنا؟ .. لم نعد نحلم بشيء ... لم نعد نحلم بشيء ...
تحجرت الدموع في عينيه وهو يشاهد جنازة صغيرة تؤم المقبرة في صمت،
لم يجد بداً من المشاركة، جرّ رجليه خلفهم في تعب، وتساءل مع نفسه في مرارة:
- كم هي القبور التي حفرتها؟ ... كم هي الأجساد الغضة التي أودعتها؟
... الأطفال فقط يدفعون ثمن هذه الحرب الضروس.
لاحت له المقبرة من بعيد وقد نهضت خلفها الجدران الصامتة، صمت العالم
إزاء ما يحدث لهم، علق مغضباً:
- تباً جدار الصامتين.
كانت مراسم الدفن سريعة، قفل الناس بعدها إلى بيوتهم، بينما تكوّم هو عند
جدار المقبرة، وأخذ يحدق ملياً في تلك القبور التي تراصت جنباً إلى جنب ...
العشرات من أصدقائه وأقربائه قُبروا هنا ... رحلوا في صمت.. قتلهم القصف
والجوع.. والحصار الكريه..
كان الليل قد أتى على المدينة المنكوبة التي قد تدثرت بالحداد، بينما أخذت
الطائرات المحمومة تزرع الموت في كل مكان ... عندها آب إلى بيته موجعاً بعد
أن أعدَّ مقابر جديدة لاستقبال الموتى!
(*) عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية.