للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[سياسة الرسول صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله]

(١ ــ ٢)

محمد بن شاكر الشريف

الدعوة إلى الله ـ تعالى ـ عبادة من أشرف العبادات، وعمل من أجل الأعمال لا يقوم به على وجهه الصحيح إلا أولو العزم من الرجال لما يكتنفه من مشاق ومسؤوليات وخاصة في زمان غربة الدين. والدعوة إلى الله مهمة رسل الله إلى الناس من لدن آدم ـ عليه السلام ـ إلى خاتم الأنبياء والمرسلين محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- الذين جعلهم الله ـ تعالى ـ واسطة بينه وبين خلقه يبلغون عنه شرعه إليهم، ويكفي في بيان شرف هذا العمل قوله ـ تعالى ـ: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: ٣٣]

أي: لا أحسن من ذلك على الإطلاق؛ لكن الدعوة عمل، والعمل لا يؤتي ثماره المرجوة منه إلا أن يؤدى على وجه من الإتقان والكمال، وهذا هو ما يحبه الله ـ تعالى ـ كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله ـ تعالى ـ يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه» (١) ، والإتقان في الدعوة أجلُّ وأخطر من أي عمل آخر؛ لأن الدعوة يعوَّل عليها في تحقيق الغاية من الخلق. قال ـ تعالى ـ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: ٥٦] فكان في عدم إتقان الدعوة والخطأ فيها سبيل من سبل الصد عن دين الله وهو ذنب جسيم. والمسلم في الدعوة إلى الله ـ تعالى ـ يقابل بيئات مختلفة، ويتعامل مع أصناف شتى من الناس في ظل ظروف متباينة؛ لذا كان المسلم في حاجة ماسة إلى المعرفة بسياسة الدعوة في دعوته الناس إلى دين ربهم العزيز الحميد، السياسةَ التي يكون هدفها العمل على تحقيق الغاية من الخلق بالطرق المناسبة لتحقيق الهدف في ظل مراعاة البيئات المتعددة وأصناف الناس والظروف المحيطة بالداعية والمدعو، وهذا هو الإصلاح الحقيقي الذي يعمد إلى تحقيق المقاصد الحميدة بأقصى قدر ممكن في ظل الأوضاع والظروف القائمة من غير أن تتدخل تلك الظروف أو الأوضاع فتحرف مسار المقاصد والأهداف؛ فإن السياسة الحقة هي عمل ما فيه الصلاح، ولذلك كانت دعوات الرسل جميعهم دعوة للإصلاح كما قال نبي الله شعيب عندما دعا قومه إلى توحيد الله وعبادته والالتزام بما شرعه لهم من الأحكام: {إنْ أُرِيدُ إلاَّ الإصْلاحَ} [هود: ٨٨] فالإصلاح هو منهج الرسل وأتباع الرسل، بعكس الإفساد الذي هو منهج المنافقين ومعارضي رسل الله رغم تبجحهم بزعم الصلاح. قال الله ـ تعالى ـ عن المنافقين: {وَإذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} [البقرة: ١١ - ١٢] . ومن هنا فإن الله ينهى عن طاعة المسرفين أصحاب الفساد في الأرض إذ يقول: {وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} [الشعراء: ١٥١ - ١٥٢] .

والإصلاح أمر حسن جميل تدركه النفوس بما أودع الله في فطرتها من حب الجمال والحسن؛ حتى إن الإنسان ليدركه قبل أن تصل إليه في ذلك شريعة. قال الرجل الذي هو من قوم موسى ـ عليه السلام ـ قبل أن تأتي موسى الرسالة: {إن تُرِيدُ إلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} [القصص: ١٩] ، ولا أحد أحسن في سلوك طريق السياسة النافعة أو الإصلاح من رسل الله الذين أرسلهم لقيادة العالمين في طريق الهداية والخير، وفي هذا المقال نستعرض بعضاً من الملامح العامة لأساليب وطرائق السياسة الشرعية التي اتبعها الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الدعوة إلى الله ـ تعالى ـ لتكون نبراساً للدعاة يقتفون أثرها، وينهجون على منوالها؛ فمن ذلك:

١ - مراعاة الظروف المحيطة وأحوال البيئة التي تتم فيها الدعوة: فينبغي على الداعية دراسة البيئة دراسة جيدة فيعرف عادات الناس وأخلاقهم ونقاط الضعف والقوة لديهم، كما يعلم عقائدهم وعباداتهم وما يتعلق بهم، حتى تكون خطواته الدعوية متناسقة مع تلك الأوضاع للحصول على أكبر قدر من النتائج الحسنة في الدعوة، وليس معنى ذلك الانحناء أمام هذه الظروف والأحوال وجعلها تعرض نفسها أو معطياتها على الدعوة، بحيث تؤثر في مضمون الدعوة بالتغيير أو التمييع، ولكن الداعية يتصرف مع مراعاة الظروف؛ فلا هو يستسلم لهذه الظروف ولا هو يغالبها ـ إذا كانت أكبر من استطاعته - فتغلبه، ولنأخذ المثال التطبيقي على ذلك من سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ فعندما أوحى الله إليه -صلى الله عليه وسلم- كانت البيئة المحيطة كلها بيئة شركية، فكانت مواجهته لهم في بادئ الأمر فيها نوع من المغالبة التي لا يستطيعها الإنسان بمفرده، هذا من جانب. ومن الجانب الآخر فقد يموت الداعية أو يُقتل قبل أن يتمكن من كسب أحد من الناس ليقوم بمهام الدعوة من بعده، وهذا قد يؤدي في النهاية إلى إحباط المشروع الدعوي برمته (١) ، كما أن الإذعان لهذا الواقع والاستسلام لضغوطه بحيث تكون مهمة الداعية إجراء بعض الترقيعات على الواقع والتي قد لا تؤثر كثيراً، كان في هذا أيضاً انحراف بالدعوة عن طريقها؛ فماذا فعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- إزاء ذلك الوضع؟

لقد سلك الرسول -صلى الله عليه وسلم- طريقاً وسطاً بحيث يحافظ على نقاء الدعوة وتوصيل الحق كاملاً غير منقوص، في الوقت الذي لا يغالب فيه الواقع الذي هو فوق الطاقة المحدودة للفرد؛ فقد لجأ الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى الدعوة الفردية السرية، فبدأ بدعوة من يأنس فيهم الرشد ورجاحة العقل في إدراك الحق، فحافظ بذلك على نقاء الدعوة مع أمنه من مضايقات المشركين ومغالبتهم له في أول الأمر، وليس في هذا تقصير من ناحية عدم تعميم الدعوة؛ لأن هذا القدر كان هو الممكن، وكان هذا من السياسة الحكيمة التي اتبعها الرسول -صلى الله عليه وسلم- في توصيل الدعوة وتبليغها، وبعض الناس لا يفطنون لذلك، فيريد أن يبلغ الشريعة كلها من غير نظر إلى ما حوله، فيصطدم بما يعوقه عن تحقيق قصده، وربما صرفه ذلك العجز عن الدعوة نهائياً، وهو إنما أُتي من عدم علمه بالسياسة الشرعية في الدعوة وظنه أن كل ما هو معلوم لديه ينبغي قوله وإذاعته.

ولشيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ كلام نفيس في ذلك عما ينبغي على العالم أن يقوم من البيان والتبليغ، فيقول رحمه الله ـ تعالى ـ: (فالعالم في البيان والبلاغ كذلك؛ قد يؤخر البيان والبلاغ لأشياء إلى وقت التمكن كما أخر الله ـ سبحانه ـ إنزال آيات وبيان أحكام إلى وقت تمكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تسليماً إلى بيانها؛ يبين حقيقة الحال في هذا أن الله يقول: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: ١٥] ، والحجة على العباد إنما تقوم بشيئين: بشرط التمكن من العلم بما أنزل الله، والقدرة على العمل به. فأما العاجز عن العلم كالمجنون أو العاجز عن العمل فلا أمر عليه ولا نهي، وإذا انقطع العلم ببعض الدين أو حصل العجز عن بعضه: كان ذلك في حق العاجز عن العلم أو العمل بقوله كمن انقطع عن العلم بجميع الدين أو عجز عن جميعه كالجنون مثلاً؛ وهذه أوقات الفترات؛ فإذا حصل من يقوم بالدين من العلماء أو الأمراء أو مجموعهما كان بيانه لما جاء به الرسول شيئاً فشيئاً بمنزلة بيان الرسول -صلى الله عليه وسلم- لما بعث به شيئاً فشيئاً؛ ومعلوم أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به، ولم تأت الشريعة جملة. كما يقال: إذا أردت أن تطاع فأمر بما يستطاع. فكذلك المجدد لدينه والمحيي لسنته لا يبلغ (٢) إلا ما أمكن علمه والعمل به؛ كما أن الداخل في الإسلام لا يمكن حين دخوله أن يُلقّن جميع شرائعه ويؤمر بها كلها. وكذلك التائب من الذنوب؛ والمتعلم والمسترشد لا يمكن في أول الأمر أن يؤمر بجميع الدين ويذكر له جميع العلم؛ فإنه لا يطيق ذلك وإذا لم يطقه لم يكن واجباً عليه في هذه الحال، وإذا لم يكن واجباً لم يكن للعالم والأمير أن يوجبه جميعه ابتداء، بل يعفو عن الأمر والنهي بما لا يمكن علمه وعمله إلى وقت الإمكان؛ كما عفا الرسول عما عفا عنه إلى وقت بيانه. ولا يكون ذلك من باب إقرار المحرمات وترك الأمر بالواجبات؛ لأن الوجوب والتحريم مشروط بإمكان العلم والعمل؛ وقد فرضنا انتفاء هذا الشرط. فتدبر هذا الأصل؛ فإنه نافع. ومن هنا يتبين سقوط كثير من هذه الأشياء وإن كانت واجبة أو محرمة في الأصل، لعدم إمكان البلاغ الذي تقوم به حجة الله في الوجوب أو التحريم؛ فإن العجز مُسقط للأمر والنهي وإن كان واجباً في الأصل. والله أعلم. ومما يدخل في هذه الأمور الاجتهادية علماً وعملاً أن ما قاله العالم أو الأمير أو فعله باجتهاد أو تقليد؛ فإذا لم يرَ العالم الآخر والأمير الآخر مثل رأي الأول فإنه لا يأمر به أو لا يأمر إلا بما يراه مصلحة، ولا ينهى عنه؛ إذ ليس له أن ينهى غيره عن اتباع اجتهاده، ولا أن يوجب عليه اتباعه؛ فهذه الأمور في حقه من الأعمال المعفوة لا يأمر بها ولا ينهى عنها، بل هي بين الإباحة والعفو. وهذا باب واسع جداً، فتدبره) (١) .

