للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الإرهاب.. وما أدراك ما الإرهاب؟]

د. عثمان جمعة ضميرية

تكاثرت في الآونة الأخيرة الكتابات عن الإرهاب والإرهابيين، وتناول الكاتبون والباحثون والمحللون هذه الظاهرة من زوايا مختلفة، بأساليب شتى، ولأعراض متباينة.. تماماً كما تعوَّدنا أن نجد كل بضع سنوات اهتماماً بظاهرة أو مشكلة ـ حقيقية أو مصطنعة ـ تطفو على السطح وتُسخَّر من أجلها جيمع وسائل الإعلام ومنافذ النشر؛ فأحياناً يعيش العالم في حالة هوس بالمؤتمرات المحلية والإقليمية والدولية، تعقد هنا وهناك، وأحياناً أخرى نلحظ عناية بالحديث عن الاستنساخ والهندسة الوراثية، وفي مرحلة أخرى يعيش العالم في حمى الجمرة الخبيثة مقترناً بالإرهاب، ثم تناسى الناس، أو تناسى أصحاب المصلحة، الحديث عن الأولى، ولا يزال الاهتمام بالثانية (الإرهاب) يتنامى ويتعاظم؛ حيث يتعاظم تأثير الدعاية والإعلام والإعلان في هذا العصر؛ إذْ أصبح وسيلةً من وسائل الضعط على الرأي العام، وقوة خطيرة مؤثرة في الإقناع (١) .

كما أن دولاً ذات قوة ونفوذ في العالم، تحدوها مصالح خاصة، وأهداف غير خافية على المستبصرين والعاقلين، في استغلال هذا المصطلح ليكون وسيلة لها لتحقيق أهدافها ومطامعها.

(١)

وفي البداية: نلقي بعض الأضواء اللغوية على معنى هذه الكلمة وأصل اشتقاقها، لنصل بعد ذلك إلى تحديد المعنى الاصطلاحي لها والخلاف المنتشر حول ذلك؛ قبل الحكم على هذا المصطلح، أو الحكم له؛ لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره. وتزداد أهمية هذا التحديد للمصطلح ـ أياً كان ـ إذا وضعنا بالحسبان أن اللغة هي أداة التفكير والبيان، وهي وسيلة التفاهم والتخاطب بين الناس، كما أن الألفاظ التي ينطق بها الإنسان ويعبر بها عما في نفسه قد تختلف دلالتها ومعانيها، عندما تغدو مصطلحاً فنياً يشيع استعماله في علم من العلوم. وكل مصطلح علمي ينشأ في بيئة فكرية وحضارية تؤثر فيه، وتجعله ينطوي على اتجاهات عقلية وحضارية تتفق وشخصية البيئة والأمة وذاتيتها. وهذا كله يعطي دليلاً آخر على أهمية تحديد المصطلحات العلمية ومعانيها؛ لئلا يلتبس الأمر ويقع الخلط والفساد والخلاف في النظر والاستدلال.

وللإرهاب في جميع بلاد الله، وعند جميع خلقه، معنى محدود قارٌّ في حيزه من الإدراك، إلا في هذه الأيام، وعند حكومات الصليبيين الاستعمارية التي امتلأت حقداً على الإسلام والمسلمين، وعند الساسة المقلدين، فإن معناه غير محدود ولا مستقر، ويتسع إلى أقصى حدود الاتساع، فيحمل ما قارب وما باعد، وما جانس وما خالف، وما اطرد وما شذَّ، ويضيق إلى أقصى حدود الضيق، فتلتوي مسالكه وتنسد مجاريه، وتتهافت أقيسته، ولا يتبين فيه مورد من مصدر، كل ذلك بالتبع لأهواء الاستعمار المتباينة، وأهويته المتناوحة، والاستعمار كله رجس من عمل الشيطان، فغير غريب أن يكون من خصائصه تغيير الأوضاع والمعاني ليصحح لنفسه الألوهية المزورة إلى حين ... ويشبه هذا اللفظ (الإرهاب) ـ بسوء تصريف الاستعمار له ـ أن يصبح بلا معنى كالألفاظ المهملة؛ وكما جازف الاستعمار الصليبي سابقاً بكلمات كثيرة، كقوله: «عدو فرنسا» ، ... يرمي بها في كل اتجاه في غير هدف، ويَسِمُ بها كل من هبَّ ودبَّ ... فكان من آثار ذلك أن نبَّه الناس إلى عداوة فرنسا، وفتح لهم بما يردد من لفظها، وبما يبدع من أسبابها، أبواباً وطرائق ... كذلك جازف بكلمة الإرهاب.. يرمي بها حتى المصلين والحجاج والعاملين في مجال الإغاثة، فكان من آثار ذلك أن غمرت الناسَ موجةٌ مكتسحة من الكراهية والعداوة، ولا يجني الظالم إلا على نفسه، وإذا أراد الله خيراً بأمة جعل يقظتها على أيدي أعدائها (١) .

وإذا عدنا بالذاكرة إلى ما سبق عن تأثير الدعاية ووسائل الإعلام في الجمهور، وإلى القدرة والبراعة في تحسين ما تعارف الناس على تقبيحه، وبالعكس، فإنه يظهر بجلاء أهمية هذا التحديد والتعريف العلمي للمصطلح، وهو في أصله يعود إلى المعنى اللغوي للكلمة.

