للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

دراسات في الشريعة والعقيدة

[أحكام الرطانة]

د. عبد الرحمن آل عثمان

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين،

وبعد:

فإن الله تعالى قد حبانا بلغة عظيمة هي لغة الرسول الخاتم صلى الله عليه

وسلم والكتاب الكريم الذي لم ينزل قبله مثله، ولن يُنزِل كتاباً بعده، فهو آخر

الكتب الإلهية.

وإن مِنْ شُكْرِ هذه النعمة أن نُحافظ على هذه اللغة ونعتز بها، وأن نعلمها

الأجيال، ونبعث في نفوسهم محبتها والحفاظ عليها. ومن الاعتزاز بها أن تكون

وسيلة مخاطباتنا دائماً بحيث لا نلجأ إلى غيرها من غير حاجة، وكما أن هذا يُعد

من الوفاء لهذه اللغة فهو كذلك من جملة الأمور التي تحفظ للأمة كيانها بل

شخصيتها التي تميزها عن غيرها.

كما أن ذلك من الأمور التي تُؤثر في قلب الإنسان ونفسه ومزاجه المعنوي،

وقد قرر ذلك أبو العباس ابن تيمية رحمه الله بقوله: «واعلم أن اعتياد اللغة يؤثر

في العقل والخلق والدين تأثيراً قوياً بيناً، ويؤثر أيضاً في مشابهة صدر هذه الأمة

من الصحابة والتابعين. ومشابهتهم تزيد العقل والدين والخلق» [١] .

وذلك أن التكلم بلغة قوم فيه نوع محاكاة لهم، ولا يخفى أثر المحاكاة على

نفس صاحبها.

«وأيضاً فإن اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرض واجب، فإن فهم

الكتاب والسنة فرض، ولا يفهم إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به

فهو واجب» .

ثم منها ما هو واجب على الأعيان، ومنها ما هو واجب على الكفاية. وهذا

معنى ما رواه أبو بكر بن أبي شيبة، عن عمر بن زيد قال: كتب عمر إلى أبي

موسى رضي الله عنه: «أما بعد: فتفقهوا في العربية وأعربوا القرآن، فإنه

عربي» . وفي حديث آخر عن عمر رضي الله عنه أنه قال: «تعلموا العربية؛

فإنها من دينكم، وتعلموا الفرائض؛ فإنها من دينكم» وهذا الذي أمر به عمر

رضي الله عنه من فقه العربية وفقه الشريعة، يجمع ما يُحتاج إليه؛ لأن الدين فيه

أقوال وأعمال؛ ففقه العربية هو الطريق إلى فقه أقواله، وفقه السنة هو فقه

أعماله « [٢] .

وبهذا تعلم أن هذه مسألة شرعية ينبني عليها بعض الأحكام الشرعية؛ ذلك أن

الكلام بغير لغة العرب على قسمين، يتفرع عن كلٍ منهما نوعان على النحو الآتي:

القسم الأول: وهو ما كان من قبيل الألفاظ المفردة كأسماء الأشخاص أو

الشهور أو الآلات أو غيرها، وهو نوعان:

النوع الأول: ما كان باقياً على أعجميته أي: أنه لم يُخالط اللغة العربية ولم

يداخلها حتى يصير كأنه واحد من ألفاظها، وهو نوعان:

الأول: أن يكون من الألفاظ التي لا يُعرف معناها.

قال حرب الكرماني رحمه الله:» باب تسمية الشهور بالفارسية «قلت لأحمد: فإن للفرس أياماً وشهوراً يسمونها بأسماء لا تعرف [٣] ؟ فكره ذلك أشد الكراهة.

وروى فيه عن مجاهد حديثاً: أنه كره أن يقال: آذرماه [٤] ، وذي ماه [٥]

قلت: فإن كان اسم رجل أسميه به؟ فكرهه قال: وسألت إسحاق قلت: تاريخ

الكتاب يكتب بالشهور الفارسية مثل: آذرماه، وذي ماه؟ قال: إن لم يكن في تلك

الأسامي اسم يكره فأرجو. قال: وكان ابن المبارك يكره (إيزد) أن يحلف به،

وقال: لا آمن أن يكون أضيف إلى شيء يعبد، وكذلك الأسماء الفارسية. قال:

وسألت إسحاق مرة أخرى قلت: الرجل يتعلم شهور الروم والفرس. قال: كل اسم

معروف في كلامهم فلا بأس» [٦] .