لكن الدعوة السرية الفردية التي اتبعها الرسول -صلى الله عليه وسلم- في أول الأمر، وإن كانت مهمة لمرحلة الابتداء أو شرطاً في النجاح والاستمرار، لكنها لا تصلح أن تكون منهجاً عاماً إلى آخر المدى؛ إذ لا يمكن لدعوة عالمية يرجى لها الذيوع والانتشار في مشارق الأرض ومغاربها أن تعتمد هذا الأسلوب فقط إلى النهاية؛ فإن في هذا إضعافاً شديداً للدعوة بل وأداً لها؛ لذلك فما أن استجاب لهذه الدعوة نفر من الصحابة الأجلاء، وخرجت الدعوة عن حيز الانحصار في شخص واحد بحيث يؤمَن من وأدها والقضاء عليها، وما أن وجد الرسول -صلى الله عليه وسلم- أعواناً على الدعوة حتى بادر إلى الأسلوب الآخر أسلوب الإعلان والبوح وإظهار الدعوة والجهر بها بين الناس رغم ما في ذلك من تعرض للأذى والمضايقات؛ إذ هذا الأسلوب هو الكفيل بنشر الدعوة وبلوغها للناس على نطاق واسع في زمن قليل جداً إذا قورن بزمن الأسلوب الأول، لكن ما أن جهر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالدعوة حتى عاداه المشركون وصدوا الناس عن دعوته، ولم يكن هذا في الحقيقة نتيجة لأمر عارض كطريقة عرض الدعوة مثلاً، ولكن كانت هذا المعارضة نتيجة تناقض حقيقي بين دعوة الإسلام ودعوة الشرك. فالإسلام قائم على عبادة الله وحده والعدل بين الناس، وأما الشرك فهو قائم على عبادة غير الله والعلو في الأرض بغير الحق، لكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعدما اطمأن على الدعوة ظل سائراً في طريقه لم يثنه عن ذلك ما ظهر من معارضة المشركين؛ لأن هذه المعارضة من طبيعة التناقض التام بين دعوة الحق ودعوة الباطل. وعلى الدعاة إلى الله ـ تعالى ـ على بصيرة أن يستفيدوا من هذه السياسة التي اتبعها الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الدعوة إلى الله تعالى؛ فعليهم أن يراعوا الظروف والأحوال في الدعوة مع الحذر من أمرين:

أحدهما: التفريط في مضمون الدعوة أو عرضها ناقصة أو مبتورة أو خلطها بأمور مخالفة بزعم ترويجها أو التخلص من بعض القيود.

وثانيهما: تعرض الدعوة للوأد أو القضاء عليها نتيجة للمغالبات التي تفوق طاقتهم. ومن البيِّن أن الأسلوب أو الطريقة التي تتبع في ذلك قد تختلف من زمان إلى زمان ومن مكان إلى آخر اعتماداً على أوضاع بيئة الدعوة وظروفها وإمكانات الدعاة وقوتهم.

ولا شك أن هناك أساليب كثيرة يمكن أن تتحقق بها الدعوة مع تفادي المحذورين المذكورين، ومن هذه الأساليب الأسلوب الذي اتبعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو من باب السياسة الشرعية وليس من قبيل التشريع الدائم الذي ينبغي على الدعاة اتباعه وسلوكه في جميع الظروف والأحوال.

٢ - مراعاة المصالح والمفاسد: الشريعة كلها مبناها على المصالح؛ فما أمرت به فهو المصلحة الخالصة أو الراجحة، وما نهت عنه فهو المفسدة الخالصة أو الراجحة. وإذا تعارضت المصالح والمفاسد في الأمر الواحد بحيث لا يخلو من أحدهما بل يجتمعان معاً؛ فإنه يقدم الأرجح منهما؛ فما كانت مصلحته أرجح من المفسدة عُمل به وعُوِّل عليه، وما كانت مفسدته أرجح من مصلحته تُرك ولم يعوَّل عليه. وقد بين الرسول -صلى الله عليه وسلم- هذه المراعاة في موقفه من أذى المشركين له ولأتباعه في مكة حينما جهر بدعوته؛ فقد بدأ المشركون في الصد عن دعوة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتحذير القادمين إلى مكة منه وحرصهم على ألا يجلس إليه أحد، كما بدؤوا في إيذاء المسلمين وإهانتهم وتعذيب الضعفاء منهم، وقد كان في ذلك ظلم شديد للمسلمين؛ والعربي نفسه أبية لا تحتمل الضيم ولا تقبله حتى قال قائلهم:

ولا يقيم على ضيم يُسام به إلا الأذلاَّن: عير الحي والوتدُ

هذا على الخسف مربوط برمته وذا يشح فلا يرثي له أحدُ

فكيف إذا انضاف إلى ذلك الإسلام؟ ورد الظلم وإباء الضيم مصلحة {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ} [الشورى: ٤١] . لكن كان في رد الظلم والانتصار للنفس في ذلك الظرف إلى جانب تلك المصلحة مفسدة كبيرة تربو عليها، فكانت السياسة الشرعية في ذلك الوقت منع المسلمين من الرد على المجتمع الجاهلي والأمر بالصبر واحتمال الأذى؛ فإن أحداً لا يدري في تلك الظروف مع قلة المسلمين وضعفهم وقوة المجتمع الجاهلي ماذا يمكن أن تسفر عنه المواجهات بين المسلمين وعدوهم؟ فقد تتمخض عن معركة كبيرة يفنى فيها المسلمون أو أكثرهم، أو قد تتدخل القبائل دفاعاً عن أبنائها (ولو كانوا مسلمين بدافع العصبية الجاهلية) مما يمكن أن تنشأ عنه ما يعرف بالحرب الأهلية مما لا يوفر ظروفاً مساعدة للدعوة، بل تتقوقع الدعوة في هذه الحالة وتنحصر أو غير ذلك من الاحتمالات التي تخسر فيها كل ما حققته من مكاسب، فكان احتمال الضيم على ما فيه من إيلام وقسوة على النفوس الأبية أهون شراً وأقل ضرراً من محاولة دفع الظلم، لكن هذه المراعاة للمصالح والمفاسد لا تتم مع الاستكانة والشعور بالمذلة أو التعرض للإبادة الكاملة، لكنها تكون مع الاستعلاء بالدين والشعور بالعزة، ولذلك كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- في هذه الأجواء وهو يأمر أصحابه بالصبر يبشرهم بالعز والنصر والتمكين ويقسم على ذلك؛ ففي حديث خباب بن الأرت أنه قال: «شكونا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة قلنا له: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا؟ قال: كان الرجل فيمن قبلكم يُحفر له في الأرض فيجعل فيه، فيُجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيُشق باثنتين وما يصده ذلك عن دينه، ويُمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب وما يصده ذلك عن دينه، واللهِ ليتمنَّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون» (١) .

وعلى ذلك فإن من السياسة الشرعية أن يراعي الدعاة والعاملون المصالح والمفاسد المترتبة على الأعمال والتصرفات؛ فإن العمل لا يكفي فيه أن يكون ظاهره مشروعاً إذا عُلم أنه يترتب عليه مفسدة أكبر من المصلحة التي يحققها، وهذا يدخل في القاعدة الفقهية المعروفة بـ (سد الذرائع) وهي أن العمل المشروع إذا كان ذريعة إلى مفسدة أكبر فإنه يمنع، ومما ينبغي ملاحظته في هذا الباب أن المصالح والمفاسد المترتبة على بعض الأعمال لا تظل أبد الدهر هكذا؛ فإن المصالح والمفاسد المترتبة على أوضاع تتغير بتغير تلك الأوضاع، ولذلك فإن المسلمين بعدما انتشرت دعوتهم وقويت شوكتهم أذن لهم في القتال، ثم أمروا به، ولم يعد الرد على المشركين مفسدة ينبغي لأجلها تحمل الظلم والسكوت عن مواجهته.

ونظراً لاتساع رقعة بلاد المسلمين اليوم فإن المصالح والمفاسد المرتبطة بالأوضاع تختلف من مكان لآخر لاختلاف الأوضاع فما يكون مفسدة في مكان قد لا يكون مفسدة في مكان آخر، وما يكون مصلحة في مكان قد لا يكون مصلحة قي مكان آخر، والمصلحة والمفسدة إنما تقاس بمعيار الشرع وليس بمعيار المكسب والخسارة المادية فقط؛ فقد دل غلامُ الأخدود الملكَ الكافر على كيفية قتله، وكان ذلك في ظاهره مفسدة لتمكين الكافر من التسلط على نفس مسلمة، ولكنه كان بمقياس الشرع مصلحة راجحة؛ لأن هذا التصرف كان سبباً ووسيلة إلى إحياء نفوس كثيرة بالإيمان، وكذلك إذا نزل الكافر الباغي المعتدي بأرض المسلمين؛ فإن التصدي له ومدافعته هو المصلحة وإن ترتب على ذلك مفسدة إهلاك للحرث والنسل؛ لأن تركه وعدم مدافعته يؤدي إلى إهلاك الدين الذي هو مقدم على الحرث والنسل، ثم هو بعد ذلك لن يحافظ على الحرث والنسل.