(٢)

ففي اللغات الأجنبية؛ أتت كلمة (الرهبة) من اللغة اللاتينية، وبعد أن ضربت بجذورها في لغات المجموعة اللاتينية، انتقلت فيما بعد إلى لغات أوروبية أخرى؛ فهي في اللغة الفرنسية (Terreur) ، وفي اللغة الإنجليزية (Terror) ، وقد عرّفها «قاموس المورد» بمعان تندرج في ثلاث مجموعات: الأولى: تنتظم المعاني الآتية: رُعب، فظاعة. وفي المجموعة الثانية: كلُّ ما يوقع الرعب في النفوس، ومظهر رهيب، ومصدر قلق، وشخص أو شيء مروع، وبخاصة طفل مزعج. وجاءت المعاني الآتية في المجموعة الثالثة: الإرهاب، وعهد الإرهاب.

وفيه أيضاً: (Terrorism) إرهاب، ذعر ناشئ عن الإرهاب. وكذلك: (Terrorist) الإرهابي. و (Terrorize) : يرهب، يروِّع، يكرهه على الإرهاب، أو يأمره به (٢) .

كما يعرِّف «قاموس أكسفورد للغة الإنجليزية» المصطلح على أنه: حكم من طريق التهديد كما وجهه ونفذه الحزب الموجود في السلطة في فرنسا أيام ثورة ١٧٨٩ ـ ١٧٩٤.

(٣)

وفي اللغة العربية: جاءت الراء والهاء والباء لتدل على أصلين: أحدهما يدلُّ على خوف، والآخر على دقةٍ في الشيء وخفةٍ فيه.

والذي يتصل بموضوعنا هو المعنى الأول؛ فيقال: (رَهِب) يَرْهَبُ ورُهْباً، ورَهْبَةً: خاف. و (رهَب فلاناً ورهّبه واسترهبَهُ) : خوّفه وفزّعه. و (استرهبه) أيضاً: استدعى رهبته حتى رهبه الناس. و (ترهّبه) : توعّده. و (الرّاهبة) : الحالة التي تُرهِب أي تُفْزع وتخوِّف.

و (ترهَّب الرَّاهبُ) : انقطع للعبادة في صومعته. و (الرَّاهِبُ) المتعبد في صومة من النصارى، يتخلى عن أشغال الدنيا وملاذّها، زاهداً فيها معتزلاً أهلها. ويجمع على (رُهْبَان) . وقد يكون الرهبان واحداً فيجمع على رهابين ورهابنة و (الرَّهْبَانيَّة والرَّهْبنة) : التخلي عن أشغال الدنيا وترك ملاذّها والزهد فيها والعزلة عن أهلها، وأصلها من الَّرهْبة، ثم صارت اسماً لما فضل عن المقدار وأفرط فيه. وقال ابن الأثير: الرَّهبانية منسوبة إلى الرهبنة بزيادة الألف. و (الإرْهابُ) : الإزعاج والإخافة، تقول: يَقْشَعِرُّ الإهاب إذا وقع منه الإرهاب. ومن المجاز قولهم: أرهب الإبل عن الحوض: ذادها عنه وطردها، و (أرهب عنه الناس بأسهُ ونجدته) . ويقال: «لم أرْهبْ بك» أي: لم أسْتربْ وقالت العرب: رَهَبُوتٌ خيرٌ من رَحَمُوتٍ. يعني: لأن تُرهَب خير من أن تُرحَم. أو لأن تُرهِب خير من أن تُرحم. والمعنيان متلاقيان (٣) .

(٤)

وفي القرآن الكريم: جاءت الكلمات المشتقة من (ر هـ ب) في اثني عشر موضعاً، بصيغة الفعل الماضي والمضارع والأمر والمصدر. وتدور حول معنى واحد هو المخافة من شيء. ولذلك قال الراغب الأصفهاني في كتابه «مفردات ألفاظ القرآن» : «الرَّهْبةُ والرُّهْبُ والرَّهَب: مخافة مع تحرُّزٍ واضطراب» (٤) .

وغالب استعمال الرهبة في القرآن الكريم إنما كان في الخوف من الله ـ تعالى ـ خشية له وفَرَقاً من عذابه، كما في قوله ـ تعالى ـ: {وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} [الأعراف: ١٥٤] ، أي يرهبون ربهم ويخشون عقابه، أو يرهبون ما يغضب ربهم من الشرك والمعاصي. وقوله ـ تعالى ـ: {يَا بَنِي إسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة: ٤٠] ، أي فاخشوني وحدي ولا تخشوا سواي. وقوله: {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إنَّمَا هُوَ إلَهٌ وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ} [النحل: ٥١] ، وقوله ـ تعالى ـ: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونُ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: ٩٠] . والمعنى أنهم يدعون ربهم في وقت تعبُّدهم، وهم بحال رغبةٍ ورجاءٍ وخوف في حالٍ واحدة؛ لأن الرَّغبة والرَّهبة متلازمان.

وفي بعض الآيات الكريمة جاءت الرَّهْبَة بمعنى الخوف الطبيعي أو الغريزي مما يخاف منه المرء، كما في قوله ـ تعالى ـ: {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [القصص: ٣٢] .

فقد أمر الله ـ تعالى ـ موسى ـ عليه السلام ـ أن يضم يده إلى صدره فيذهب عنه ما ناله من الخوف عند معاينة الحيّة (١) .

