ندوات
[طوفان التنصير هل يهدد هوية السودان؟!]
إعداد: مصعب الطيب بابكر
التواطؤ الغربي المشبوه على السودان يزداد يوماً بعد يوم، والدعم لحركات
الانفصال الجنوبية بلغ مداه، والإرساليات الكنسية والمنظمات التنصيرية تجلب
بخيلها ورَجْلها في أنحاء السودان جنوبه وشماله، في ظل تقصير مذهل من
المؤسسات الإسلامية.
وازدادت عجلة التنصير في ظل عصا الإرهاب الغليظة التي تلوّح بها
الولايات المتحدة الأمريكية لكل من يخالف سياساتها الاستعلائية التي تنتهك حقوق
الشعوب وسيادة الدول! ثم توج ذلك كله بالدعوة إلى (علمانية العاصمة!) ، وهي
دعوة محمومة يراد منها اختراق الحصن الكبير للسودان، والإجهاز على البقية
الباقية من هوية الأمة.
وللوقوف على تاريخ التنصير في السودان وواقعه وأبعاده الميدانية يسعدنا أن
نستضيف الإخوة الكرام:
- الأستاذ: علي محجوب عطا المنان: مدير إدارة التخطيط وتنمية الدعوة
بمنظمة الدعوة الإسلامية.
- الشيخ: محمد عبد الكريم: داعية إسلامي بارز في السودان.
- الأستاذ: إلياس علي كرم الله: نائب الأمين العام لهيئة الدعوة الإسلامية.
- الأستاذ: عمار صالح موسى عثمان: باحث في شؤون الطوائف النصرانية.
البيان: نرحب بضيوفنا الأعزاء، ونبدأ معهم بمعرفة التعداد الحقيقي
للنصارى في السودان؟ وكيف تتوزع النسب بين طوائفهم؟ وكم نسبة المتدينين
بينهم؟ ?
- أ. علي محجوب عطا المنان: لا أحد يستطيع أن يحدد تعداداً بعينه
للمنتسبين للنصرانية في السودان أو نسبة أرقام محددة تشكل عدد رعايا طائفة ما
من طوائف الكنيسة العاملة في السودان؛ وذلك بسبب أن حركة التنصير في
السودان في جوهرها لا تقوم على دعوة إيمانية مطلقة برسالة المسيح، وإنما في
غالبها هي دعاوى يزعمها المنصرون ضد المسلمين والعرب في السودان مثل
الاسترقاق والاستعباد والاستعلاء العنصري والطبقي على عناصر أخرى؛ وتلك
تطابق صفة المسلم عندهم؛ وعليه فإن من يناهض ذلك لا بد أن يكون نصرانياً
ومرجعيته الكنسية أي طائفة كانت لا يهم ومن ذلك يقوم حاجز نفسي بين المسلمين
ومن سواهم من العنصر الأفريقي ونقطة انطلاق للعمل المضاد خاصة عند الشباب.
تلك دعاوى أساسية يجد بعدها الآخرون أنفسهم تلقائياً ينخرطون في دولاب حركة
الكنيسة. غير أن أسباباً أخرى تقوم عاملاً هاماً في حركة التنصير؛ ومن ذلك
العمل الإغاثي حيث إن حركة الإنتاج الاقتصادي والاعتماد على الذات خاصة في
وقت تطور فيه العالم وتطورت احتياجات الفرد نسبياً جعلت الكنائس تتولى أعمال
الإغاثة مرتبطة ببرامج تنصيرية. ومتى كانت الإغاثة من الكنيسة كان طلابها
نصارى، ومتى ما قدمتها منظمات إسلامية يتحول كثير منهم نحو الإسلام. هي
رمال متحركة تأخذ من فوقها حسب حركتها. ورغم أنه لا يستطيع أحد الجزم
بأرقام محددة للنصارى لكن في المناطق الحضرية بدأت تتضح المعالم نحو التزام
ثابت للأسر ومجموعات أخرى وخاصة الشباب نحو النصرانية والكنيسة؛ لأنها
توفر لهم إمدادات إغاثية ثابتة؛ كما توفر المناشط الشبابية وعلاقات الشاب
المتطورة حسب المنظور الغربي وتجهد في توفير التعليم ومقتضياته في منظومة
واحدة حتى إنها تتبنى الطالب إلى مرحلته الجامعية؛ غير أن إحصاءات لا يمكن
الاعتماد عليها ومضى عليها نحو من ربع قرن وتجاوزتها الأحداث تقول إن
المسلمين ١٨% من سكان الجنوب، و١٧% هم من النصارى، و٦٥% هم وثنيون
أو لا دينيون - معتقدات محلية - إلا أن ظروف الحرب والنزوح التي طالت نحواً
من ٧٥% من سكان جنوب السودان لم تترك محايداً تجاه الديانتين - إلا قليلاً -.
وعلى التحقيق لم يقم أحد بإحصاء علمي خلال ربع قرن مضى؛ غير أن مصادر
الكنيسة العالمية عبر مجلة تايم الأمريكية ١٩٩٨م تقول إن النسبة العامة للنصرانية
في أفريقيا تساوي ٥٠%. ولا أحد في السودان يرغب في تحديد إحصائية بعينها
والاعتراف بها لأسباب إستراتيجية سلباً وإيجاباً.
وعموماً فلا اعتقد أن النسب الآن تسير في صالح المسلمين، بل هي في
صالح النصارى لسبب رئيسي هو أن الكنيسة قد عبأت بشكل منتظم أعداداً كبيرة
من الشباب وربطتهم بالمدارس ومعاهد التعليم النصرانية وبالكنيسة نفسها في مناشط
شبابية أكاديمية، وغير أكاديمية وتستفيد من كون ٧٥% من الجنوبيين موجودين في
الشمال؛ فالكنيسة تعزز من تميزهم العرقي والثقافي واللوني والعنصري، وتوحي
لهم بأنهم مضطهدون ومواطنون من الدرجة الثانية، وأن الكنيسة هي الجهة الوحيدة
التى تظاهرهم وتقوم على تنظيمهم وتعليمهم مما جعل قطاعاً كبيراً يتجه للكنيسة؛
وهذا لا يعني ضرورة الانتماء إلى النصرانية كالتزام عقائدي، بل بما تمثله له
الكنيسة من وحدة اللون والإقليم والثقافة هذا من جانب، ومن جانب آخر؛ فوجود
أعداد كبيرة من الجنوبيين في الشمال حقق نقلة واسعة لانتقال الثقافة الإسلامية
داخل أوساط الجنوبيين؛ فالعربية صارت اللغة المشتركة بين كل القبائل الجنوبية
النازحة، وأثر الإعلام على ثقافتهم سلوكهم، ولو تم استغلال هذه الناحية بدعوة
إسلامية جادة وسطهم لتم كسبهم لصالح الإسلام.
- أ. عمار صالح موسى: صحيح أن من الصعب إعطاء تعداد حقيقي
للنصارى، وكل الأرقام الموجودة الآن هي مجرد تخمينات، ولكن من خلال
الاحتكاك بأنشطة تلك الهيئات وبعض تصريحات أعضائها والرصد لأعداد
المرتادين يمكن أن نقدر النسب بين طوائفهم تقريباً كآلاتي:
١ - الكنيسة الكاثوليكية (٥٠%) إذ ينتمي إليها أغلب سكان جنوب السودان.
وتهتم غالباً بشؤون أفرادها وليس لهم عمل كبير بين المسلمين.
٢ - الكنيسة الإنجيلية (٢٥%) ولكن لها أنشطة عديدة لتنصير المسلمين
وهي الكنيسة الأكثر تمويلاً وتأثيراً.
٣ - الكنيسة الأرثوذكسية ١٥%.
٤ - الكنيسة الأسقفية ٨%.
٥ - شهود يهوه ٢%.
وأما نسبة المتدينين بين النصارى فيمكن تقديرها بحوالي ٣% تقريباً.