٣ - الحرص على هداية المدعوين أولاً: الداعية له هدف عظيم هو هداية الناس إلى دين الله وهذا هو ما يحرص عليه ويسعى في سبيل تحقيقه، ويلتمس له الوسائل والطرق المناسبة رغبة في إخراج الناس من الظلمات إلى النور للفوز برضا خالقهم، وليس همُّ الداعية محصوراً في إقامة الحجة على الناس وإن كان ذلك من مقتضيات دعوته؛ فعندما يكون همُّ الداعية إقامة الحجة وكفى فإنه لن يجتهد اجتهاد الحريص على هداية الناس؛ وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في دعوته حريصاً على هداية الناس وكان يبذل لهم كل ما يدعوهم إلى الاهتداء، ويحزنه حزناً شديداً عدم استجابة الناس للدعوة؛ حتى خاطبه ربه في ذلك وقال له: {وَلا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [آل عمران: ١٧٦] ، وقال: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف: ٦] ، وقال: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: ٣] باخع نفسك: أي مهلكها. فلم يكن همُّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- محصوراً في مجرد إقامة الحجة عليهم، بل كان همه الأكبر هو في قيادهم إلى الإيمان، وقد كان -صلى الله عليه وسلم- يسلك في ذلك كل طريق من شأنه أن يحقق مراده؛ وهذه عائشة ـ رضي الله عنها ـ زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- تخبرنا أنها قالت للنبي -صلى الله عليه وسلم-: «هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أُحُد؟ قال: لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة؛ إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي؛ فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني، فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال، فسلم عليَّ، ثم قال: يا محمد! فقال: ذلك فيما شئت؛ إن شئت أن أُطبق عليهم الأخشبين؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا» (١) .

وعلى ذلك فإن من السياسة الشرعية في الدعوة إلى الله ـ تعالى ـ أن تظهر من الداعية الرغبة الحقيقية والحرص على هداية الناس والتحسر على ما هم فيه من الضلال والبعد عن دين الله تعالى، ولا يكون موقفه منهم موقف المتشفي فيهم الذي وقف جهده وهمه على الإغلاظ عليهم، وهذه السياسة الشرعية في الحرص على هداية الناس ليست قاصرة على شريعتنا، بل هذا ما أوصى الله به موسى وأخاه هارون عندما أرسلهما لدعوة فرعون؛ إذ قال الله لهما: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: ٤٤] ؛ فالموقف موقف دعوة وترغيب في الهداية، فكان المناسب لذلك هو القول اللين الذي من شأنه أن يقود إلى الاستجابة. وأما الإغلاظ في القول والشدة في التصرف في هذه الحالة يكون مدعاة للنفور والاستكبار. وهذا نوح ـ عليه السلام ـ قال لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ} [نوح: ٣ - ٤] إلى أن يقول: {ثُمَّ إنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إسْرَارًا * فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا} [نوح: ٨ - ١١] ، كل ذلك حرصاً منه ورغبة في هدايتهم.

