ملفات
فلسطين.. نزف مستمر وعطاء دائم!
[الشيخ الأمة]
أحمد بن صالح السديس
Asasat٢٠٠١@yahoo.com
روي أنّ عمر بن الخطاب لما استبطأ فتح مصر بعث إلى عمرو بن العاص
أربعة رجال - رضي الله عنهم - أجمعين وأعلمه أنّ الرجل منهم مقام الألف.
وهكذا هم الرجال الذين يُستشعر فضلُهم وقدرُهم وفقدُهم، قد ترى أحدهم في
هيئة متواضعة، وجسد ضعيف متهالك، لكنه يكشف لك عند الشدائد عن قلب أسد،
وفعل بطل!!
ترى الرجل النحيل فتزدريه ... وفي أثوابه أسدٌ هصورُ
وإننا نحسب أنّ الشيخ أحمد ياسين - رحمه الله - واحد من هؤلاء ببذله
وجهاده وعطائه، الذي لم يتوقف على الرغم من تتابع المحن والمصائب، وتراكم
الأمراض والنوائب. فلم يكن الشيخ يومًا مبعثًا للعطف أو الرحمة؛ إذْ كان مُقْعدًا
حرَّكتْ همَّتُه أمَّتَه، وكم فينا من قويٍّ صحيح قعدتْ به همّتُه، ورضيت بالدون
نفسُه!!
لقد كان رمزًا لهذه الأمة، أو مثالاً حيًّا يجسِّد حالها. فهو وإنْ كان كبير السن،
إلا أنه ظلّ كبيرًا في عقله وقوله وفعله، ثابتًا على مبادئه وعقيدته، وصنع ما لم
يصنعه الشباب الأشدّاء، فظلّ متجدِّد الحيوية والنشاط. والأمّة وإنْ كانت كبيرة في
عمرها إلا أنّها لا زالت كبيرة في قدرها ومقامها، ولا تزال مبادئها وقيمها ماثلة
حاضرة؛ لم تشِخْ أو تهرَم، وصنعت في النفوس ما لم تفعله مئات المذاهب
والأفكار الشابّة، فظلّت الأمة وستظلّ بإذن الله متجدِّدة النشاط والحيوية، ولا تزال
طائفة منها يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة [١] .
والشيخ وإنْ كان مريض البدن ضعيف الإمكانات إلا أنه لم يعجز عن بعث
روح العزّة والكرامة في نفوس قومه وأمّته. ومثله الأمّة التي وإنْ كانت مريضة
ضعيفة إلا أنها لا تزال تنجب الأبطال البررة، وتبعث في نفوس أبنائها القوة
والرفعة.
والشيخ وإنْ كان محاصرًا في بلده المحتلّ، ومُقعدًا لا يقوى على الحراك، إلا
أنه مات وهو يمثِّل هاجسًا مقلقًا، ورعبًا لأعدائه مُفزعًا، ولم يَحُلْ دون خوفهم
وقلقهم جيوش وعتاد وأسلحة دمار. وفي المقابل فإنّ الأمة وإنْ كانت محاصرةً في
كثير من بقاعها، مقعدةً عن جُلّ وأجلّ أعمالها، إلا أنها لا تزال تمثِّل لأعدائها
عدوًّا قويًّا مرعبًا، توجَّه من أجله الحشود، وتبذل من أجله الجهود.
لقد علَّمنا الشيخ ألا نحقر أنفسنا، وأنّ بيد كل منا سلاحاً يملكه، قد يكون
مختلفاً عن كل سلاح آخر، وأنّ لكل منا دوراً يحسنه، قد لا يحسنه غيره، وأنّ
أحدنا لن يكون ضعيفاً ما لم يكن هو مَنْ أضعفَ نفسَه، بإضعاف عزيمته وهمّته.
وذكَّرنا بأنّ الخير في هذه الأمة لا يُدرى أين يكون، ولا أين طرفاه، وأنّ المؤمن
كالغيث ينفع حيث حلّ.
كان الشيخ كبيرًا في حياته، فاستحق نهاية تليق بمقامه، بشهادة أعدائه. فلم
تكن الرَّصاصة القاتلة كافية، بل وجّهوا إليه وهو الشيخ الأعزل، الذي لا يقوى
على تحريك أصبع واحد من أصابع قدميه أو يديه!! طائراتٍ تحمل من السلاح ما
يكفي لتدمير مبان شاهقة؛ فهم يرون الشيخ ذا قامة عالية ونفس حرّة شامخة،
توازي تلك المباني القوية الشاهقة.
ولئن ظنّ اليهود أنهم بمثل هذه الفعلة قد قضوا على المقاومة والجهاد، فإننا
على يقين راسخ بأنهم في ظنهم وتوهّماتهم وأمانيهم كباسطِ كفيه إلى الماء ليبلغ فاه،
وما هو ببالغه؛ ذلك أنّ هذه الأمة لا تموت بموت رجالها، بل إنّ الله يهيّئ لها من
الخلف ما يجدِّد به ذكرَ السلف، ويرزقها من حيث لا تحتسب ولا يحتسب أعداؤها:
إِذا ماتَ مِنّا سَيِّدٌ قامَ بَعدَهُ ... نَظيرٌ لَهُ يُغني غِناهُ وَيُخلِفُ
وحين يغتال العدو بطلاً صنديدًا تنبعث روحه ومبادئه في نفوس الكثيرين،
ويصبح قتله وبالاً على المجرمين القاتلين، ويعرفه حقَّ المعرفة من لم يكن يعرفه،
ويُعجب به من لم يكن يوليه عنايتَه، ويظلّ رمزًا في نفوس الناس لكل مبدأ من
مبادئه؛ فتحيا مبادئه، ويكون الأعداء وسيلة لنشرها، من حيث أرادوا وأدها.
وأخيرًا فلا حزن ولا جزع، وكما قال عمر: قتلانا في الجنة وقتلاهم في
النار، والله غالب على أمره، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(١) انظر: صحيح البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، وصحيح مسلم، كتاب الإيمان.