- الشيخ محمد عبد الكريم: أنا أرى أنه من العسير جداً الاطمئنان إلى أية
إحصائية تحدد عدداً حقيقياً للنصارى في السودان؛ لأن الدولة في الحقب السابقة
واللاحقة لم تضع ضمن سياساتها الإحصائية تصنيفاً دقيقاً للسكان من جهة المعتقد
والديانة؛ ولعل طبيعة الوضع السياسي وعدم الاستيطان لأهل الجنوب بسبب
النزوح وظروف الحرب من أهم العوامل التي أدت إلى وجود هذه الفجوة
الإحصائية، وقد حاولت بعض الهيئات والمنظمات التنصيرية أن تسد هذه الفجوة
بما يخدم طموحاتهم التوسعية؛ فمن تلك الوثائق الصادرة في عام ١٩٩٢م ما يشير
إلى أن الإسلام هو دين غالبية السكان (٨٣%) في حين أن المعتقدات الإفريقية
(١٤%) ونسبة النصارى لا تتجاوز (٣%) وهذا الإحصاء يتسق مع تاريخ
الوجود النصراني في السودان؛ حيث لم يكن للنصارى مع أول عهد انتشار الإسلام
غير مملكة قبطية في بلاد النوبة (مملكة مروى) التي ظلت على شركها حتى
هاجمتها قبائل الفونج الوثنية فقضت عليها عام ١٤٠٥م ليبقى السودان كرَّةً ثانية بين
وثنية تشعبت ضلالاتها، وبين الإسلام الذي كان ينتشر بصورة انسيابية دون
إرساليات طبية أو بعثات تعليمية كما يحاول النصارى اليوم. وتتركز النسبة الكبيرة
من النصارى في جنوب البلاد وبعض مناطق جبال النوبة في غرب السودان.
وأما عن توزع النسب بين طوائفهم فإن الكنيسة الكاثوليكية تعتبر أكبر وأقدم
المجموعات الكنسية في السودان، وتنتهج نظاماً مركزياً يتبع الفاتيكان، وتمثلها في
البلاد ست مطرانيات، ثم يليها طائفة البروتستانت ثاني أكبر المجموعات الكنسية
في السودان وتمثلها أربعة عشر طائفة بأسمائها المختلفة: (الأسقفية، الإنجليكانية،
الرسولية الجديدة، الإخوة، الثالوث الأقدس، الإنجيلية، الأذفنتست السبتيين..
إلخ) ثم تأتي طائفة الأرثوذوكس وهي تشمل كافة الكنائس التابعة لرعايا الدول
والجاليات (القبطية، اليونانية، الأثيوبية، الإرترية، الكورية ...إلخ) . وأما عن
التدين فنجد أن التدين في الأرثوذوكس أكثر منه في الكاثوليك وأكثر منه في
البروتستانت ويقدرها بعضهم بالجملة ٣% وهي نسبة أقرب إلى الرجحان.
البيان: كيف تعاطت الأحزاب والحكومات السودانية مع قضية التنصير؟
وما الدور الذي لعبه (قانون الهيئات التبشيرية من ٢٧/٢/١٩٦٤م - إلى ٤/١٠/
١٩٩٤م) في الحد من النشاط الكنسي؟ وما أهم نتائج إلغائه؟
- أ. علي محجوب عطا المنان: مجموعة الفريق إبراهيم عبود العسكرية
التي استولت على الحكم في ١٧/١١/١٩٥٧م وحتى ٢١/١٠/١٩٦٤م وبالرغم من
أنها لم تكن ذات توجه إسلامي فيما يتعلق بشان الحكم والسلوك الاجتماعي
والحريات الخاصة إلا أنها كانت أكثر الحكومات السودانية على الإطلاق إدراكاً
لخطر التبشير النصراني ومراميه وأهدافه التي تتجاوز مسألة الدعوة للانتماء إلى
الكنيسة والنصرانية إلى تغيير التركيبة السكانية والمعادلة الاجتماعية والدينية في
السودان، وقد أدركت تلك الحكومة أن الاتجاه جنوباً مقصده التدمير شمالاً، ولهذا
صدر قانون الهيئات التبشيرية في ٢٧/٢/١٩٦٤م، وكان مما قامت به تلك الحكومة
(سودنة) وظائف الكنيسة؛ بمعنى أن يتولى أمر إدارة الكنائس من مطارنة
وقساوسة ومن هم من دونهم في المرتبة سودانيون، وكانت تلك محاولة جريئة
وشجاعة للحد من النفوذ الأجنبي في السودان. أعقبت حكومة عبود والتي تنازلت
عن الحكم في ٢١/١٠/١٩٦٤م حكومات حزبية لم يكن الدين أحد همومها، وكان
الاتجاه العام في السلوك الاجتماعي لا يبرز فيه التدين أو الدعوة له؛ ولهذا لم يكن
هناك رد فعل مقابل لذلك، وبقدر ما تطورت المؤسسات الإسلامية ببطء كذلك
تطور العمل الكنسي ببطء مماثل. ومنذ أكتوبر١٩٦٤م وحتى العام ١٩٨٣م لم يكن
من الحكام من ينادي بالدين حاكماً في السودان؛ ولهذا فإن المخطط التنصيري
العالمي في السودان كان يطبخ على نار هادئة بعيداً عن أي إثارة، وبتخطيط يدرك
أن الهدف كما أفصح عنه القس جون باتريك بقوله: (إن سقوط السودان في أيدينا
يعني سقوط نصف أفريقيا كلها، ويعني طرد العرب والمسلمين منها) وفي العام
١٩٨٣م عندما أعلن الرئيس جعفر نميري تغيير قوانين الحكم في السودان إلى
تشريعات إسلامية مع مراعاة خصوصية الجنوب فإن رد الفعل كان حاضراً؛ إذ
اشتد تمرد (كاربينو - جون قرنق) والذي ما زال يهد في قوى المسلمين البشرية
والاقتصادية، وينسف استقرار القطر كله، ويمنع التنمية والتطور بسبب توجيه
الموارد نحو الحرب حتى لا يقوى بلد مستهدف أصلاً ليكون له أشواق تجاه الإسلام
رغماً عن استثناء الجنوب من القانون الإسلامي. وبعد ١٩٨٣م لم يلتزم أحد بقانون
الهيئات التبشيرية. وجاسوا خلال الديار باسم الإغاثة والدفاع عن النصرانية.
إن إلغاء ذلك القانون في ٤/١٠/١٩٩٤م قطعاً لم يكن حكيماً، ولكن يبدو أن
الثقة الزائدة، والضغط الدولي على السودان بدعوى أنها دولة أصولية كان وراء
ذلك القرار؛ غير أنه حتى وإن لم يتم إلغاؤه فإنه كان سيدمغ السودان بالتطرف
الديني. وقد فُعِل حتى بعد إلغاء القانون.
- الشيخ محمد عبد الكريم: بعد أن حصل السودان على استقلاله كان في
حس الحكومات خاصة العسكرية منها أهمية الحد من التوسع النصراني في أوساط
الوثنيين حسماً على حساب الإسلام لاتخاذ القوى الاستعمارية وعلى رأسها بريطانيا
آنذاك ذلك ذريعة للتدخل في شؤون البلاد، وكان هذا دافعاً قوياً لحكومة إبراهيم
عبود لسن قانون الهيئات التبشيرية للحد من نشاط الكنائس ونفوذ الإرساليات
الأجنبية، وعلى إثر إبرام اتفاقية (أديس أبابا في فبراير ١٩٧٢م) برعاية
إمبراطور أثيوبيا هيلاسيلاسي أقام السودان لأول مرة علاقات دبلوماسية مع
الفاتيكان في أغسطس عام ١٩٧٢م، وقد أدى ذلك إلى تنازل الحكومة عن الجنوب
للكنائس تفعل فيه ما تشاء.
ونستطيع القول بأن قضية التبشير والنصرانية في السودان تعتبر ورقة رابحة
في نظر الأحزاب السودانية أملاً في الكسب السياسي من الداخل وتأييد القوى
الأجنبية من الخارج، وحين جاءت حكومة الإنقاذ كان متوقعاً مع شعار أسلمة الحياة
وفي مقدمتها القوانين أن تبقي هذا القانون على أقل تقدير للحد من النفوذ الكنسي،
ولكن مع جهود دعاة التقريب بين الأديان وعقد المؤتمرات لذلك فقد ألغي القانون
دون إيجاد بديل يتحكم في حركة الأخطبوط الكنسي، فتزامن ذلك مع أول زيارة
تاريخية لبابا الفاتيكان إلى السودان، ومع كل ذلك فقد صرح الناطق باسم الخارجية
الأمريكية في اليوم الثاني بقوله: (إن زيارة عابرة من قِبَل البابا إلى السودان لن
يغير من موقف أمريكا تجاه السودان شيئاً) ولقد كان من نتائج إلغاء هذا القانون
فقدان المرجعية القانونية التي تسند سياسة الحد من توسع الكنائس وإنشائها حتى في
الأحياء التي لا يقطنها النصارى، فكان هذا بلا شك منعطفاً خطيراً وشرخاً جسيماً
في جدار الوقاية من هذا المرض العضال.