وقد وجه أبو العباس ابن تيمية رحمه الله قول الإمام أحمد في كراهة هذه

الأسماء بأن الاسم الذي لا يعرف معناه يحتمل أن يكون له معنى محرم، والمسلم لا

ينطق بما لا يعرف معناه [٧] .

وقال: «إن جهل معناه فأحمد كرهه» [٨] .

الثاني: ما له معنى معروف. وهو على نوعين:

أ - ما كان له معنى محرم.

فهذا يُمنع بلا ريب من باب أوْلى؛ حيث مُنع ما لا يُعرف معناه [٩] .

ب - ما كان له معنى غير محرم؛ فهذا على نوعين:

١ - أن يتكلم به لحاجة كأسماء بعض المصنوعات أو المصطلحات العلمية

ونحوها مما لا يعرف لها مقابل في العربية أو كان السامع لا يفهم مراده إلا باللفظ

الأعجمي [١٠] فلا بأس بالتكلم بها في هذه الحال؛ لكن ينبغي السعي في تعريبها

حفظاً للغة العربية من الضمور والانحسار.

٢ - أن يتكلم به لغير حاجة، وله صورتان:

الأولى: أن يقع ذلك منه على سبيل الإعجاب بالأعجمية ومحبتها وإيثارها

فهذا لا ينبغي، وفاعله مبتلى بالنقص والهزيمة النفسية.

الثانية: أن لا يكون منشأ ذلك محبة الأعجمية والإعجاب بها؛ والذي يظهر

أن هذا على قسمين:

١ - أن يكون ذلك قليلاً أو نادراً. وهذا لا حرج فيه إن شاء الله. قال

البخاري رحمه الله: «باب من تكلم بالفارسية والرطانة» [١١] .

وأورد تحته ثلاثة أحاديث، الأول: حديث جابر رضي الله عنه قال: «قلت: يا رسول الله ذبحنا بهيمة لنا، وطحنت صاعاً من شعير فتعالَ أنت ونفر. فصاح

النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا أهل الخندق! إن جابراً قد صنع سوْراً،

فحيَّ هلا بكم» [١٢] .

والشاهد هنا في قوله: «سُوْراً» بضم السين وسكون الواو وهو الطعام

مطلقاً أو الطعام الذي يُدعى إليه. وهو بالهمز (السُّؤر) بقية الشيء. قال الحافظ

: «والأول هو المراد هنا» [١٣] ونقل عن الطبري أنه من الفارسية. قيل له:

أليس هو الفضلة؟ قال: لم يكن هناك شيء فضل ذلك منه، إنما هو [أي معناه]

بالفارسية: من أتى دعوة « [١٤] .

الحديث الثاني: حديث أم خالد بنت خالد بن سعيد؛ قالت:» أتيت رسول

الله صلى الله عليه وسلم مع أبي وعَلَيَّ قميص أصفر قال رسول الله صلى الله عليه

وسلم: سَنَهْ سَنَهْ « [١٥] . قال عبد الله (وهو عبد الله بن المبارك رحمه الله أحد

رواة هذا الحديث) : وهي بالحبشية: حسنة. والشاهد فيه قوله:» سَنَهْ سَنَهْ «

بفتح النون وسكون الهاء، وفي بعض الروايات:» سناه «بزيادة ألف. والهاء

فيهما للسكت وقد تحذف؛ وقد جاءت بعض الروايات بحذفها.

وأم خالد رضي الله عنها وُلِدت في الحبشة، وقدمت مع أبيها وهي صغيرة.

والحديث الثالث: حديث أبي هريرة رضي الله عنه:» أن الحسن بن علي

أخذ تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم

بالفارسية: كخ، كخ! أما تعرف أنَّا لا نأكل الصدقة؟ « [١٦] .

فقوله» كخ، كخ «كلمة تقال لردع الصبي عند تناوله ما يُستقذر، قيل

عربية، وقيل أعجمية، وذهب بعضهم إلى أنها مُعرَّبة [١٧] . وصنيع البخاري يدل

على أنه يرى أنها أعجمية. والله أعلم.