فالتماس الوسائل واتخاذ الطرق والأساليب المؤدية لذلك هو همُّ الدعاة الحقيقي. وبعد هذا الجهد الكبير فهناك من يشرح الله صدره ويهديه، ولكن مع ذلك تبقى بقية ظالمة فاجرة متكبرة لم يُرِدِ الله هدايتها؛ فإذا وصلت فئة إلى هذا الحد وانقطع أمل الداعية في رجوعهم للحق؛ فإن عليه أن يواجه الظالم الكفور بما يناسبه مع مراعاة ما تقدم ذكره من المصالح والمفاسد، وليس من السياسة الشرعية تركه والحالة هذه يتمادى في غيه ويزيد من شططه إذا لم تكن هناك مصلحة ترتجى من وراء ذلك، وقد قال الله ـ تعالى ـ في قصة موسى ـ عليه السلام ـ مع فرعون ـ لعنه الله ـ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إسْرَائِيلَ إذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إنِّي لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا} [الإسراء: ١٠١] ، فرد عليه موسى ـ عليه السلام ـ وقال له: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إلاَّ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء: ١٠٢] ، فبعد كل هذه الآيات البينات يلجُّ فرعون في غيه، ويرفض الإيمان، ويتهم موسى بالسحر؛ فما كان من موسى ـ عليه السلام ـ إلا أن واجهه بأنك تعلم يا فرعون علماً يقيناً أن هذا ليس بسحر وأن هذه آيات أنزلها رب السموات، ثم يتهدده بقوله: وإنك يا فرعون لأظنك مثبوراً أي هالكاً ممقوتاً ناقص العقل، فليس من السياسة الشرعية في الدعوة أن نقف أبد الدهر عند قوله ـ تعالى ـ: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا} [طه: ٤٤] ، وليس من السياسة أيضاً أن نبدأ الدعوة بـ {وَإنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء: ١٠٢] ، وإنما السياسة الحقة هي مقابلة كل موقف بما يناسبه ففي موقف الدعوة وقبل استحكام العناد يأتي قوله ـ تعالى ـ: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا} [طه: ٤٤] ، وفي موقف الجهاد والجِلاد يأتي قوله ـ تعالى ـ: {وَإنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء: ١٠٢] ، وقوله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التحريم: ٩] ، وقوله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة: ١٢٣] ، ومن ذلك هذا الذي نزل فيه قوله ـ تعالى ـ: {أَوَ لَمْ يَرَ الإنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: ٧٧ - ٧٨] ، قال قتادة: (ذُكِرَنا لنا أن أُبَيَّ بن خلف أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعظم حائلٍ، ففتَّه، ثم ذرَّاه في الريح، ثم قال: يا محمد! من يحيي هذا وهو رميم؟ قال: الله يحييه، ثم يميته، ثم يدخلك النار. قال: فقتله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد» (٢) ، فقابله الرسول -صلى الله عليه وسلم- بهذه الشدة في الجواب؛ فهذا الذي يناسب موقف المعاندين المتجبرين (يتبع) .

(١) صحيح الجامع، للألباني، رقم ١٨٨٠ وحسنه.

(١) قد كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- بتأييد من الله قادراً على القيام بذلك بمفرده، ولم يكن الله ليميت رسوله -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يكمل تبليغ رسالة ربه، لكن لما كان -صلى الله عليه وسلم- قدوة وأسوة للمسلمين فإنه يسلك الطريق الذي يكون في وسع كل مسلم سلوكه، الطريق الذي يعتمد على الأسباب لا على خوارق العادات؛ لأن هذه ليست في يد المسلم، بحيث يكون تقاعس المسلم عن سلوك ذلك السبيل تقصيراً يلام عليه، ولا يعني هذا أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يكن في هذه السياسة مؤيداً من الله وأنه كان يتصرف باجتهاده صرفاً، بل هو يجتهد في عمل الأصلح، والوحي يسدده في ذلك


(٢) كانت في الأصل: يبالغ، ولعله خطأ مطبعي.
(١) مجموع الفتاوى ٢٠/ ٥٩ - ٦١.
(١) أخرجه البخاري، كتاب المناقب، رقم ٣٣٤٣.
(١) أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، رقم ٢٩٩٢، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، رقم ٣٣٥٢. قرن الثعالب هو قرن المنازل ميقات أهل نجد. والأخشبان: جبلا مكة أبو قبيس والذي يقابله.
(٢) تفسير ابن جرير الطبري ٢٣/٣٠.