- أ. إلياس علي كرم الله: قضية التنصير في فترات الحكومات السودانية
المتتابعة مرت بمنعطفات عديدة من أبرزها أيضاً اتفاقية أديس أبابا في عهد حكومة
مايو والتي اعتبرها كثير من المراقبين تمكيناً للنشاط الكنسي على حساب نشر
الإسلام.
- أ. علي محجوب عطا المنان: اتفاقية أديس أبابا المعلنة سلمت إدارة
جنوب السودان في ذلك الوقت للكنائس بما فيها الخدمة المدنية والتعليم، وضغطت
الكنيسة على المجلس الحاكم (مجلس الجنوب) في ذلك الوقت بأن تكون الأولوية
للنصارى في التوظيف في الخدمة المدنية والتعليم ودعم الطلاب وبعثات التعليم
وحتى سبل كسب العيش؛ وهذا وإن لم يكن مكتوباً ولكنه كان واقعاً معاشاً مما أدى
إلى أن أبناء كثير من المسلمين ارتدوا عن الإسلام حتى صار اتجاهاً معروفاً؛ فكل
من أراد وظيفة عليا أو أن يتعلم أو يعلم أولاده لا بد أن يكون نصرانياً.
وفيما يتعلق بالتعليم فقد افتتحت معاهد دينية في عهد عبود، وتخرج فيها قمم
من أبناء المسلمين الجنوبيين، وعملوا على نشر الوعى الإسلامي، وهذا مما يحمد
له في تثبيت الإسلام في الجنوب، وحينما تمت اتفاقية أديس أبابا أوقفت هذه
المعاهدة تماماً وكان لهذه الاتفاقية دور في وقف تقدم عمل المسلمين في المجال
السياسي والاقتصادي والدستوري والخدمة المدنية والمجال التشريعي؛ ولهذا كان
لهذه الاتفاقية تأثير سالب على تقدم العمل الإسلامي؛ ولكن الجهود ما زالت مستمرة
رغم أنها لا تكافئ العمل التنصيري.
البيان: ما تأثير المنظمات الكنسية على السياسة السودانية وعلى دورة
الحرب والسلام؟ وكيف توصف علاقتها مع حركات التمرد مع أن منهم أحياناً من
لا ينتمون إليها؟ وما موقف الكنيسة الرسمي والفعلي من فصل الجنوب؟
- أ. علي محجوب عطا المنان: المنظمات الكنسية قبل العام ١٩٨٣م لم
يكن لها تأثير مباشر على الحكومات والسياسة السودانية؛ لأن اعتماد النظام
العلماني في سلوك الحكم وقوانينه وبرامج الساسة في الانتخابات ما كان يشكل أحد
عوامل التحدي التي تواجه الكنيسة في مخططاتها؛ إلا أنه وبعد عام ١٩٨٣م عندما
أعلن النميري الإسلام مرجعاً للقانون والتشريعات السودانية لم تكن حركة الكنيسة
السودانية ومؤسساتها هي الأصل في تفجير حرب الجنوب الأخيرة أو زعزعة
الاستقرار الأمني والسياسي والاقتصادي في السودان إنما الكنيسة العالمية بكل قواها
انتفضت تعمل وتخطط وتستنفر كل أذرعها الدولية لمحاربة السودان وتطويقه
وعزله وهزيمته من الداخل.
لا أحد يشك أو يتردد في أن يقدِّر أن الكنيسة تلعب دوراً فاعلاً ومباشراً
تضامناً مع مؤسسات كنسية عالمية - سراً أو علناً - في دعم التمرد معنوياً ومادياًَ
خاصة فيما يتعلق بالإمداد (اللوجستي) (حركة الإمداد الأساسية المستمرة)
وتسخير طائرات الإغاثة التابعة للمنظمات الغربية وحتى منظمات الأمم المتحدة
والصليب الأحمر كانت تساهم في نقل السلاح والجنود، وليس الغرض من كل ذلك
انتصار حركة التمرد، ولكن الهدف هو هزيمة الإسلام لم تتوقف مطامع الكنيسة
ولا مطامحها عند فصل الجنوب السوداني ليكون نصرانياً يطرد منه الإسلام؛ لأنه
يعتبر بوابة الإسلام إلى أفريقيا، ولكن الأمر تعدى إلى ما نقله الباحث السوداني
بروفيسور حسن مكي عن المنصر الأوروبي (سبنسر) الذي كان يعمل في شمال
السودان بقوله: (ضرورة العمل في إنشاء مراكز مسيحية في ديار الإسلام
المحصنة في وجه المسيحية باختراقها في الشمال لتكون نقاط ارتكاز للمسيحية
عندما تتدفق شمالاً) . وجون قرنق قائد التمرد والكنيسة كلهم الآن يقولون إن
العرب والمسلمين ليس بلدهم السودان، وعليهم أن يعودوا من حيث أتوا وإلا فإن
نموذج الأندلس وزنجبار يمكن تطبيقه ويعني ذلك الإبادة الجماعية للمسلمين وربما
الذي حدث في البوسنة والهرسك نموذج لم يتطرقوا إليه.
وعلاقة التمرد بالكنيسة هي علاقة تبادل للمنافع؛ فجون قرنق لم يدخل التمرد
من باب النصرانية أو لنصرتها؛ وبذا يمكن إضافة مسوغات أخرى للحرب،
ويكسب بذلك عطف الدول الغربية والمنظمات الكنسية؛ حتى إن كثيراً من
المنظمات والهيئات المسيحية سخرت له لينقل السلاح والأفراد، بل إن بعض
المنظمات النصرانية حصرت عملها لصالح مناطق جيش التمرد.
وللكنيسة مصلحة أيضاً في التمرد؛ لأنه جعل للجنوبيين قضية، واستغلت
الكنيسة هذه القضية لتجميعهم حولها، واختلقت أحداثاً تاريخية لم تكن حدثت أصلاً
مثل الاسترقاق والاستعباد حتى جعلت الكنيسة من نفسها مرجعاً سياسياً واجتماعياً
وعقائدياً لكثير من الجنوبيين.
ولا شك أن الخيار الأفضل للكنيسة هو السلام، ولكن يبقى السؤال: السلام
مع انفصال الجنوب، أو مع الوحدة مع الشمال؟ هجرة الجنوبيين إلى الشمال
والضغط الدولي على الحكومة يمكّن الكنيسة من إدارة شؤون النصارى ومن أن
تعمل حتى وسط المسلمين الجنوبيين الموجودين في الشمال بالإضافة إلى الوثنيين،
والحرب منعت الكنيسة من أن تزاول عملها بكامل طاقتها، ولكن بالمقابل وجدت
الكنيسة أن الثقافة العربية والإسلامية أثرت على الجنوبيين، وثمة عدد من
المذكرات المرفوعة من مسؤولين جنوبيين يفضلون الانفصال ويخططون لتكوين
دولة (الجنوب) لتكون حاجزاً نصرانياً لانتشار الإسلام في أفريقيا ويدّعون أن
السودان كان قديماً دولتين نصرانيتين هما (المقرة وعلوة) ولما دخل المسلمون
السودان زالت دولة المقرة في شمال السودان، وفي عام ١٥٠٤م انهارت دولة علوة
بحكم العبدلاب واتحادهم مع دولة الفونج في سنار.
- الشيخ محمد عبد الكريم: لقد غدت الكنائس بعد شيخوختها القاتلة في
الغرب مجرد سلاح لصد ومحاربة الإسلام وتفتيت وحدة المسلمين كما قال القس
سايمون: (إن التنصير عامل مهم في كسر شوكة الوحدة الإسلامية، ويجب أن
نحول بالتنصير مجال التفكير في هذه الوحدة حتى تستطيع النصرانية أن تتغلغل
بين المسلمين) فالتنصير أداة مهمة في خدمة أغراض الدول الكبرى. هذا وقد أعلن
اللورد بلفور من قبل أهمية مؤسسات التنصير في خدمة أهداف السياسة، ومن هذا
المنطلق تحاول المنظمات الكنسية جاهدة التأثير على السياسة السودانية، وأضرب
للتدليل على ذلك بثلاثة أمثلة:
أحدها: أن المنظمات الكنسية هي التي وطدت لاتفاقية أديس أبابا ١٩٧٢م؛
حيث حصلت على ضمانات كافية وقتها بعدم نشر الثقافة العربية والإسلامية في
الجنوب.