قال الحافظ: وقد نازع الكرماني في كون الألفاظ الثلاثة أعجمية؛ لأن الأول

يجوز أن يكون من توافق اللغتين، والثاني يجوز أن يكون أصله:» حسنه «

محرف أوله إيجازاً، والثالث من أسماء الأصوات. وقد أجاب عن الأخير ابن

المنيِّر فقال: وجه مناسبته أنه صلى الله عليه وسلم خاطبه بما يفهمه مما لا يتكلم به

الرجل مع الرجل؛ فهو كمخاطبة العجمي بما يفهمه من لغته. قلت: وبهذا يُجاب

عن الباقي» [١٨] .

ولعل هذا الأخير لا يظهر؛ لأن هؤلاء جميعاً كانوا من العرب.

ويحتمل أن الأول والثالث من قبيل الدارج في لغة العرب الذي صار من جملة

الألفاظ المستعملة عند أهل العربية.

وأما الثاني وهو حديث أم خالد فيحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم

قاله لهذه الجارية الصغيرة على سبيل الملاطفة والمداعبة لكونها قدمت من الحبشة؛

والغالب أنها تعرف بعض كلامهم. والله أعلم.

ومما ورد في هذا الباب ما أخرجه ابن عساكر في تاريخه [١٩] ، وساقه

الذهبي بسنده [٢٠] عن علي رضي الله عنه أنه قال للقاضي شريح وقد حكم في

قضية بين يديه فأعجبه حكمه: «قالون» وهي بلسان الروم بمعنى: أحسنت أو

جيِّد. ولم يكن شريح رومياً ولا مقيماً في أرض الروم، بل كان من كندة في أهل

اليمن، وولي القضاء في الكوفة ستين سنة.

ومن ذلك ما أخرجه ابن أبي شيبة وفيه من لا يُعرف أن أبا هريرة رضي الله

عنه أشرف على السوق فقال: سحت وداست [٢١] .

وأخرج ابن أبي شيبة أيضاً عن منذر الثوري قال: «سأل رجل ابن الحنفية

عن الجبن فقال: يا جارية: اذهبي بهذا الدرهم فاشتري به ينيراً [٢٢] ، فاشترت به

ينيراً ثم جاءت به» [٢٣] يعني: الجبن.

وذكر القرطبي وعزاه للخطيب عن أبي عبد الملك مولى أم مسكين بنت

عاصم بن عمر بن الخطاب قال: أرسلتني مولاتي إلى أبي هريرة فجاء معي، فلما

قام بالباب قال: أندر؟ قالت: أندرون [٢٤] .

وقال القرطبي: وذكر عن أحمد بن صالح قال: كان الدراوردي من أهل

أصبهان نزل المدينة، فكان يقول للرجل إذا أراد أن يدخل: (أندرون) فلقبه أهل

المدينة «الدراوردي» [٢٥] و (أندرون) كلمة فارسية تعني: «داخل، باطن»

ونحو ذلك.

وقال حبيب بن أبي ثابت: «كنا نسمي أبا صالح: [٢٦] » دزوزن «وهو

بالفارسية: كتاب» [٢٧] .

فهذه الآثار تدل على أن السلف كانوا يتكلمون في أحيان قليلة بالكلمة من

الأعجمية.

قال أبو العباس ابن تيمية رحمه الله: «ونُقِل عن طائفة منهم أنهم كانوا

يتكلمون بالكلمة بعد الكلمة من العجمية.

وفي الجملة: فالكلمة بعد الكلمة من العجمية أمرها قريب، وأكثر ما يفعلون

ذلك إما لكون المخاطب أعجمياً، أو قد اعتاد العجمية، يريدون تقريب الأفهام

عليه» [٢٨] .

٢ - أن يكثر ذلك مع عدم الحاجة؛ فهذا ينبغي أن يُجتنب.