وفي بعضها الآخر جاء الحديث عن الرَّهبة والاسْتِرْهاب من شخصٍ لآخر، كما في قوله ـ تعالى ـ: {قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: ١١٦] أي أن سحرة فرعون لما ألقوا سحرهم صرفوا أعين الناس عن إدراك حقيقة ما فعلوه من التمويه والتخييل، وأرهبوهم وأفزعوهم (٢) .

وكذلك المنافقون يَرْهبون المسلمين أشدَّ من رهبتهم من الله؛ لأنهم لا يفقهون عظمة الله تعالى، كما قال الله ـ تعالى ـ عنهم: {لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [الحشر: ١٣] .

وفي آيات كريمة أخرى جاءت كلمة الرُّهبان والرَّهبانية على الترهُّب عند النصارى، وهو التعبُّد، وهو استعمال الرهبة. والرهبانية هي الغلوّ في تحمل التعبُّد، كما في قوله ـ تعالى ـ: {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: ٢٧] ، وقوله ـ: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة: ٨٢] .

وقوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا إلَهًا وَاحِدًا لاَّ إلَهَ إلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: ٣١] .

وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: ٣٤] .

تلكم هي الآيات القرآنية الكريمة التي وردت فيها الرهبة ومشتقاتها، وهذه هي المعاني والتفسير الذي قال به العلماء قديماً وحديثاً، وبقي بعد هذه الآيات آية كريمة واحدة في سورة الأنفال قد يتأولها بعضهم على وجه يحلو له أن يفهم منه معنى قريباً من المعاني التي ألبست لهذه الكلمة في الهجمة الشرسة على الإسلام والمسلمين باسم محاربة الإرهاب.

(٥)

فقد جاءت كلمة «تُرْهِبُون» في سياق الأمر بإعداد العُدة من السلاح ونحوه لتخويف الكفار والمنافقين، والذين نخاف خيانتهم وغدرهم ونقضهم للعهود والمواثيق. قال الله ـ تعالى ـ: {إنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ * فَإمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * وَإمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ * وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لا تُظْلَمُونَ} [الأنفال: ٥٥ - ٦٠] .

يقول شيخ المفسرين الإمام الطبري ـ رحمه الله ـ في تأويل الآية الأخيرة (تفسيرها) : «وأعدوا لهؤلاء الذين كفروا بربهم، الذين بينكم وبينهم عهد إذا خفتم خيانتهم وغدرهم، أيها المؤمنون بالله ورسوله. «ما استطعتم من قوة» يقول: ما أطقتم أن تعدوه لهم من الآلات التي تكون لكم عليهم، من السلاح والخيل «ترهبون به عدو الله وعدوكم» يقول: تخيفون بإعدادكم ذلك عدو الله وعدوكم من المشركين ... » . ونقل ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ في تفسير قوله ـ تعالى ـ: «ترهبون به» قال: تخزون به عدو الله وعدوكم ... » (٣) .

وقال عبد الحق بن عطية الأندلسي في تفسيره: «المخاطبة في هذه الآية لجميع المؤمنين، والضمير في قوله ـ تعالى ـ: (لهم) عائد على الذين ينبذ إليهم العهد، أو على الذين لا يعجزون ـ على تأويل من تأول ذلك في الدنيا ـ ويحتمل أن يعود على جميع الكفار المأمور بحربهم في ذلك الوقت، ثم استمرت الآية في الأمة عامة؛ إذ الأمر قد توجه بحرب جميع الكفار» (٤) .

(٦)

والذي نخلص إليه في سياق الآيات الكريمة وما تتضمنه من أحكام وتشريعات:

- أن الذين يعاهدون المسلمين، ثم يخلفون عهدهم معهم هم شر الدواب، ومن ثم ينبغي أن يؤدبهم المعسكر الإسلامي تأديباً يلحظ فيه الإرهاب الذي يشردهم ويشرد من وراءهم ممن تراودهم نية نقض العهد أو نية مهاجمة المعسكر الإسلامي.

- أن المعاهدين الذين تخشى القيادة الإسلامية منهم نقض العهد والخيانة، فإن لهذه القيادة أن تنبذ إليهم عهدهم، وتعلنهم بإلغائه، ومن ثم يصبح في حل من قتالهم وتأديبهم وإرهاب مَنْ وراءهم من أمثالهم.

- أنه يجب على المعسكر الإسلامي إعداد العدة دائماً، واستكمال القوة بأقصى الحدود الممكنة؛ لتكون القوة المهتدية هي القوة العليا في الأرض، التي ترهبها جميع القوى المبطلة، والتي تتسامع بها هذه القوى في أرجاء الأرض؛ فتهاب أولاً أن تهاجم دار الإسلام، وتستسلم كذلك لسلطات الله، فلا تمنع داعية إلى الإسلام في أرضها من الدعوة، ولا تصد أحداً من أهلها عن الاستجابة، ولا تدعي حق الحاكمية وتعبيد الناس، حتى يكون الدين كله لله (١) .