وثانيهما: هو حدث قريب؛ وذلك بصدور قانون حرب (سلام) السودان
الذي أجازه الكونجرس الأمريكي في سبيل تطويع الإنقاذ أو تقسيم السودان، ومن
الجاذب للانتباه في وثيقة مشروع القانون كثرة البنود المخصصة لمنظمات الإغاثة
(وأنشطتها) لأنها تمثل العمود الفقري اللوجستي لقوات التمرد، وقد كان وراء هذا
القانون السناتور (بل فرست) وهو ذو صلة حميمة بمجموعات الضغط الكنسية
خاصة منظمة سامرتان بيرس (samarirtanpvrse) التبشيرية العاملة في
مناطق نفوذ الحركة الشعبية منذ عام ١٩٩٣م. كما يشاطر هذا الاهتمام بالسودان
قساوسة بارزون في أمريكا منهم (فرانكلين جراهام، وبات روبرتسون، وجيري
فالويل، وجيمي سواغارت) وأخيراً وليس آخراً القس (جون دان فورث)
المبعوث الخاص للرئيس الأمريكي الحالي للسودان.
ثالثها: ما كشفت عنه شبكة (S. P. C) الأمريكية عن المسرحيات
المسماة بعملية تحرير الرقيق والتي ظلت مادة خصبة للدعاية من قِبَل المنظمات
النصرانية في أمريكا والغرب وعلى رأسها منظمة التضامن المسيحي العالمي التي
أجادت التلفيق والضحك على ذقون ممثلي المنظمات العالمية؛ فالرقيق المزعوم لم
يكن سوى أطفال الحي، أما التجار المتنكرون في زي عربي القابضون للثمن فلم
يكونوا سوى جنود في قوات التمرد الجنوبية. هذا ومن الجدير معرفته في هذا
السياق ما يقوم به مركز كارتر في مدينة أطلنطا وبدعم من كنيسته حيث يلعب دوراً
مهماً في إقناع الحكومة الأمريكية والبنك الدولي ومؤسسات عالمية أخرى أن يتم
تنفيذ مساعداتهم لجنوب السودان عن طريق الكنائس مباشرة. ولا ننسى في هذا
الصدد أيضاً ما يقوم به رئيس أساقفة كانتربيري ببريطانيا من حشد الدعم للمتمردين،
وقد زار مواقعهم في الأراضي المغتصبة أكثر من مرة مخالفاً بذلك ما يتشدقون به
من أعرافهم الدولية وقوانينهم المدنية.
إن من الأهداف الإستراتيجية لتلك المنظمات إيجاد حالة من عدم الاستقرار
داخل السودان لانتزاع جنوبه ليكون دولة صليبية مستقلة، وليس لهذا الهدف ارتباط
بدعوى مكافحة الإرهاب ولا بتطبيق الشريعة؛ وجون قرنق حين أعلن تمرده في
١٩٨٣م كان ذلك قبل إعلان ترسيم قوانين الشريعة ببضعة أشهر، وكذا فإن ما
نادت به حكومة الإنقاذ من شعارات لم تكن هي المبلورة لهذا الهدف الإستراتيجي.
إن الكنائس الكاثوليكية الأوروبية والكنائس الكاثوليكية الأفريقية هي التي تقود بين
الفينة والأخرى الحملة في الدول الغربية وتغريها بالتدخل الدولي في السودان وإقامة
مناطق آمنة كما كان الحال في العراق؛ وكل ذلك تحت ذريعة وقف عمليات
التطهير العرقي ضد النصارى في جنوب السودان.
لقد كانت الحركة التنصيرية تأمل من قبل في تنصير السودان كله شماله
وجنوبه، شرقه وغربه، ولكن مع إخفاق السياسات الكنسية في تحقيق مثل هذه
الأهداف الكبيرة خاصة الكاثوليكية منها حيث كان الفاتيكان يعد أفريقيا مخزوناً
كاثوليكياً خالصاً لها من دون الملل والمذاهب الأخرى، وكان البابا يوحنا قد أطلق
شعار (تنصير أفريقيا عام ٢٠٠٠م) ورصد لذلك أموالاً قدرت بخمسة مليارات.
ورغم تعديلهم التعاليم النصرانية لتلائم العادات الأفريقية إلا أن الإخفاق كان حليفهم،
وتبين لهم في السنوات الماضية بما لا يدع مجالاً للشك أن حالات دخول الإسلام
في جنوب السودان أكثر عدداً من حالات التنصر؛ هذا مع ضعف نشاط المنظمات
الإسلامية العاملة في تلك المناطق، ومن ثم فإن الذي تبين لي مؤخراً هو حرص
هذه المنظمات على خيار الانفصال وليس الوحدة.
- أ. عمار صالح موسى: علاقة حركة التمرد بالكنيسة علاقة وطيدة بالرغم
من أنه ليس لحركة التمرد أساس ديني عقدي؛ إلا أن تلك المنظمات قد تبنتها
وتعمل معها جنباً إلى جنب. أما موقف الكنيسة من فصل الجنوب فهو متباين
باختلاف القسس والكنائس، وليس لي علم بموقف رسمي لها، ولكن لا أعتقد أن
الفصل في مصلحة الكنائس؛ لأنه يعني الحد من أنشطتها في الشمال وربما حتى
إغلاق كثير منها وهي تسعى للتوسع في مناطق أخرى غير الجنوب؛ لأنه
باعتقادها محسوم لها.
البيان: إذن هل توافقون على أن تنامي المد التنصيري هو الآن أكبر مما
كان عليه أيام الاستعمار الإنجليزي؟ ما هي الأسباب؟ وهل لما يعرف بأفرقة
الكنائس والتنازل لصالح بقاء بعض المعتقدات المحلية مع النصرانية أو توفيقها
معها أثر مهم في تسويقها؟
- أ. عمار صالح موسى: أوافق على ذلك؛ فالفرصة التي وجدتها الكنائس
لم تكن مهيأة من قبل، ومما يؤكد ذلك:
١ - نقل أعياد الميلاد مباشرة عبر الأقمار الاصطناعية من بيت المقدس على
حساب الحكومة السودانية «بالدولار» .
٢ - مشاركة النصارى في أعيادهم على مستوى الدولة، والإعلان لأعيادهم
عبر وسائل الإعلام.
٣ - إعطاء مساحة للنصارى في وسائل الإعلام بصورة لم يسبق لها مثيل.
٤ - دعوة بابا الفاتيكان إلى السودان، واستقباله بصورة حاشدة على مستوى
الدولة.
٥ - الموافقة على بناء مزيد من الكنائس في مناطق المسلمين.
٦ - إلغاء قانون الهيئات التبشيرية الصادر عام ١٩٦٢م؛ وهذا يعتبر أعظم
هدية للنصارى كما صرح بذلك أحد القساوسة لإذاعة (C. B. B) البريطانية.
أهم الأسباب وراء ذلك التوسع بالإضافة إلى ما ذكر سابقاً: الأموال التي تنفقها
الكنائس وبالذات على «عمد» و «مشايخ» هذه القبائل «الأفروسودانية» ،
والأهم من ذلك أن المنصرين العاملين في وسط هذه القبائل هم من أبنائها. إذن
تضافرت كل الجهود والأسباب في مصلحة الكنائس، ويمكن تلخيص ذلك في الآتي:
١ - المناطق التي يعمل فيها النصارى مناطق فقر وجهل ومرض.
٢ - عمد ومشايخ هذه القبائل مع الشخص الذي يدفع أكثر، وأتباعهم تبع لهم.
٣ - أن هناك قساوسة من أبناء هذه القبائل.
٤ - شبهات يثيرها هؤلاء القساوسة عن الإسلام وبالذات الناحية العنصرية.
٥ - إمكانات ووسائل ضخمة لا تقارع ولا تجارى.
- أ. علي محجوب عطا المنان: أوافق على أن المد التنصيري الآن أكبر
مما كان عليه أيام الاستعمار الإنجليزي لأسباب عديدة: منها أن الاستعمار
الإنجليزي لحد كبير لم يأت لنشر النصرانية أو لوقف الإسلام بقدر ما هو استعمار
اقتصادي وبقدر ما جاء ليوقف حركة الإسلام ويدك حصون دولة المهدية وقد فعل.