قال الشافعي رحمه الله: «سمَّى الله الطالبين من فضله في الشراء والبيع

تجاراً، ولم تزل العرب تسميهم التجار ثم سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم

بما سمى الله به من التجارة بلسان العرب، والسماسرة اسم من أسماء العجم، فلا

نحب أن يسمى رجل يعرف العربية تاجراً، إلا تاجراً. ولا ينطق بالعربية فيسمي

شيئاً بأعجمية، وذلك أن اللسان الذي اختاره الله عز وجل لسان العرب، فأنزل به

كتابه العزيز وجعله لسان خاتم أنبيائه محمد صلى الله عليه وسلم، ولهذا نقول:

ينبغي لكل أحد يقدر على تعلم العربية أن يتعلمها لأنها اللسان الأوْلى بأن يكون

مرغوباً فيه من غير أن يحرم على أحد أن ينطق بأعجمية» [٢٩] .

قال شيخ الإسلام رحمه الله: «فقد كره الشافعي لمن يعرف العربية أن يسمي

بغيرها، وأن يتكلم بها خالطاً لها بالعجمية، وهذا الذي قاله الأئمة مأثور عن

الصحابة والتابعين» [٣٠] .

النوع الثاني: من القسم الأول [٣١] : وهو ما خالط كلام العرب ودخل في

لغتهم حتى صار بمنزلة مفرداتها الأصيلة، وهو المُعرَّب وما في حكمه. وهو

نوعان:

أ - ما استعملته العرب قبل اختلاط ألسنتها [٣٢] .

فهذا معدود في حكم كلام العرب ولا غضاضة في استعماله [٣٣] .

ب - ما دخل على اللغة بعد اختلاط الألسنة، وقد وقعت الجمهرة من ذلك في

القرنين الأخيرين؛ ذلك أن أكثر بلاد المسلمين وقعت تحت سيطرة أعدائها، إضافة

إلى أن الأمة صارت تستقبل من غيرها أشياء كثيرة من الثقافة والصناعة وغير ذلك

فتستقر اللفظة في الأمة غالباً بثوبها الذي جاءت به من حيث التسمية وغيرها.

فصار الناس ينطقون بتلك الألفاظ الأعجمية نطقهم بالعربية دون تنبه أو تمييز

لأصلها؛ فهم حين يتلفظون بها لا يقصدون التكلم بالأعجمية سواء كانوا عالمين

بأصلها أم لم يكونوا كذلك.

وفي هذه الحال لا يُعد من صدر منه مثل ذلك محاكياً للأعاجم أو متشبهاً بهم،

ومن ثَمَّ فالحرج الشرعي مرتفع عنه.

لكن ثمة أمر آخر ينبغي مراعاته، وهو أن هذه الكلمات الدخيلة على اللغة

ينبغي استبدالها بالألفاظ التي تقوم مقامها في العربية، كما ينبغي أن يُنبَّه الناس إلى

أصل تلك المفردات ليكون ذلك معيناً على التخلص منها؛ ذلك أنها تزاحم مفردات

العربية وإذا كثرت فإنها تفسد اللغة من أساسها وتقوضها كما لا يخفى.

* فائدة: من عادة العرب إذا نطقوا بلفظة أعجمية أنهم يلقونها على طريقتهم

في النطق من غير تكلف، ودون ترقيق في اللفظ فضلاً عن نبرة الصوت،

وقاعدتهم في ذلك «أعجمي فالعب به» كما قرر ذلك بعض المتقدمين من أئمة

اللغة، وهذا على خلاف ما شاع في أوساط المثقفين من تمحُّل في إخراج

اللفظة مصحوبة بنبرتها الأعجمية.

القسم الثاني: ما كان من قبيل التراكيب والجُمل وليس من قبيل اللفظة

المفردة، وهو نوعان:

الأول: ما دعت إليه الحاجة فهذا لا بأس به كأن يكون المخاطب لا يعرف

العربية. لكن ينبغي أن تتضافر الجهود على بث العربية ودعمها بكل وسيلة ممكنة

حتى تكون هي لغة التخاطب بين العرب وغيرهم كما كان عليه الأمر في الأزمنة

التي كانت فيها القوة والغلبة للمسلمين.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «ولهذا كان المسلمون المتقدمون لما

سكنوا أرض الشام ومصر، ولغة أهلها رومية، وأرض العراق وخراسان ولغة

أهلهما فارسية. وأهل المغرب، ولغة أهلها بربرية عوَّدوا أهل هذه البلاد العربية،

حتى غلبت على أهل هذه الأمصار: مسلمهم وكافرهم. وهكذا كانت خراسان

قديماً» [٣٤] .