(٧)

وجدير بالذكر هنا: التأكيد على هذا الحكم الأخير والحكمة التي تتضمنه؛ لأنه يلقي ضوءاً على موضوعنا، ويبدد كثيراً من الشبهات: «فأما حدود التكليف بإعداد القوة فهي حدود الطاقة إلى أقصاها؛ بحيث لا تقعد الأمة المسلمة عن سبب من أسباب القوة يدخل في طاقتها. كذلك يشير النص إلى الغرض الأول من إعداد القوة ـ: {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: ٦٠] . فهو إلقاء الرعب والرهبة في قلوب أعداء الله الذين هم أعداء العصبة المسلمة في الأرض الظاهرين منهم الذين يعلمهم المسلمون؛ ومَنْ وراءهم ممن لا يعرفونهم، أو لم يجهروا لهم بالعداوة، والله يعلم سرائرهم وحقائقهم. وهؤلاء ترهبهم قوة الإسلام ولو لم تمتد بالفعل إليهم. والمسلمون مكلفون أن يكونوا أقوياء، وأن يحشدوا ما يستطيعون من أسباب القوة ليكونوا مرهوبين في الأرض؛ ولتكون كلمة الله هي العليا، وليكون الدين كله لله» (٢) .

(٨)

وفي الحديث النيوي الشريف: إذا رجعنا إلى أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - في كتب السنة المشهورة «كالصحيحين، والسنن الأربعة، وموطأ مالك، ومسند أحمد، وسنن الدارمي» ، نجد أن مادة «ر هـ ب» جاءت في أكثر من عشرين موضعاً بصيغة الفعل الماضي المجرد والمزيد، والمضارع كذلك، وبصيغة اسم الفاعل والمفعول، وبصيغة المصدر إلخ ... وكلها تشير إلى الخوف والفزع من الله تعالى، وإلى التعبد. وبعضها يشير إلى معانٍ أخرى، كما تقدم آنفاً في معنى هذه الكلمة في القرآن الكريم.

فمن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الدعاء الذي رواه البخاري ومسلم في «صحيحيهما» ، عن البراء بن عازب: « ... اللهمّ أسلمت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك» الرهبة: الخوف والفزع. أي خوفاً من عقابك وطمعاً في ثوابك. وقد وردت جملة أحاديث في هذا المعنى.

ومنه أيضاً ما يعني التعبد؛ كما في حديث أبي سعيد الخدري، فيما رواه الإمام أحمد وأبو يعلى: «عليك بالجهاد؛ فإنه رهبانية الإسلام» ، وفي حديث سعد بين أبي وقاص الذي رواه الدارمي: «إني أومر بالرهبانية» ، وفيما هو مشتهر على الألسنة أنه «لا رهبانية في الإسلام» ، هي رهبنة النصارى ـ كما تقدم ـ بالتخلي عن أشغال الدنيا وترك ملاذِّها، والزهد فيها، والعزلة عن أهلها، وتعمد مشاقها، حتى إن منهم من كان يخصي نفسه، ويضع السلسلة في عنقه، وغير ذلك من أنواع التعذيب، فنفاها النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإسلام، ونهى المسلمين عنها؛ ففي الإسلام لا عمل أفضل من الجهاد، ولهذا قال: «ذروة سنام الإسلام الجهاد» (٣) .

ومن معاني الرهبة التي جاءت في بعض الأحاديث: الخوف الذي يمنع المرء من عملٍ أو قول، كما في حديث أبي سعد الخدري، فيما رواه الإمام أحمد وأبو يعلى والطبراني بإسناد صحيح: «ألا لا يمنعنَّ أحدَكم رهبةُ الناس أن يقول بحق إذا رآه أو شهده» . وجاءت الرهبة أيضاً في الأحاديث بمعنى الحالة التي تُرهب، وبمعنى الرهابة التي هي عضو كاللسان معلق في أسفل الصدر كما تتقدم في المبحث اللغوي للكلمة.

وليس في هذه الأحاديث أي إشارة إلى شيء من المعاني التي يُلبسُها الناس اليوم لهذه الكلمة، أو يسقطونها عليها، عندما يستعملونها بصيغة (الإرهاب) التي لا نجد لها أي ذكر في القرآن الكريم، ولا في الحديث الصحيح أو غير الصحيح، كما أن كتب اللغة تكاد تخلو من هذه الصيغة التي لم تشتهر وتدرج على الألسنة والأقلام إلا في الآونة الأخيرة، وفي أعقاب وقائع وحوادث معينة. ولذك يجدر التأكيد على الفرق الكبير بين المعنى اللغوي والقرآني للكلمة وبين المعنى السياسي والاجتماعي المأخوذ عن اللغات الأجنبية والذي يمتد إلى عصر الثورة الفرنسية وما حدث فيها.

(٩)

وقبل ذلك نقف وقفة أخرى عند الآية الكريمة السابقة لنتبين المعنى الحقيقي الذي تدل عليه في السياق، وأهمية التفريق بين هذا المعنى في الردع، وبين ما يريدونه من معنى الإرهاب.

يأمر الله ـ تعالى ـ بإعداد القوة والاستعداد بدرجة قصوى ليكون ذلك سبباً لردع الأعداء وإرهابهم قبل وقوع الحرب والقتال، فهي وسيلة لمنع الحرب من باب قول العرب: (القتل أنفى للقتل) . وتعتبر نظرية الردع مفتاح الاستراتيجية المعاصرة التي وصل إليها الفكر العسكري العالمي بعد معاناة قاسية وطويلة في حروب طاحنة اكتوى العالم بنارها خلال الحربين العالميتين، ثم وجد أخيراً الوسيلة لمنع وقوع مثل هذه المآسي، وهي استراتيجية الردع (١) .

وهذه النظرية هي أول نظرية حربية في الإسلام منذ خمسة عشر قرناً، أرساها القرآن الكريم وأوضح معانيها النبي - صلى الله عليه وسلم - في كثير من الأحاديث، وتناولها العلماء بالبحث بأسلوب يتفق مع العصر الذي يعيشون فيه.