أضف إلى ذلك أنه خلال فترات الحكومات السابقة كان السلوك العام علمانياً؛
فالخمور تباع ويرخص لها ولمصانعها رسمياً، والدعارة كان لها بيوت في العلن
يصرح لها رسمياً من الدولة؛ فالدين هُمِّش تماماً في كل الحكومات قبل الإنقاذ،
وكان مدرسو التربية الإسلامية واللغة العربية يأتون في مؤخرة قائمة الموظفين وإن
كانوا أعلى منهم درجة، ولا يمكّنون من الجانب الإداري أبداً، وحتى حصص
التربية الإسلامية كانت تأتي في آخر الحصص؛ فلم يكن الدين سائداً، ولم يكن
هنالك ما يستفز الكنيسة في أن تقوم بنشر المسيحية، ولكن هذا الأمر اختلف الآن؛
فالعالم الغربي جعل الإسلام بديلاً للشيوعية وأثارت الصحوة الإسلامية حمية
الكنائس.
البيان: التطويق النصراني للعاصمة والمدن الكبرى يراه بعضهم حقيقة
واقعة، ويراه آخرون وهماً ليس له حظ من الواقع!
- أ. علي محجوب عطا المنان: في عام ١٩٩٦م قال أحد الجنوبيين للآخر
: (now we are surrounding the three town we are going to do something but not now) وتعني: «نحن الآن نحيط بالمدن الثلاث
(الخرطوم أم درمان بحري) نحن سنفعل شيئاً، ولكن ليس الآن» والآن هم
بمعسكراتهم يحيطون بالمدن الثلاث، ولا أشك أنه ربما أن ترتيباً عسكرياً قد يتم
لاجتياح العاصمة بمدنها الثلاث من نواحي تلك المعسكرات، ولكن من حسن الحظ
أن الجهات المعنية بالأمر هناك تعي ذلك الاحتمال.
- أ. عمار صالح موسى: لهذه القضية نظرة قديمة وضع لبناتها المطران
(دانيال كمبوني) سنة ١٨٨٢م؛ حيث بنى الكنائس والمعاهد في أفضل المواقع في
العاصمة والمدن الكبرى.
البيان: ما هو سر الاهتمام النصراني بقطاع جنوب السودان ثم قطاع جبال
النوبة؟ وكيف تقوِّم نتائج هذا الاهتمام حتى الآن؟ ثم كيف تنظر إلى عملية
توسّع النشاط التنصيري بين المسلمين في الشمال؟
- أ. علي محجوب عطا المنان: (٧٥%) خمسة وسبعون بالمائة من سكان
الجنوب موجودون الآن بشمال السودان، وبنفس النسبة تنفعل الكنيسة بنشاطها
المباشر المصاحب، فشكل ذلك حضوراً نصرانياً في كثير من بقاع السودان فما عاد
الهدف الجنوب وحده. ومن الأيسر أن تقنع المرء بفكرة لا يعتنق ضدها أو في
نفسه وفكره ما يكون حاجزاً عن الإيمان بها أو الانحياز لها ولو بالعاطفة، ولهذا
كان جنوب السودان أرضاً ومواطنة حيثما وُجِد في أنحاء السودان هدف للتنصير.
أما ما يتعلق بجبال النوبة فحقيقة هناك مكمن الخطر؛ إذ إن النوبة يشكلون
أقل من ٣٥% من سكان الجبال حسب إحصائية ودراسة الأستاذ أحمد ونسي
المختص في دراسات جبال النوبة وحتى هؤلاء فإن المسلمين كانوا يشكلون غالبيتهم
وما تبقى لم يكن حتى ١٩٧٠م للنصرانية منها نصيب يذكر؛ إذ إن المعتقدات
المحلية هي السائدة. وفي جبال النوبة فإن التنصير قطعاً هو حسم من رصيد
المسلمين.
إن التركيز على جبال النوبة وجنوب السودان وسكانها حيثما وجدوا وتتبعهم
من قِبَل الكنيسة لأمرٌ ذو خطورة قصوى؛ إذ تسعى الكنيسة لأن تجعل أولئك
المواطنين جسماً غير قابل للاندماج في المجتمعات التي يعيشون فيها أو حولها؛
إنما تسعى أن تحفظ لهم طابعهم الثقافي والاجتماعي والسلوكي مما يجعل هناك بؤراً
استيطانية متباينة في أماكن كانت تتسم بوحدة الدين والسلوك الجماعي والاجتماعي
وثقافة الحياة العامة مما يجعل ذلك التباين نذير احتكاك وصدام مستقبلي، أي قنبلة
مؤقتة تفجرها الكنيسة في ديار الشمال (غير أن النشاط التبشيري وسط المسلمين
خاصة من غير العنصر العربي أمر جدير بالنظر فيه؛ إذ إن ذلك فضلاً عن أنه
طال بعض المسلمين من الجنوب وجبال النوبة إلا أن قبائل مسلمة بكاملها مثل
قبيلتي المساليت والتاما في أقصى غرب السودان والمجاورة للجزء الجنوبي
النصراني من تشاد قد بدأ العمل التنصيري يدخلها ويجد له فيها موطئ قدم) الذي
لا بد منه أن يكون لافتاً للنظر خاصة في مدن الشمال المسلم أن الكنيسة تسعى لجمع
الشباب من الجنوب ذكوراً وإناثاً في مراكز اجتماعية داخل الكنائس الكبرى منها
خاصة وتلبية حاجاتهم ورغباتهم في المناشط والسلوكيات المختلفة؛ بحيث تكون
الكنيسة حضناً لهم ومرتعاً للقاءاتهم وميداناً لمناشطهم وإبداعاتهم المختلفة، فأمها
ويؤمها بالتزام عدة آلاف من الشباب يومياً وعشرات الآلاف كل يوم أحد مما يشكل
مظهراً نصرانياً واضحاً يضيع معالم المدن المسلمة في الشمال عند تصويب النظر
في مكان تجمع محدد، ويكون مؤشراً مصوباً نحو حقائق المستقبل بوجود نصراني
فاعل هناك. ولا أرى أي عراقيل تقف أمام ذلك المد حتى إن المسلمين الآن
يتحصنون مدافعين عن حماهم حتى لا تخترق تاركين حرية مطلقة للعمل الكنسي؛
حيث لا قانون يمنع أو يضبط حركة الكنيسة في كل مجال حتى إقامة الكنائس
وإضافة المباني دون تصريح، ولا حتى بامتلاك الأرض، وتتوقف الجهات
الرسمية عن تطبيق القانون لأسباب سياسية وأمنية آنية؛ غير أن العواقب
المستقبلية تحتاج إلى قراءة جادة وأمينة مع مراعاة أن نسبة النمو السكاني للعناصر
الأفريقية التي لا تحدها ضوابط الزواج الإسلامي تجعل الميزان لصالحهم خلال مدة
لا تتجاوز عشرين عاماً؛ وحينها يمكن عن طريق المجالس التشريعية تغيير
القوانين والأنظمة الإدارية؛ وربما يأتي يوم يصير فيه المسلمون أقلية حتى في
ديارهم.
- الشيخ محمد عبد الكريم: إن الدول النصرانية والمنظمات التي تدور في
فلكها يحلو لها أن تتحدث عن إقليم جنوب السودان كما لو كان ملكاً لهم وحدهم،
وثمة أسطورة يروج لها الإنجيليون الصهاينة مفادها أن أرض كوش المذكورة في
التوراة هي جنوب السودان، وأن أهلها (طوال القامة) موعودون بمؤازرة المسيح
في أورشليم عند ظهوره. هذا بالإضافة إلى ما يتمتع به الجنوب من موقع
استراتيجي يعتبر مجالاً طبيعياً مواتياً للتأثير على أفريقيا الوسطى وما فيه كذلك من
ثروات طبيعية وآخرها الذهب الأسود لقمين بأن يسيل له لعاب القوم. وأما جبال
النوبة فإن أماني مملكة نصرانية قديمة بائدة لا تزال إعادتها في أذهان كثيرين من
المنصرين الذين درسوا تاريخ السودان؛ علاوة على أن أمريكا تطمع أكثر من
غيرها في هذه المنطقة بسبب غلبة المذهب الإنجيلي البروتستانتي؛ وهذا ما جعل
قسها المبعوث دان فورث يعجل في خطوة غير متوقعة اتفاقية جبال النوبة. ومع
الأسف الشديد فإن الهيئات التنصيرية التابعة للمنظمات الأمريكية تعمل بجد لتنصير
قرى جبال النوبة وإنشاء الكنائس فيها، وهذا أمر جد خطير. وأما عن النتائج فإن
المدافعة من قِبَل بعض الدعاة والمنظمات الإسلامية القائمة مع ضعفها في خبرتها
وإمكانياتها ووسائلها قد حدت من استفحال هذا المرض في بعض الأماكن، ولكن ما
يتمخض عن نشاط المنصرين في جبال النوبة خاصة أمر محزن للغاية؛ ذلك أن
أفراداً من أسر مسلمة عريقة يعلنون عن ارتدادهم وتحولهم إلى النصرانية. وأما
عن أثر النشاط الكنسي في الأوساط الشمالية فإنه رغم قلة النتائج ولله الحمد فإن هذا
التوسع مع غلبة الفقر والعوز وتفشي الجهل بالعقيدة الإسلامية في بعض المناطق
لنذير شر يحتم على الغيورين تدارك الأمر، وقد أخبرني بعض الذين أسلموا حديثاً
وكانوا قساوسة متنفذين بمجلس الكنائس السوداني أنهم أفلحوا في الطواف على كثير
من مدن وقرى الشمال العربي الإسلامي واستطاعوا شراء مساحات كبيرة من
الأراضي في تلك المناحي بغية استغلالها كنسياً وتعليمياً في المستقبل. ونسأل الله
أن يبطل كيدهم.