ثم إنهم تساهلوا في أمر اللغة، واعتادوا الخطاب بالفارسية، حتى غلبت

عليهم، وصارت العربية مهجورة عند كثير منهم، ولا ريب أن هذا مكروه. إنما

الطريق الحسن اعتياد الخطاب بالعربية، حتى يتلقنها الصغار في المكاتب وفي

الدور، فيظهر شعار الإسلام وأهله، ويكون ذلك أسهل على أهل الإسلام في فقه

معاني الكتاب والسنة وكلام السلف، بخلاف من اعتاد لغة ثم أراد أن ينتقل إلى أخرى

فإنه يصعب.

الثاني: ما لم تدْعُ إليه الحاجة. وهو نوعان:

١ - ما كان الباعث له محبتها والإعجاب بها؛ فهذا لا ينبغي فعله سواء كان

قليلاً أم كثيراً ويُخشى على صاحبه أن يقع في النفاق العملي كما لا يخفى وهو من

ألوان محاكاتهم والتشبه بهم، وهذا يكثر وقوعه عادة بين من ابتُلوا بالهزيمة النفسية

لا سيما في أوقات ضعف الأمة وتراجعها؛ فالأمم القوية تسعى لفرض ثقافتها على

الأمم الضعيفة المغلوبة، وإنما يعبر ذلك كله على جسد اللغة.

ولغات الأمصار تكون عادة بلسان الأمة الغالبة عليها، ولما كان المسلمون

غالبين على غيرهم من الأمم صارت اللغة العربية هي لغة التخاطب في كثير من

البلاد التي هي في أصلها أعجمية [٣٥] .

قال ابن حزم رحمه الله: «فإن اللغة يسقط أكثرها ويبطل بسقوط دولة أهلها

ودخول غيرهم عليهم في مساكنهم أو بنقلهم عن ديارهم واختلاطهم بغيرهم، فإنما

يقيد لغة الأمة وعلومها وأخبارها قوة دولتها ونشاط أهلها وفراغهم، وأما من تَلِفَتْ

دولتهم وغلب عليهم عدوهم واشتغلوا بالخوف والحاجة والذل وخدمة أعدائهم

فمضمونٌ منهم موت الخواطر، وربما كان ذلك سبباً لذهاب لغتهم، ونسيان أنسابهم

وأخبارهم، وبُيود علومهم، هذا موجود بالمشاهدة ومعلوم بالعقل ضرورة» [٣٦] .

٢ - ما لم يكن الباعث له الإعجاب بها ومحبتها. وله صورتان:

الأولى: أن يعتاد ذلك ويكثر منه. وهذا لا ينبغي أيضاً؛ لأن «اللسان

العربي شعار الإسلام وأهله، واللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها

يتميزون» [٣٧] .

وقد أخرج ابن أبي شيبة عن عمر رضي الله عنه قال: «ما تعلَّم الرجل

الفارسية إلا خَبُثَ [٣٨] ، ولا خبث [٣٩] إلا نقصت مروءته» [٤٠] .

وأخرج عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه سمع قوماً يتكلمون

بالفارسية، فقال: «ما بال المجوسية بعد الحنيفية؟» [٤١] .

وأخرج عن عطاء قال: «لا تَعَلَّموا رطانة الأعاجم، ولا تدخلوا عليهم

كنائسهم؛ فإن السخط ينزل عليهم» [٤٢] .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه: «وأما اعتياد الخطاب بغير اللغة العربية

التي هي شعار الإسلام ولغة القرآن حتى يصير ذلك عادة للمِصْرِ وأهله، أو لأهل

الدار، أو للرجل مع صاحبه، أو لأهل السوق، أو للأمراء، أو لأهل الديوان، أو

لأهل الفقه، فلا ريب أن هذا مكروه؛ فإنه من التشبه بالأعاجم، وهو مكروه كما

تقدم» [٤٣] .

الثانية: أن يقع ذلك نادراً؛ فهذا أسهل من الأول لكن ينبغي أن يُجتنب.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.