والغاية من ذلك الاستعداد هو الردع الذي يمنع الحرب؛ فقد أمر الله ـ تعالى ـ المؤمنين بإعداد السلاح وأدوات القتال ووسائله، والاستعداد بكل أنواعه قبل القتال إرهاباً للعدو وردعاً له بما يمنعه من التفكير في الاعتداء على المسلمين، فقال ـ سبحانه وتعالى ـ: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لا تُظْلَمُونَ}

[الأنفال: ٦٠] .

وأخرج البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «أُعطيتُ خمساً لم يُعطهن أحد قبلي ... ونُصرت بالرُّعب مسيرة شهر» .

(١٠)

خصائص نظرية الردع الإسلامي: وإنما ينبغي الإشارة إلى أنه لا بد من التأكيد على ما تتميز به استراتيجية الردع الإسلامي من نوايا سامية. فالمعروف أن نظرية الردع المعاصرة ظهرت وارتبطت «بالتوازن النووي» ؛ فطالما كان هناك بين القوتين العظميين في القوى النووية، فإن احتمال قيام الحرب بينهما يكون بعيداً جداً بسبب قدرة كل جانب على الرد والانتقام إذا وجهت إليه الضربة المدمرة أولاً. لكننا لو تصورنا أن إحدى القوتين تمكنت من إحراز تفوق ساحق على الأخرى بحيث يختل التوازن ـ وهذا أمر وارد تماماً ـ فالمتوقع أن تندلع الحرب النووية فوراً بالنظر إلى ما يسود العلاقات الدولية من توتر وتناقضات في المصالح.

أما الأمة الإسلامية فإنها إذا تملكت القوة المتفوقة على أعدائها حتى يصبح ميزان القوى في صالحها فإن ذلك لا يغريها باستخدام تلك القوة ضدهم ما داموا ممتنعين عن العدوان عليها؛ فهي لا تتعدى حدود الردع ما دام يحقق هدفه، وهو إخافة العدو ومنعه من استخدام القوة. وهذا كله يقفُنا على المعنى الحقيقي لكلمة (ترهبون) ويبيّن أن الردع هو غاية الإرهاب للأعداء، وبذلك نتجنب شرور الحروب والفتن، ومن ثم فإن الاستعداد والردع أساليب وقائية من الحروب. وفي الحديث الصحيح: «لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، وإذا لقيتموهم فاصبروا» (٢) .

(١١)

وأما في الاجتهاد الفقهي المعاصر: فقد أصدر مجمع الفقه الإسلامي بتاريخ ١٠/١/٢٠٠١ بياناً عن الإرهاب في أعقاب الحوادث الأخيرة، حدد فيه معناه فقال: «الإرهاب هو العدوان الذي يمارسه أفراد أو جماعات أو دول، بغياً على الإنسان (دينه، دمه، ماله، عقله، عرضه) ويشمل صنوف التخويف والأذى والتهديد والقتل بغير حق وما يتصل بصور الحرابة، وإخافة السبيل، وقطع الطريق، وكل فعل من أفعال العنف أو التهديد يقع تنفيذاً لمشروع إجرامي فردي أو جماعي، ويهدف إلى إلقاء الرعب بين الناس أو ترويعهم بإيذائهم أو تعريض حياتهم أو حريتهم أو أموالهم للخطر؛ فكل هذا من صور الفساد في الأرض. قال تعالى ـ: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: ٧٧] . والإرهاب هو بغي بغير حق، وقال ـ تعالى ـ: {قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: ٣٣] .

(١٢)

وفي منتصف القرن العشرين الميلادي: بدأت كلمة (الإرهاب) في الظهور والانتشار في الكتابات السياسية والقانونية والاجتماعية، ثم انبرى مؤلفون وكتّاب غربيون وأخذوا على عاتقهم نشرها والتركيز عليها في كتب ومؤلفات قائمة برأسها تدرس هذه الظاهرة الجديدة، وتنامت الدراسات حولها في السبعينيات من القرن الماضي، ووصلت إلى ذروتها في بداية القرن الحادي والعشرين. وكان للقوة الإعلامية ووسائل الاتصال الحديثة، والهيمنة السياسية والفكرية لبعض الدول الغربية أثر كبير في الاهتمام بذلك وبخاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) عام ٢٠٠١م، وكان قد سبق ذلك ألوان من الاهتمام بها، فعقدت المؤتمرات الإقليمية والدولية، وصدرت قرارات من الجمعية العامة للأمم المتحدة، وأنشئت معاهد ومؤسسات لدراسة الإرهاب وطرق مكافحته، وصدرت كتب وبحوث ومجلات ودوريات متخصصة بدراسة هذه الظاهرة.

وعلى الرغم من كثرة الدراسات والمؤتمرات، وعلى الرغم من البحث والتنقير والفحص والتعمق والاهتمام الكبير بهذه الظاهرة، إلا أن الغموض لا يزال يلفُّها، والضباب يضرب ستاراً كثيفاً حول معناها، فالتبس الأمر على الناس وأشكل، واشتبه واختلط حتى استُبهم واستُغلق، وأصبح وأمسى دون أن ينكشف المعنى ويستبين، ولم ينجَلِ الصبحُ لذي عينين!

(١٣)

وما أظن كاتباً أو باحثاً تناول الإرهاب بالدراسة إلا وقد رفع عقيرته بالشكوى من هذا الغموض. وفي هذا يقول أستاذنا الدكتور محمد عزيز شكري (عميد كلية الحقوق بجامعة دمشق، وأستاذ القانون الدولي العام فيها) : «ومع ذلك تجب الإشارة هنا إلى أن هذه الجهود المتضافرة من جميع الجهات قد أخفقت ليس في استئصال شأفة الإرهاب فحسب، وإنما أخفقت أيضاً في تحديد هذا «المفهوم الغامض» أيضاً. ولم يقل لنا أحدٌ أبداً، بأية درجة من الوضوح أو اليقين: ما هو الإرهاب فعلاً، أو ما هي أشكال الإرهاب حقيقة، أو لماذا يعتبر الإرهاب سياسياً على وجه الحصر؟ كما أن أحداً لم يقل لنا: لماذا يعتبر الإرهاب السياسي، والذي يبدو أنه بالغ الأهيمة، متساوياً مع الإرهاب عبر الدول» (١) .

وإذا عرفنا أن مؤلفاً قانونياً عرض في كتاب له عن «الإرهاب السياسي» مائة تعريف وتسعة تعريفات من وضع علماء متنوعين في جميع فروع العلموم الاجتماعية بما في ذلك علم القانون، إذا عرفنا هذا تبين لنا صعوبة وضع تعريف جامع مانع ـ كما يقول علماء المنطق ـ وقد أصدرت وزارة الخارجية الأمريكية نشرة لها عن الإرهاب في ٣٠ إبريل ٢٠٠١م أقرت فيه أنه لا يوجد تعريف نال الاعتراف العالمي. وكان تعريف الإرهاب في النشرة الأمريكية هو التالي: «الإرهاب يعني عنفاً بدافع سياسي يرتكب ضد غير المنازعين أو غير المخاصمين، موجه بواسطة مجموعات قومية، أو وكلاء خائنين، وهذا العنف عادة ما يهدف إلى التأثير على مستقبليه» (٢) .

ولذلك فإن عرض تعريفات الإرهاب بكل اتجاهاتها أمر يطول دون فائدة، ويكفي أن ننقل بعضاً منها من مصادر معتمدة في بابها. ففي «معجم العلوم الاجتماعية» الذي أعده نخبة من الأساتذة المصريين والعرب نجد أن «الإرهاب لغة هو إحداث الخوف والرعب، وهو قانوناً حين يقرن بالحكم فيقال: «حكم الإرهاب» ، يعني استناده إلى وسائل قاسية تكفل بثَّ الرعب في نفوس المحكومين، ولا ترعى الأحكام والضمانات القانونية لمن يقع ضحية الإرهاب، بل دون التمييز العادل بين اتهام وآخر على شاكلة «انجُ سعد؛ فقد هلك سعيد» !

وفي «الموسوعة العربية العالمية» ـ وهي بنت الموسوعة العالمية الأمريكية ـ «الإرهاب: استخدام العنف أو التهديد به لإثارة الخوف والذعر. ويعمل الإرهابيون على قتل الناس أو اختطافهم، كما يقومون بتفجير القنابل واختطاف الطائرات وإشعال النيران وارتكاب غير ذلك من الجرائم الخطيرة. غير أن أهداف الإرهابيين عامة أهداف تختلف عن أهداف المجرمين المعروفين الذين يرتكب معظمهم جريمته بغية الحصول على المال أو غير ذلك من الفوائد الشخصية الأخرى، كما أن معظم الإرهابيين يرتكبون جرائمهم لدعم أهداف سياسية معينة» .

وبأوسع من هذا التعريف جاء في «موسوعة السياسة» إصدار المؤسسة العربية للدراسات والنشر «الإرهاب: استخدام العنف غير القانوني أو التهديد به بأشكاله المختلفة، كالاغتيال والتشويه والتعذيب والتخريب والنسف، بغية تحقيق هدف سياسي معين، مثل كسر روح المقاومة والالتزام عند الأفراد، وهدم المعنويات عند الهيئات والمؤسسات، أو كوسيلة من وسائل الحصول على معلومات أو مال، وبشكل عام: استخدام الإكراه لإخضاع طرف مناوئ لمشيئة الجهة الإرهابية. والإرهاب وسيلة تلجأ إليها بعض الحركات الثورية، كما تلجأ بعض حركات الثورة المضادة، كما تستخدمها بعض الحكومات وهيئات المعارضة على حدّ سواء..» .

ويؤكد أستاذنا الدكتور محمد عزيز شكري أن الإرهاب هو في أساسه معيار سلوك اجتماعي سياسي يحاول الوصول إلى «مركز حقوقي» معين في ميدان القانون. وينقل شكوى بعض رجال القانون من أن «الرهبة والإرهاب كلمتان لا تشيران إلى مجموعة من الحوادث الواقعية المعرَّفة جيداً والمحددة بوضوح. كما أنه ليس لهاتين الكلمتين معنىً مقبول على نطاق واسع في الفقه القانوني. ونتيجة لذلك: فإن كلمتي الرهبة والإرهاب لا تشيران إلى مفهوم موحد، سواء كان ذلك في مجال الواقع أم في مجال القانون» بل إن القاضي «باكستر» كان أكثر صراحة حيث قضى بأنه «لدينا سبب يدعونا لإبداء الأسف؛ لأن مفهوماً قانونياً للإرهاب يُفرض علينا في وقت من الأوقات. فالمصطلح تعوزه الدقه، كما أنه غامض، والأهم من ذلك كله أنه لا يخدم غرضاً قانونياً فاعلاً» .