- أ. عمار صالح موسى: لقد نجحوا بنسبة ٧٠% في احتواء تلك المناطق
وبالذات في السنوات الأخيرة بعد نزوح هذه القبائل من مناطقها وسكنها في مناطق
عشوائية في العاصمة «الخرطوم» وما حولها حيث قامت هذه المنظمات الكنسية
ببناء الكنائس والمدارس وتوفير الخدمات الحيوية، ومن ثم احتوت كل من في
المنطقة من نصارى ووثنيين ومسلمين. التوسع التنصيري في الشمال مهد له ما
يسمى «بحوارات الأديان» . فالتنصير الآن يتقدم في الشمال ولكن ببطء خلافاً
لتلك المناطق «الأفروسودانية» ، ولكن الأخطر من ذلك أنه وجد استجابة من
أبناء المسلمين ومن مختلف الطبقات؛ فمنهم المتعلم وغير المتعلم.
- أ. إلياس علي كرم الله: قد توجد حالات يتم فيها ارتداد بعض المسلمين
إلى النصرانية، ورغم أنها قضية خطيرة، ولكن الظاهرة ككل تضخم أحياناً بما لا
بتناسب مع حجمها. هناك فعلاً توسع في الأنشطة التنصيرية بين المسلمين.
ويجب أن نتذكر دائماً أن هدف المجالس الكنسية هو تنصير كل أفريقيا، ولكن
النتائج بحمد الله ما زالت ضعيفة.
البيان: بناء على هذا هل نستطيع أن نحدد أهم الركائز والوسائل التي يعتمد
عليها النشاط الكنسي التنصيري في السودان بشكل خاص؟ وما أبرز العوائق
والعراقيل التي تواجهه؟
- أ. عمار صالح موسى: أهم ركائز التنصير التي يعتمد عليها هي:
١ - القوة البشرية المكثفة: فالمنصرون الذين يجوبون ربوع السودان
أعدادهم كبيرة، بل قد تجد في كنيسة واحدة في منطقة نائية ثلاثة أو أربعة قساوسة
يعملون بها، وبالطبع لن تجد في منطقة من مناطق السودان كنيسة واحدة بل عدة
كنائس، وكل كنيسة بها عدد من القساوسة والمنصرين.
٢ - القوة المادية: الكنائس والمنظمات التنصيرية لها أموال ضخمة يستفاد
منها في الرواتب وطبع الكتب والمنشورات والتنقل وشراء البيوت وجعلها كنائس،
وغير ذلك الكثير.
٣ - الإعلام المكثف: وهذا يتمثل في الاستفادة من الحرية التي أتاحتها الدولة
للنصارى في الإعلام، فصار لهم وجود في التلفاز والإذاعة والصحف المحلية. أما
على المستوى الخارجي فهنالك إذاعات موجهة إلى السودان مثل إذاعة حول العالم
الفرنسية «مونت كارلو» حيث يوجه برنامج للسودانيين باللهجة السودانية واسمه
«أنشودة الأمل» وكذلك هنالك برنامج «ساعة الإصلاح» في نفس الإذاعة،
و «ساعة الإصلاح» مؤسسة كنسية مقرها الخرطوم.
أما أبرز العوائق التي تواجه التنصير فهي الصحوة الأخيرة للدعاة المسلمين؛
كما أن من العراقيل المهمة التي تواجه التنصير عدم اتفاق هذه الكنائس والمنظمات
مع بعضها.
- الشيخ محمد عبد الكريم: في مقدورنا أن نقسم الركائز والوسائل التي
يعتمد عليها النشاط الكنسي في السودان إلى قسمين:
أولها: وسائل مباشرة: وذلك عن طريق النشاطات المختلفة التي تقوم بها
الكنائس خاصة في المناسبات والأعياد التي يمنح الموظفون فيها في الدوائر
الحكومية الرسمية إجازة؛ حيث توزع الأناجيل والنشرات والبطاقات الداعية إلى
اعتناق النصرانية، وقد أفلحوا في السنوات الأخيرة على أن تمنح لهم ساعات
مقدرة لبث أنشطة الكنيسة في التلفزيون السوداني.
ثانيها: غير المباشرة: ومن الركائز المهمة غير المباشرة:
١ - المنظمات الداعمة للنشاط الكنسي: وهي تزيد على (٣٩) منظمة تعمل
في مجال التنصير تحت ستار العمل الإنساني والطوعى؛ بالإضافة إلى بعض
المنظمات الدولية التابعة للأمم المتحدة والتي تعتبر معقلاً من معاقل التنصير أيضاً.
٢ - النشاط الصحي: ويتم فيه استغلال آلام البشر، وكم قد رأينا أناساً تمنع
قلة ذات اليد حصولهم على الدواء فتعرض عليهم الكنائس وبعض الإرساليات ذلك
مقابل ارتداده واعتناقه النصرانية.
٣ - النشاط التعليمي: حيث يشمل التعليم الكنسي بالسودان كل المراحل
الدراسية من رياض الأطفال والمدارس الثانوية والكليات والمعاهد المتخصصة في
كل من اللاهوت، اللهجات، اللغات والكتاب المقدس.
٤ - الوجود الأجنبي: وقد تطور هذا الوجود مداً وجزراً حسب سياسات
الدولة؛ إلا أنه في الآونة الأخيرة زاد هذا الوجود، واتخذ من الجوانب الإنسانية
والاحتياجات أسباباً للعمل من خلال المنظمات الطوعية والدولية. ويسهم هذا
الوجود الأجنبي بشكل كبير في توفير الدعم المادي للعمل التبشيري بأشكاله المختلفة
(سمنارات، ورش عمل، مؤتمرات مفتوحة ومعارض كتاب) كما يشارك هؤلاء
الأجانب في الخطط المباشرة في التبشير وتأهيل المبشرين بالإضافة إلى الأبعاد
الاستخبارية التجسسية لصالح دولهم.
٥ - النشاط النسوي: حيث ركزت الكنائس عملها في السنوات الماضية
وسط النساء لتحقيق أجندتها الخفية عبر المرأة؛ وبرهان ذلك اختيار إحدى القيادات
النسائية وتدعى (بخيتة) وهي من غرب السودان قديسة للكنيسة الكاثوليكية في
عام ٢٠٠٠م، كما نصبت جوليا من جنوب السودان راهبة أبدية؛ وذلك في عام
٢٠٠٠م. هذا وتستهدف استراتيجية الكنائس المقبلة قطاع النساء لا سيما اللائي
يقطنَّ في الأماكن الطرفية والنائية بتمويل ضخم من منظمات العون الكنسي.
أما عن أبرز العوائق التي تواجههم:
أولاً: وفي مقدمتها انتشار الدين الإسلامي، وارتفاع الوعي الصحيح؛ وهذا
يعتبر أكبر عائق بلا شك. يقول بلس: إن الدين الإسلامي هو العقبة القائمة في
طريق تقدم التبشير بالنصرانية في أفريقيا، والمسلم فقط هو العدو اللدود لنا.
ثانياً: إن جل من ينتمون إلى هذه الكنائس من قساوسة وإداريين إنما هم
طلاب دنيا إن أُعطوا منها رضوا، وإن لم يُعطَوْا منها تركوا طائفتهم إلى أختها.
ثالثاً: كثيراً ما يعلن قساوسة ومبشرون ينتمون إلى الكنيسة الكاثوليكية أو
البروتستانتية إسلامهم كما حصل في بداية هذا العام والذي قبله حيث أسلم عدد من
القساوسة والمبشرين على رأسهم جوزيف سلفادور الذي أسمى نفسه يوسف، وقد
كان مديراً عاماً لمطارنة الكاثوليك الاثني عشر في السودان.
- أ. إلياس علي كرم الله: من أهم الركائز التعليم؛ إذ إن للكنائس مدارس
ومعاهد كثيرة في الجنوب والشمال وفي معسكرات النازحين، وهي تستغل حاجة
المجتمع للتعليم المتميز، وتدرك أهميته في التأثير على الهوية والثقافة، والذين
يتنصرون عبره هم في الجملة أكثر تمسكاً ممن سواهم. وفي تقديري أن أهم
المعوقات هي انتشار الصحوة الإسلامية وإنشاء منظمات الدعوة والإغاثة الإسلامية
التي تزاحمها في تلك البقاع.
ثانياً: النزوح إلى الشمال يمثل معوقاً؛ لأنه يوفر فرصة للتداخل والتعرف
على سماحة الدين الإسلامي.
البيان: هناك منظمات تنصيرية كثيرة، فما أبرزها يا شيخ محمد؟
- الشيخ محمد عبد الكريم: المنظمات التنصيرية التي تدعم الكنيسة
السودانية كثيرة وعلى رأسها:
١ - الأدفنتست للتنمية والإغاثة (أدرا) .
٢ - منظمة كير العالمية.
٣ - منظمة إنقاذ الطفولة الأمريكية.
٤ - الوكالة السويدية للسلام والإغاثة.
٥ - الصليب الأحمر السويدي.
٦ - العون الكنسي النرويجي.
٧ - أوكسفام البريطانية.
٨ - منظمة التضامن المسيحي العالمي (W.C.C) .
٩ - منظمة التضامن المسيحي الدولية (I.C.C) .
هذا بالإضافة إلى دعم المنظمات الكنسية المسجلة بالبلاد.
- أ. عمار صالح موسى: أبرز الكنائس التنصيرية في السودان هي
الكنيسة الإنجيلية ببحري؛ فهي الأنشط، ومعظم المسلمين المرتدين يوجدون بها،
كما أن لها دوراً كبيراً في نشر كتب النصارى وإقامة المعارض وتسيير الرحلات
التنصيرية إلى مدن السودان المختلفة.
البيان: كيف تقوِّم أداء المنظمات الإسلامية العاملة في إقليمي جنوب
السودان وجبال النوبة وفي معسكرات النازحين؟ أين تكمن المشكلة بالضبط؟
وماذا تقترح لتجويد أداء تلك المنظمات؟
- الشيخ محمد عبد الكريم: من المنظمات التي سبقت إلى جنوب السودان
وجبال النوبة للقيام بنشر الدعوة وإغاثة المنكوبين منظمة الدعوة الإسلامية، وقد
كان لها في السابق جهود مقدرة، ولكن السياسات التي وضعتها أمريكا بعد أحداث
١١ سبتمبر قد أدت إلى تقليص الدعم عن هذه المنظمة وغيرها من المنظمات
العاملة في السودان، وأنَّى لبضع منظمات إسلامية أن تزاحم أرتال المنظمات
الكنسية الآنفة الذكر؟! والمشكلة في تقديري تعود إلى ضعف إحساس كثير من
الحكومات خاصة في بلاد المسلمين الغنية بخطورة هذا المد السرطاني، ثم ضعف
التعاون بين المنظمات والمؤسسات الدعوية على درء هذا الخطر وعدم التنسيق في
تناول مشاكل الناس في تلك المناطق المهددة.
والذي أراه لتجويد أداء تلك المنظمات:
أولاً: تواصل هذه المنظمات فيما بينها لوضع الخطط الواقعية الفاعلة بعيداً
عن المثالية والتنظير مع الحرص على تبادل الخبرات والوسائل، ولو أفلحت كل
منظمة أن تخصص جهودها لسد ثغرة في هذه المهمة الكبيرة لكان ذلك أوْلى لتجويد
العمل وتحقيق المنشود.
ثانياً: مع تسارع عجلة اتفاقية السلام (مشاكوس) فإن على الجهات الرسمية
المعنية أن تهيب بكافة المؤسسات الداخلية والخارجية أن تقوم بمسؤولياتها ودورها
المطلوب إزاء ولايات جنوب السودان وجبال النوبة ومناطق النازحين.
- أ. عمار صالح موسى: لم يسبق لي أن زرت هذه المناطق حتى أرى
نشاط المنظمات الإسلامية، ولكن بلغني أن معظم الذين يقودون عمل هذه المنظمات
الإسلامية موظفون إداريون غير دعاة، ومهمتهم محصورة في العمل الإداري،
وهذا شيء لن يفيد كثيراً. وتكمن المشكلة في عدم دراسة الاستراتيجية التي يعمل
بها التنصير، ومن ثم مقابلة ذلك بالعمل المناسب، وأيضاً عدم وجود العدد الكافي
من الدعاة المؤهلين لمحاربة التنصير. وأقترح تأهيل دعاة متخصصين في هذا
المجال، وكذلك توحيد جهود المنظمات الإسلامية وجعلها تصب في قالب واحد هو
محاربة التنصير، والدعوة للإسلام، وإبراز العقيدة الإسلامية الصحيحة والوجه
الحقيقي للإسلام.
- أ. إلياس علي كرم الله: الدور الذي تقوم به المنظمات الإسلامية ضعيف
بالمقارنة بما يحتاجه المجتمع، وأكثر ضعفاً بالمقارنة بأداء الهيئات الكنسية. إلا أن
هناك منظمات لها جهود مقدرة مثل هيئة الإغاثة الإسلامية والوكالة الإسلامية
للإغاثة ومنظمة الدعوة الإسلامية وهيئة تنمية جنوب الصحراء وهيئة الدعوة
الإسلامية.... وغيرها، ومن أبرز المشاكل التي تواجهها مشكلة التمويل خصوصاً
بعد الضغوط الدولية على منظمات العمل الطوعي الإسلامي من جراء أحداث (١١
سبتمبر) .
ثانياً: التدريب؛ حيث يجب أن يعم كافة مجالات العمل كالتعليم والإغاثة
والدعوة والإدارة سواء للكوادر العاملة أو المتعاونة.
البيان: ما الذي يمكن للدولة أو الفرد عمله لإيقاف الأخطبوط التنصيري من
التمدد والتأثير على هوية السودان؟
- أ. علي محجوب عطا المنان: لقد بلغ دخل الكنيسة العالمية مجتمعة في
منتصف عام ١٩٩٨م حوالي ٩٧ بليون دولار. وأفريقيا هي هدفها المصوب نحوه،
والسودان هو قلب الهدف لحركة التنصير؛ فكم نصيب السودان من ذلك؟ لا أحد
من المراقبين يشك في أن ما لا يقل عن ١٠% هو نصيب السودان لدفع حركة
التنصير خاصة بعد أن أعلنت حكومة الإنقاذ توجهها الإسلامي صراحة، ومارست
أسلمة الحياة في علاقاتها مع شعوب إسلامية أخرى حتى عام ٢٠٠٠م حين
اقتصرت على شأنها الداخلي. ولكن علاقات وثيقة ربطت الشعوب الإسلامية
(وليس الحكومات) وصحوة كبرى انتظمت الشباب المسلم مما أدى إلى إبطاء برامج
التنصير في كثير من دول أفريقيا المسلمة، فكان ذلك سبباً في زيادة قوة الهجمة
التنصيرية والحصار الدولي ورفع سيف الإرهاب في وجه السودان. الحصار
الاقتصادي واستمرار حرب الجنوب ونوافذ أخرى للحرب والتمرد في شرق البلاد
وغربها أدى إلى عدم الاستقرار وإلى حركة نزوح استنزفت موارد الدولة وصرفت
الجهد عن مواجهة مخاطر التنصير إلى حفظ وحدة البلاد. واجتمعت دول الكفر
بخيلها وخيلائها في محادثات السلام في نيروبي بين حكومة السودان وحركة التمرد
يساندون قائد التمرد جون قرنق، ويجبرون السودان على تنازلات كبيرة تصب كلها
في مصلحة النصرانية والتبشير الكنسي بشكل مباشر أو غير مباشر أهمها مسألة
التعليم والقوانين الحاكمة لحركة الحياة، وخاصة الثروة وإطلاق يد الحاكم الجنوبي
المرتقب في كل شيء. حدث كل ذلك ولم تتدخل دولة مسلمة واحدة لتعاضد
السودان في محنته، بل إن بعض الدول ذات الهوية الإسلامية العربية كانت تستقبل
قرنق وتدعمه بالمال والسلاح والرجال، وتحتضن السودانيين العرب العلمانيين
الذين لهم مواقف معلنة ضد نظام الحكم الإسلامي في السودان، ويساندون التمرد
بالمال والسلاح والرجال. أن يجتمع المهتمون بأمر الإسلام والدعوة في السودان في
منظومة واحدة، ويستشعرون الخطر الداهم، ويرتبون جهودهم متناسين مواطن
الخلاف فتلك خطوة مهمة في الاتجاه الصحيح. إلا أن معاونة المسلمين القادرين
على ذلك الجهد من كل أنحاء العالم الإسلامي أمر لا يمكن الاستغناء عنه؛ فتلك
قضية تهم الجميع.