(١) الاقتضاء، ١/٤٧٠.
(٢) ما بين الأقواس «» من كلام شيخ الإسلام في الاقتضاء، ١/٤٧٠ ٤٧١.
(٣) أي لا يعرف معناها.
(٤) أسماء لبعض الشهور في الفارسية.
(٥) أسماء لبعض الشهور في الفارسية.
(٦) نقلته بواسطة الاقتضاء، ١/ ٤٦١ ٤٦٢.
(٧) انظر: الاقتضاء، ١/٤٦٢.
(٨) السابق، ١/٤٦٢، وانظر نحوه، ص ٤٦٤.
(٩) السابق، ١/٤٦٢، وانظر نحوه، ص ٤٦٤.
(١٠) أخرج الطبراني في الكبير، ٦/٢١٨، أن سلمان رضي الله عنه أصاب جارية فقال لها بالفارسية: صلِّي قالت: لا، قال: اسجدي واحدة إلخ.
(١١) البخاري مع الفتح، ٦/١٨٣، والرِّطانة بكسر الراء ويجوز فتحها هو كلام غير العربي انظر: الفتح، ٦/١٨٤.
(١٢) البخاري في الجهاد باب من تكلم بالفارسية والرطانة، حديث رقم: (٣٠٧٠) ، ٦/١٨٣، وأورده في موضعين آخرين، حديث رقم: (٤١٠١، ٤١٠٢) .
(١٣) الفتح، ٦/١٨٤.
(١٤) المرجع السابق.
(١٥) البخاري في الجهاد، باب من تكلم بالفارسية والرطانة، حديث رقم: (٣٠٧١) ٦/١٨٣، وذكره في مواضع أُخرى، انظر الأحاديث رقم: (٣٨٧٤، ٥٨٢٣، ٥٨٤٥، ٥٩٩٣) .
(١٦) البخاري في الجهاد، باب من تكلم بالفارسية والرطانة، حديث رقم: (٣٠٧٢) ، وذكره في الزكاة، باب ما يُذكر في الصدقة للنبي صلى الله عليه وسلم حديث رقم: (١٤٩١) ٣/٣٥٤.
(١٧) انظر: الفتح، ٣/٣٥٥.
(١٨) المرجع السابق، ٦/١٨٥.
(١٩) مختصر تاريخ دمشق، ١٠/٢٩٧.
(٢٠) السير، ٤/١٠٣.
(٢١) مصنف ابن أبي شيبة، ٩/١٢.
(٢٢) هكذا في المطبوع وبعض المعاصرين يرجح أن صوابها: «نيزا» .
(٢٣) المصنف، ٩/١٢.
(٢٤) الجامع لأحكام القرآن، ١٢/٢١٨.
(٢٥) السابق، وذكره الذهبي في السير، ٨/٣٦٦.
(٢٦) وهو أبو صالح مولى أم هانئ.
(٢٧) نقله النسائي في الكبرى، ٢/٢٥٢.
(٢٨) الاقتضاء، ١/ ٤٦٨.
(٢٩) نقلته بواسطة الاقتضاء، ١/٤٦٥.
(٣٠) نقلته بواسطة الاقتضاء، ١/٤٦٥.
(٣١) وهو ما كان من قبيل الألفاظ المفردة.
(٣٢) قال الأصمعي: «ختم الشعر بإبراهيم بن هرمة، وهو آخر الحجج» تاريخ بغداد، ٦/١٣١ مختصر تاريخ دمشق، ٤/٨٧.
(٣٣) على خلاف مشهور بين أهل العلم في أصله، هل هو أعجمي فأخذته العرب، أو العكس، أو أنه مما توافقت فيه اللغات إلخ.
(٣٤) الاقتضاء، ١/ ٤٦٩ ٤٧٠.
(٣٥) لابن خلدون رحمه الله كلام مفيد في هذا الموضوع فراجعه إن شئت في المقدمة، ص ٣٧٩.
(٣٦) الإحكام، ١/٣١.
(٣٧) ما بين الأقواس «» من كلام شيخ الإسلام في الاقتضاء، ١/٤٦٣.
(٣٨) هكذا في المطبوع، ولعلها: خبَّ: أي صار مخادعاً.
(٣٩) هكذا في المطبوع، ولعلها: خبَّ: أي صار مخادعاً.
(٤٠) المصنف، ٩/١١.
(٤١) المصدر السابق.
(٤٢) المصدر السابق.
(٤٣) الاقتضاء، ١/٤٦٩.