(١٤)

وعندما تتعدد المعايير والموازين، وعندما تسود سياسة الكيل بمكيالين يمكن أن يكون العمل أو التصرف إرهاباً في حال أو وقت، ومن شخص دون آخر، ولذلك يقول بعضهم: «فعند مرحلة ما في هذا الاستعمال الآخذ بالتوسع للمصطلح ـ يمكن لمصطلح الإرهاب أن يعني فقط ما يريد منه أولئك الذين يستعملونه أن يعينه.. أيُّ عمل من أعمال العنف تقريباً يُقدِم عليه أيُّ خصم» . أو حسب تعبير القانوني الشهير «جنكينز» : الإرهاب هو ما يفعله الأشخاص السّيئون» .

ومن باب الإقرار بالواقع إذن أصبح الإرهاب أيضاً ليس له مضمون قانوني دقيق، أو أنه لا يوجد له تعريف قانوني أو سياسي مقبول بوجه عام. ولذلك قام بعض القانونيين بوضع تعريف للإرهاب؛ لأن الإشارة إلى الإرهاب دون فهم واضح لمعنى المصطلح ونطاقه هو أمر مضلِّل، وقد قام بذلك الأستاذ «شريف بسيوني» ، وهو أحد روَّاد علم القانون في حقل الإرهاب، وقد قال بتعريفه أيضاً خبراء آخرون وقبلته لجنة الخبراء الإقليميين في فيينا التي نظمتها الأمم المتحدة عام ١٩٨٨م، فقال: «الإرهاب هو استراتيجية عنف محرم دولياً، تحفزها بواعث عقائدية (إيديولوجية) ، وتتوخى إحداث عنف مرعب داخل شريحة خاصة من مجتمع معين لتحقيق الوصول إلى السلطة أو للقيام بدعاية لمطلب أو لمنظمة، بغض النظر عما إذا كان مقترفو العنف يعملون من أجل أنفسهم ونيابة عنهم أم نيابة عن دولة من الدول» .

ويعلِّق الأستاذ الدكتور محمد شكري على هذا التعريف بقوله: إنه قد لا يسر دولاً معينة وجوقتها من رجال القانون. ولكنه يستحق التفكير فيه بصورة إيجابية كمعيار مقترح للحكم على ظاهرة الإرهاب هذه التي جرى تضخيمها إلى أبعد الحدود. ثم يقول:

وكان انعدام الموضوعية القانونية سبباً في أن تُقدَّم حكومة الولايات المتحدة تعريفات متنوعة، كما كان باعثاً لها على الوقوف في وجه أي تعريف مقبول عموماً على الساحة الدولية. وعلى سبيل المثال: فقد أماط «روبرت فريد لاندر» اللثام عن أنه: طيلة فترة عهد إدارة (ريغان) التي جعلت من مكافحة الإرهاب حجر الزاوية في سياستها الخارجية منذ اليوم الأول للإدارة في الحكم، كان موقف وزارة العدل، ومكتب التحقيقات الفيدرالي، ومكتب المستشار القانوني في وزارة الخارجية موقف المعارض بشدة لإدخال أي تعريف للإرهاب، محلياً أو دولياً في صلب القانون. وقد تم إنشاء هذا الموقف للولايات المتحدة على نحو آخر من قِبَل السناتور «أورين ج. هاتش» ؛ إذ اعترف بكل صراحة أن وزارته لم تكن راغبة في تطوير تعريف للإرهاب. هذا رغم أنه هو نفسه اعترف أن القانون القابل للتطبيق على الإرهاب ليس ناقصاً فحسب، وإنما هو منحرف أيضاً.

كذلك فإن ممارسات الدول الأكثر قوة مثل الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة و (إسرائيل) هي التي تجعل وضع أي تعريف للإرهاب أمراً غير ممكن. فطبقاً لممارسة الولايات المتحدة مثلاًِ، يعني الإرهاب أي عنف مثير للرهبة يرتكب من غير مواطني الولايات المتحدة، أو من أجنبي غير مقيم بشكل دائم في الولايات المتحدة، أو يرتكب ضد أحد مواطني الولايات المتحدة، أو ضد أي أجنبي مقيم فيها بشكل دائم. وبطريقة مشابهة استعملت السلطات البريطانية «مصطلح الإرهاب» ليطبق عملياً على أي عنف تحركه بواعث سياسية مما ينطبق عليه قانون إيرلندا الشمالية. وفي إسرائيل يبدو أن هذا المصطلح يطبق عملياً على أي نشاط يقوم به الفلسطينيون دون أي معيار آخر؛ والذي يجري في هذه الأيام على الأرض التي بارك الله ـ تعالى ـ حولها شاهد ودليل صادق.

(١٥)

وتكمن المشكلة الرئيسة في تعريف الإرهاب بدرجة معينة من الوضوح والدقة في أنه كان حتى الآن «جملة من الأفعال التي جرَّمتها القوانين الوطنية لمعظم الدول إضافة إلى أفعال معينة جرّمتها اتفاقيات دولية على وجه التخصيص. وهذا خلافاً لما عليه الحال في القانون الدولي؛ حيث يبدو الإرهاب مجرد تسمية أو مظلة ينضوي تحتها عدد من الجرائم المعرَّفة تماماً كخطف الطائرات، وأخذ الرهائن، والهجوم على الممتلكات والشخصيات المتمتعة بحماية دولية، والاستعمار غير المشروع للبريد، وما شابهها من أعمال. وهناك جرائم أخرى تستحق شجباً أكثر مثل: إبادة الجنس والفصل العنصري (التفرقة العنصرية) والعدوان والتهديد النووي.. وهذه الأعمال الإرهابية في نظر القانون الدولي عقدت من أجلها مؤتمرات واتفاقيات ولكن الدول التي تدعي اليوم محاربة الإرهاب وتجعل من نفسها حامية لحقوق الإنسان هي نفسها لم تصدِّق على الاتفاقيات المتعلقة بذلك وصوَّتت ضدّها. والذي وافقت عليه من هذه الاتفاقيات الدولية عادت لنقضه من طرف واحد، فكانوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً، وهذا هو الذي حذّر الله ـ تعالى ـ منه قبل خمسة عشر قرناً من الزمن، وقبل أن يكون للعالم ملهاة أو مشغلة من المنظمات الدولية المتآمرة على المسلمين وقضاياهم، أو الواقعة تحت هيمنة الدول المتآمرة. قال الله ـ تعالى ـ: {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إذَا عَاهَدتُّمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [النحل: ٩٠ - ٩٢] .


(*) عضو هيئة التدريس في جامعة أم القرى، فرع الطائف.
(١) اقرأ ـ إن شئت ـ «العلاقات الدولية» تأليف البروفيسور جوزيف فرانكل، ترجمة الدكتور غازي القصيبي، «أساليب الإقناع وغسيل الدماغ» تأليف جي إي براون، ترجمه بتصرف: الدكتور عبد اللطيف خياط، دار الهدى بالرياض، ١٤٠٨هـ.
(١) من كلمة عن لفظ الاستعمار للشيخ محمد البشير الإبراهيمي، رحمة الله، بتصرف قليل. انظر كتابه «عيون البصائر» ، ص (٣٨) .
(٢) «المورد: قاموس عربي إنجليزي، لمنير البعلبكي، ص (٩٦٠) ، دار العلم للملايين، ١٩٩٤م.
(٣) انظر: «معجم مقاييس اللغة» : ٢/٤٤٧، «تهذيب اللغة» : ٦/٢٦٠، «الصالح» : ١/٤٠، «أساس البلاغة» : ١/٣٨٥، «تاج العروس» : ٢/٥٣٧ ـ ٥٤٢، «النهاية في غريب الحديث والأثر» : ١/٢٨٠ ـ ٢٨١، «ديوان الأدب» : ٢/٧٩، «المعجم الوسيط» : ١/٣٧٦ ـ ٣٧٧.
(٤) «مفردات ألفاظ القرآن» ، ص (٣٦٦ ـ ٣٦٧) وانظر: «عمدة الحافظ» للسمين الحلبي، ص (٢١١ ـ ٢١٢) .
(١) هذا مروي عن ابن عباس، وفي الآيات تفسيرات أخرى. انظر: «تفسير البغوي» : ٦/٢٠٦ ـ ٢٠٧.
(٢) انظر: «تفسير البغوي» : ٣/٢٦٥.
(٣) «تفسير الطبري» : ١٤/٣١ ـ ٤. نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، للبقاعي: ٨/٣١٤.
(٤) «المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز» ، لابن عطية: ٦/٣٥٦.
(١) «الظلال» : ٣/١٥٣٨.
(٢) نفسه: ٣/١٥٤٤.
(٣) «النهاية في غريب الحديث والأثر» لابن الأثير: ٢/٢٨٠ ـ ٢٨١، «مجمع بحار الأنوار في غرائب التنزيل ولطائف الأخبار» ، للعلامة محمد طاهر الفتني: ٢/٤٠٠ ـ ٤٠١. واقرأ ما كتبه العلاَّمة أبو الحسن الندوي في كتابه «ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين» ص (١٨٧) عن عجائب الرهبان، فيما نقله عن الكاتب الأوروبي ليكي.
(١) انظر: «العسكرية الإسلامية ونهضتها الحضارية» ص (٩٨) وما بعدها للواء الركن محمد جمال الدين محفوظ.
(٢) انظر: «أصول العلاقات الدولية في فقه الإمام محمد بن الحسن الشيباني» د. عثمان جمعة ضميرية: ٢/٩٩٦ ـ ٢٠٠٧.
(١) انظر: «الإرهاب الدولي: دراسة قانونية نافدة» د. محمد عزيز شكري، ص (١٢) . وتستعمل صفة «عبر الدول» للإشارة إلى الإرهاب الذي يضم عنصراً دولياً واحداً أو أكثر. ومن ذلك: الأحداث التي يذهب فيها الإرهابيون إلى خارج بلادهم لضرب أهدافهم، وينتقون أهدافهم بسبب بدولة أجنبية، كما يهاجمون الطائرات أثناء رحلاتها الدولية، أو يرغمون الطائرات على الطيران إلى بلد آخر. ولا تشمل هذه الصفة الأنشطة المحلية للمنشقين حينما تنفذ ضد الحكومة المحلية إن لم تكن لها صلة بالخارج.
(٢) انظر: جريدة الجزيرة، عدد (١٠٧٣) تاريخ ٨ ذي الحجة ١٤٢٢هـ، ص (٢٤) .