[عبر من فتنة دارفور]
أ. د. جعفر شيخ إدريس
كثيراً ما نردد القول بأن الإسلام منهاج حياة متكامل، وهو قول صحيح، لكننا قلما نهتدي بهذا الدين في شؤون حياتنا كلها، ولا سيما ما كان منها متعلقاً بالحياة الاجتماعية والسياسية. إننا كثيراً ما نتصرف في هذا الجانب من حياتنا وكأن الإسلام لا قول له فيها وهدي، بل كثيرا ما نقتدي فيه بما هو شائع في عصرنا من فكر ولا سيما الفكر الغربي. ولو أننا اهتدينا في هذا المجال بهدي ربنا وعددناه أمراً لازماً لنا باعتبارنا مسلمين، لتجنبنا كثيراً من المشكلات، ولكانت حياتنا أحسن وأسعد.
خطر ببالي هذا وأنا أتأمل فتنة دارفور التي صار السودان لا يُعرف إلا بها. تأملت بعض ما حدث فخطر ببالي:
أولاً: أننا كثيراً ما ننسى أمر الله ـ تعالى ـ لنا بالشورى، وأن لا يستبد أحد أو أفراد منا بالبت في أمر يهم غيرهم كما يهمهم. كان الخلفاء الراشدون من أكثر الحكام استشارة للناس وكانوا ـ كما ثبت عنهم ـ أكثر استشارة لهم في أمر الحروب؛ وذلك لأن الحرب شأن يهم كل إنسان لما له من تأثير قد يكون كبيراً على حياته. لكن إخواننا من أبناء دارفور الذين أشعلوا نار الفتنة هذه لم يروا أن من حق أهليهم عليهم أن يستشيروهم قبل إقدامهم على أي عمل عسكري. ماذا يفعل أهلهم هؤلاء الذين لم يستشاروا، والذين قد لا يرون ما رأوا؟ هل يدخلون في حرب معهم أم هل يرضون بأن يستبدوا بالأمر دونهم؟
ثانياً: لو أنهم ـ وهم المسلمون ـ اهتدوا بهدي دينهم لعلموا أن رسولهم -صلى الله عليه وسلم- نصحهم بأنه ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا كان العنف في شيء إلا شانه، ولبدؤوا لذلك بسلوك طرق الرفق في محاولتهم لما يريدون من رفع ظلم يرونه واقعاً على منطقتهم.
ثالثاً: ولو كانوا يهتدون بهدي دينهم لعلموا أن من أكثر ما حذر منه الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأئمة السنة من بعده هو الخروج المسلح على السلطة المسلمة الحاكمة. ولم يحذر الرسول من هذا إعانة للحكام الظلمة ـ حاشاه ـ وإنما حذر منه لعلمه -صلى الله عليه وسلم- بأن ما ينتج عن مثل هذا الخروج من مفاسد هو أضعاف ما يرجو الخارج تحقيقه من مصالح. لكن إخواننا الذين أقدموا على هذا الخروج إنما تأسوا فيه بسنة قرنق. قولوا لي بربكم: ماذا حقق قرنق؟ نعم لقد اضطرت الحكومة لمصالحته، بل لأن يكون نائباً أول لرئيس الجمهورية. لكن ما الثمن الذي دفعه أهل السودان جنوباً وشمالاً في مقابل ذلك؟ هلاك مليونين أو أكثر، وتشريد الجنوبيين أيدي سبأ، حتى إن عدده بشمال السودان صار أكثر منه بجنوبه؟ أهذا عمل يُقدم عليه إنسان في قلبه رحمة لأبناء بلده، أو حرص على مصلحتهم؟ وماذا حقق الخارجون من أبناء دارفور؟ موت المئات، وتشريد الآلاف، وحرق القرى وضياع الأموال، ثم التهديد بالوباء؟ هب أن الضغوط اشتدت على الحكومة وأنها اضطرت لمصالحتهم وإعطاء قادتهم ما أعطي قرنق؛ أذلك ثمن يدفعونه للحصول على هذه الجائزة؟ وعلى فرض أن الحكومة كانت مسؤولة عن الضر الذي سوغوا به الخروج عليها؛ فهل كان ذلك الضر أكبر من هذا الذي وقع بسبب فتنة الخروج؟
رابعاً: ألا يحزن إخواننا الذين تسببوا في هذه الفتنة على التشويه الذي أصاب سمعة بلد كان اجدادهم ولا يزال معاصروهم من صناعه والدفاع عن أرضه ودينه؟ أيحسبون أن هذا التشويه لسمعة بلادهم لا يصيبهم كما أصاب غيرهم؟ أليس من ضيق الأفق أن يظن أن هذا كله أمر لا يشين إلا سمعة حكومة هم أعداؤها؟
خامساً: وإذا كانوا قد رأوا أن من حقهم أن يثوروا ثورة مسلحة على حكومة بلادهم؛ فكان ينبغي أن يتوقعوا أن يهبَّ لمساعدتها خصومهم المناصرون لها. لكننا نبادر فنقول: إنه إذا كان من حق هؤلاء الخصوم أن يدافعوا عن حكومة مشروعة، فليس من حقهم أن يتجاوزوا الشرع في دفاعهم عنها. ليس من حقهم أن يحرقوا القرى، ولا أن يعتدوا بالقتل على الأبرياء، ولا يجلوا المسالمين من الرجال والنساء والولدان. وإذا صح أنهم تجاوزوا ذلك بالاعتداء الجنسي على نساء مسلمات فليعلموا أن هذا ظلم لا يجوز ارتكابه حتى في حق الأعداء من الكفار. وعلى الدولة أن تعاقب كل من ثبت ارتكابه لمثل هذه الفظائع.
