للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ما أحلمك!]

رضا محمد فهمي

استيقظ من نومه على جرس منبهه الذي ضبطه قبل النوم.. أيقظ زميل غربته: حمد، حمد، هيا! هيا!

توضأ سعد، واستغرق وضوؤه فترة طويلة؛ فقد كان بحاجة إلى الحمام، والماء يتقطع من الصنبور.. لقد كان الماء في نهايته.

عاد سعد إلى غرفته ليهيئ نفسه لصلاة ركعتين اعتادهما، ولكن الوقت لم يسعفه؛ فلم يبقَ إلا القليل على إقامة الصلاة. وأثناء تصفيف شعره أمام المرآة أخذ ينشد:

أخيَّ توضأ وقم للصلاه

وصلِّ لربك تكسب رضاه

حمد.. حمد.. ستقام الصلاة الآن، أسِرع!

لبس ثوباً خصصه للصلاة يزيد طيبَه طيبُ سريرته، وانطلق إلى المسجد في لهفة ليحضر إقامة الصلاة فيه، وبالفعل؛ عندما قدّم رجله اليمنى داخل المسجد أقيمت الصلاة. لمح جمالاً وجميلاً في مكانهما الذي يغبطهما عليه خلف الإمام، ولكنه وجد ثغرة في الصف الأول فتقدم وسدّها.

وما إن كبَّر الإمام حتى سالت دموع الفرح على وجنتيه؛ حيث راجع فضل الله عليه إذ اختاره للصلاة ـ وأي صلاة؟! ـ صلاة الفجر في المسجد في الصف الأول يشهد مع المسلمين تكبيرة الإحرام.

نفض سعد رأسه مجاهداً نفسه؛ فقد كاد يسرح عن مناجاة مولاه بالسبع المثاني خلف الإمام، واستحضر قول ربه: حمدني عبدي، أثنى عليَّ عبدي، مجَّدني عبدي، هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل. ويزداد الدمع، ويقشعر البدن، ويستجمع قوى فكره: لا أعبد إلا أنت ولا أريد سواك.

وينتهي الإمام من الفاتحة ويؤَمِّن سعد مع الجماعة تأمين الخاشع الراجي هداية ربه، وتبتهج النفس ويُحسِنُ الظن عندما بدأ الإمام بالقرآن: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: ٢٨] .

يغالب سعد شرود ذهنه؛ فقد شغله حق صديقه عليه وكيف تركه محروماً من هذه النفحات، ويتذكر وكأنه لم يغلق صنبور المياه.. أخذ يغالب شروده ويجاهد نفسه في جمع جوانبها على تسبيحاته وتحميداته وتكبيراته وقراءة إمامه، وظل كذلك حتى سلم بعد تسليمة الإمام.

تردد سعد برهة: هل يأتي بركعتي السنة القبلية أم يقرأ القرآن؟ فقد عزم على أن يحوز فضل حجةٍ وعمرة تامتين؛ فاليوم عيده الأسبوعي.

وبالفعل صلّى الركعتين، ثم تابع بقراءة القرآن متنقلاً بين رياض ورده، لا يصرفه عنه صارف ولا يشغله عنه شاغل؛ فلم يبقَ في المسجد سوى أربعة.. كلٌ قد عقد عزمه على الغدوة والزاد. وتسمو الروح، وتخشع الجوارح، وتخفت الأضواء.. وإذا بالأيادي تُرفع مع لهث اللسان بالثناء على الحي القيوم الحنان المنان.

تغلق المصاحف، ويحسن الابتهال، وتبتل اللحى.. كل له شأنه وحاجته، ويستمر الدعاء ويستمر حتى يروي ظمأ الروح، وتسكن النفس، ويطمئن القلب، وينشرح الصدر.

يُنزِل سعد يديه، ويلمح الساعة تقترب من السادسة، وينظر حوله وكأنه قد رجع من رحلة المعراج.. فإذا بالمسجد قد خلا إلا منه، وآخر المصلين خرج لتوه.

وقف سعد يصلي ركعتي الضحى وهو يحتسب على الله أن يثبت أجره، وأن لا يحرمه غدوته هذه حتى الممات.

ويعود إلى غرفته.. فإذا بصديقه حمد ما زال نائماً؛ فيشفق عليه، ويستشعر تقصيره في حقه؛ حيث لم يجهد في إيقاظه؛ فأيقظه يعتذر له عن تقصيره في ذلك.

ولكن حمد يفاجئه: ولِم هذا الإزعاج؟! أليس اليوم يوم جمعة؟!

سعد: ولكن الصلاة..؟!

حمد: نحن نفزع إلى الصلاة كل يوم.. ألم تعلم أن لبدنك عليك حقاً؟!

سعد: نحن نفزع إلى الدوام ومعه الصلاة.. فهلا فزعنا اليوم للصلاة بدون الدوام؟! هلا فزعنا لصلاة الجماعة في المسجد بالصف الأول نشهد مع المسلمين تكبيرة الإحرام..؟! ألا إن المحروم حقاً من حُرِم!

يستلقي سعد على سريره يقلِّب فكره في جوامع كلمة - صلى الله عليه وسلم -: «ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه» ، «أثقل الصلاة على المنافقين الفجر والعشاء» ، «لو تعلمون ما في النداء والصف الأول ... » ، «من صلّى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله» .

ثم انتفض يفكر بصوت مسموع: ولكن هؤلاء إخوتي! هؤلاء صحبتي! كيف أنقذ إخواني؟ كيف أكرم خلاني؟!

وسرعان ما هدأ روعه وسكنت نفسه؛ حيث قرر أن يعلِّق هذه النصوص النبوية لوحات في المجمع السكني الذي يقطنه.

وذات يوم أكمل صديقه حمد صلاته ـ كعادته ـ بعد تسليمة الإمام ـ فنادراً ما كانت تفوته تسليمة الإمام ـ وأثناء عودته، ودون أن يناقشه أحد، أخذ يجادل نفسه التي بدأت تؤنبه: وما عليَّ إلا أن ألتزم السكينة والوقار.. فما أدرك أصلِّيه وما فاتني أتمه؟ أليس ذلك قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟!

وفي المدرسة، وفي الحصة الأولى، هيأ حمد طلابه لشرح درسه.. وقبيل النهاية طُرق الباب؛ وإذا حمد بطالب تبدو عليه السكينة والوقار، نظر إليه لحظة ثم سأله باستنكار: وماذا تفعل في ما فاتك من شرح أو استفهام؟!

ويجيب الطالب ببرود واسترخاء: لا عليك؛ ما أدرك أفهمه، وما فاتني أتمه بعدك إن شاء الله.

وهنا أخذ حمد ينظر إليه ولا يراه! إنه بفكره يراجع جداله وشريط حاله مع الصلاة، ولم يزد على قوله:

ما أحلمك عليَّ ربي! ما أحلمك!

أعاهدك ربي أن أزاحم جمالاً وجميلاً وسعداً في الصف الأول خلف الإمام.