- الشيخ محمد عبد الكريم: إن ما ينتظر السودان من مكر كُبَّار تحاك
خيوطه في دهاليز الفاتيكان ومجلس الكنائس العالمي لأمر جلل خطير يستحق
دراسة متأنية من الحادبين على الإسلام والغيورين على حرماته سواء أكانوا في
موقع المسؤولية الرسمية أم كانوا من عامة الناس.
إن في مقدور الدولة أن تقوم بما يلي لمعالجة هذه المعضلة:
أ - لا بد من تطوير وتفعيل القوانين التي تعمل على تحجيم مناشط العمل
الكنسي خاصة تلك التي توقف امتيازات الكنائس وتصديق الأراضي.
ب - تفعيل دور المنظمات الوطنية والإسلامية للقيام بواجبها بفعاليات موازية
للمناشط الكنسية.
ت - لكي تحافظ الدولة على سيادتها وسعياً للقيام بواجبها في حراسة الدين لا
بد من ضبط علاقة الكنائس بالمنظمات الدولية والإقليمية، وضرورة وقف تدفق
المنصرين الأجانب.
ث - لمنع تسريب فكرة التنصير عن طريق التعليم لا بد من إلزام مدارس
الكنيسة بتطبيق مناهج وزارة التربية والتعليم، والعمل وفقاً للأعوام الدراسية
وجدول الوزارة.
أما ما يمكن لعامة الناس أن يقوموا به فلا شك أنه أكثر وأوسع مما سنذكره،
ولكننا سنقتصر على ما يلي:
١ - ضرورة دعم المنظمات العاملة في حقل مزاحمة التنصير ونشر الإسلام
في تلك الأقاليم بكل أنواع الدعم المادي والمعنوي.
٢ - تجاوز النظرة العرقية الضيقة أو الجهوية المحدودة للتعامل مع المهتدين
المنتقلين من تلك الأوساط إلى وسط المسلمين حتى يكون المعيار السائد هو ما ذكره
الله تعالى: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ
لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ] (الحجرات: ١٣) .
٣ - السعي الدؤوب بحكمة وروية للحد من نشاط التنصير في كل ميدان يوجد
فيه أو ينتقل إليه كالحي الذي يقطنه والمجال الذي يعمل فيه.
٤ - تعميق عقيدة الولاء والبراء والعمل على ترسيخها في نفوس العامة
والخاصة، فلا مجال في الإسلام للمسلم أن يحتفل بأعياد النصارى أو يشاركهم في
مناسباتهم الدينية بالتهنئة وما عداها.
- أ. عمار صالح موسى: تستطيع الدولة أن تحد من نشاط التنصير؛ وذلك
بالعودة إلى قانون الهيئات التبشيرية الصادر عام ١٩٦٢م. أيضاً لا بد من إيقاف
تلك المعارض التي يقيمها النصارى في قلب الخرطوم، وكذلك إيقاف نشاطهم في
وسائل الإعلام المختلفة؛ فهم عاجزون تماماً عن الصمود أمام دعاة الإسلام، ولذلك
تجدهم دائماً يتهربون من المناظرات والظهور في الأماكن العامة، بل يتصيدون
العوام في الخفاء. أما الفرد فدوره محدود وصعب في محاربة التنصير؛ ولذلك لا
بد من العمل الجماعي المؤسسي.
- أ. إلياس علي كرم الله: دائرة ما يجب واسعة جداً، ولكن ما يمكن أن
تقوم به الدولة في ظل الأوضاع الداخلية والخارجية الحرجة يضيق كثيراً، وأضيق
منها دائرة ما ستقوم به الدولة فعلاً. ومسألة توحيد وتحديد مناهج التعليم (المنهج
القومي) للمدارس الكنسية وغيرها مسألة مهمة، وبدأت الدولة تقدم بعض المساعي
بالتعاون مع بعض المنظمات بتدريب وتوظيف حوالي ٤٠٠ معلم في مدن جوبا
وواو والرنك وملكال.
البيان: كيف تنظرون إلى مستقبل التنصير في السودان في ظل بقاء
المعطيات الحالية؟ وما الذي يمكن أن يغير تشكيل ذلك المستقبل؟
- أ. عمار صالح موسى: إذا سار الوضع في ظل بقاء هذه المعطيات
فسيكون الأمر جد خطير؛ فالنصارى الآن يعملون بخطة مدروسة في كل مدن
السودان، والشباب الذين تنصروا معظمهم من أقاليم السودان الأخرى؛ فعمل هؤلاء
في مناطقهم يعتبر كارثة حقيقية في ظل غياب الوعي الإسلامي وسط هذه
المجتمعات وخاصة الشباب.
والذي يمكن أن يغير شكل ذلك في المستقبل هو أنه لا بد من خطوات جادة
وحاسمة من الحكومة السودانية، أيضاً لا بد من نشر الوعي الإسلامي وسط الشباب
وبالذات طلاب الجامعات، وأيضاً طرح مشكلة التنصير ومعالجتها على مستوى
السودان كله حتى تجتث المشكلة من جذورها، أخيراً لا بد من دور إيجابي
للمنظمات الإسلامية العاملة داخل السودان ومعالجة سلبياتها حتى تكون أكثر فعالية.
أما المستقبل ما بعد مشاكوس فمن الواضح أنه إذا حدث انفصال فسيكون سيئاً
للكنائس، وربما أدى لانحصار التنصير في الشمال، وربما لا يبقى إلا الكنائس
الأرثوذكسية وكنائس الجاليات؛ أما الوحدة فسيكسب النصارى المزيد من الحرية
والصلاحيات والسلطات.
- أ. علي محجوب عطا المنان: أرجو أن لا يكون غضب الله قد أصاب
المسلمين نتيجة الغفلة [وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ
الفَاسِقُونَ] (الحشر: ١٩) فلو استشعر المسلمون في السودان وفي العالم اجمع
قضية الإسلام في السودان لكانوا بقضهم وقضيضهم ومالهم ورجالهم وعلمائهم جاؤوا
لنشر الدعوة في السودان.
إن الجنوبيين في الشمال اتخذوا العربية لغة مشتركة لهم والتي تحمل في
طياتها كثيراً من المعاني والمقاصد الإسلامية؛ فلو نظم المسلمون صفوفهم وقصدوا
فعلاً التوجه إلى الله تعالى ليدعوا هؤلاء لكسبوا عدداً كبيراً منهم إلى صف الإسلام.
- الشيخ محمد عبد الكريم: إذا استمر الوضع على ما هو عليه فإن
المستقبل لا يبشر بالخير؛ لأن المد التنصيري لا يزال يحظى بمرور الوقت
بمكتسبات نوعية جديدة بسبب الفجوة القانونية ولما ينص عليه الدستور من حرية
التبشير لكل أصحاب المعتقدات الدينية، أي لا خصوصية للإسلام في منع انتشار
باطل العقائد. ومما يفاقم الأمر ويجعله يمضي قُدُماً نحو ذلك المستقبل المتشائم
العامل العرقي والجهوي السياسي الذي تعمل القوى الاستعمارية وأذنابها على
تجذيره في هذا البلد، وهو ما تنطوي عليه اتفاقية السلام المرتقبة في مآلاتها؛
حيث ستحذو بعض المناطق الملتهبة كإقليم دار فور وشرق السودان حذو حركة
التمرد في انتزاع حقوقها الموعودة من قِبَل تلك القوى الماكرة؛ وذلك عن طريق
العزف على وتر الجهوية وعداء العنصر العربي مما يجعل البيئة السياسية مواتية
بشكل أكبر لتدخل هذه المنظمات الكنسية. تغيير ذلك المستقبل نحو التفاؤل يتأتى
بتغيير ما في أنفسنا من الهزيمة النفسية تجاه مطالب أعدائنا التي لا منتهى ولا سقف
لها. قال تعالى: [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ
بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ] (الرعد: ١١) .