سادساً: نقول كل هذا على افتراض أن ما حدث من خروج كان بدوافع الغيرة والحرص على مصلحة الأهل ورفع الظم عنهم. أما إذا صح ما يقال من أن كل هذا إنما كان لتحقيق مآرب سياسية حزبية ولإحراج حكومة هم من خصومها أو أعدائها او ضد توجهها الإسلامي، فإن الأمر يكون أفظع والجريمة تكون أكبر.
سابعاً: أرأيتم كيف فرح أعداء المسلمين بهذه الفتنة (التي يقال إنهم من صناعها) وكيف تداعوا إلى استغلالها، وكيف صوروها بغير صورتها من أنها تطهير عرقي، وأنها حرب بين العرب والأفارقة، وأنها من صنع حكومة عربية إسلامية لا تراعي في أعدائها الأفارقة ديناً ولا إلاًّ ولا ذمة، وأنهم إنما تداعوا للدفاع عن هؤلاء المظلومين، والانتقام لهم من حكومتهم الظالمة بالضغط عليها وتهديدها، وربما باتخاذ هذا ذريعة لغزو السودان وإعادة استعماره، ولكن باسم بعض الأسماء من أبناء وطنه كما حصل في أفغانستان والعراق؟
أحديث عن تطهير عرقي في بلد عقد صلحاً مع قرنق ليكون نائباً أول وهو رجل ليس فيه قطرة من دم عربي؟ أحديث عن عرب وأفارقة في وصف قوم يصنفون جميعاً ـ عند الأمريكان ـ بأنهم سود؟ أحديث عن دولة تعتدي على فئة من مواطنيها وهي فئة يزخر بها جيشها وتزخر بها عاصمتها، وتشارك في حكومتها وحزبها؟ ما بالهم لم ينبسوا ببنت شفة حين حركت حكومة كلينتون قواتها عام ١٩٩٣م لتحاصر فئة من أبناء بلدها في مدينة واكوا بتكساس كانت عصت أمر الحكومة بتسليم أحد أعضائها، فكان عقابها أن قطعت تلك القوات الماء والكهرباء عن القاعة التي كانوا معتصمين بها، ثم نفخت فيها غازاً التهب فأحرق كل من كان فيها من الرجال والنساء والأطفال البالغ عددهم أربعة وسبعين نسمة. وقد قيل إن حادثة كلوهوما إنما كانت انتقاما لهؤلاء المساكين. وما بالهم لا يعترضون على الآلاف من مواطني العراق الذين تعتدي عليهم قوات اجنبية أمريكية أو بريطانية؟ السبب هو أننا قوم ضعفاء سلاحاً واقتصاداً، وأن هؤلاء قوم لا يحترمون إلا من كان قوياً. ألا تراهم إذا توجهوا إلى السودان قالوا في استكبار إنهم ذاهبون ليضغطوا على الحكومة؟ أتراهم قائلين ذلك لو كانوا ذاهبين إلى الصين؟
ثامناً: مهما يكن من أمر فلا بد من إسكان هذه الفتنة بوفاق وسلام؛ فالله ـ تعالى ـ يأمرنا إذا تقاتل فئتان منا أن نصلح بينهما ويأمرنا إلى اللجوء إلى الصلح حتى بعد قتال الفئة التي تصر على البغي. إن الوفاق هو الذي يهدئ الخواطر ويعين على اجتثاث الحقد من القلوب. وأما بغير صلح ووئام فتبقى البغضاء دفينة في النفوس، ويوشك أن يستعر أُوارها لأدنى شرارة تقترب منها.
{وَإن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإن بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} .
[الحجرات: ٩] .
والله الموفق والهادي إلى سواء الصراط.
(*) رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة.