افتتاحية العدد
في ظل الأوضاع القائمة
أحداث.. ومعانٍ
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه إلى
يوم الدين، أما بعد:
فلقد شهدت الفترة الماضية مجموعة من الأحداث التي يضمها رباط واحد وإن
تباعدت أماكنها واختلفت أشكالها، كان من أبرزها الهجوم الدنيء والسافر في الوقت
نفسه على شخص الرسول -صلى الله عليه وسلم-، والقرآن الكريم، في صورة
ملصقات انتشرت على جدران مدينة الخليل، وأتبع ذلك نشر صورة مهينة للسيدة
مريم العذراء على صفحات مجلة يهودية، مما اضطر نتنياهو إلى إعلان (أسفه)
عن تلك الأعمال الساذجة مقارنة مع ما يقوم به (حكماؤهم) ! .. ثم ما كان من
تدنيس جنود يهود لنسخ من القرآن الكريم في إحدى المدارس الفلسطينية وتمزيقهم
لها، وأيضاً تحويل مسجد في مدينة (بئر السبع) إلى متحف، وإلقاء القمامة حوله
للحيلولة دون وصول المصلين إليه..
وفي الشمال من (إسرائيل الكبرى) في حلمهم أعلن (مسعود يلماظ) رئيس
الوزراء التركي العلماني الذي جاء إلى الحكم بانقلاب ديمقراطي نفذ على طريقة
(الهندسة الديمقراطية) ، أعلن أنه ماضٍ بلا رجعة في مشروعه لتمديد زمن التعليم
الإلزامي من خمس سنوات إلى ثمانٍ؛ بقصد الإقلال من أعداد المدارس الشرعية
وتقليص آثارها لدى التلاميذ؛ بدعوى حماية الاتجاه العلماني الأتاتوركي، مع
حفاظه على العلاقات الاستراتيجية بين تركيا و (إسرائيل) .. مما دعا الآلاف من
أنصار التيار الإسلامي إلى الخروج في مظاهرات جابت أكثر من مدينة كبرى،
منذرةً بأنها ستقطع اليد التي تمتد إلى القرآن..
وعلى الجانب الآخر من نهر الأردن جرت محاكمة الجندي (أحمد الدقامسة)
متهماً بقتل ٧ يهوديات بعد استفزازهنّ له وهو يصلي في موقعه، وقد سبق ذلك أنه
سمع بعض اليهود ينادي على كلب لهم باسم: (محمد) ! ! .. ورغم أنه ثبت لدى
المحكمة إصابة الجندي باضطرابات نفسية مَرَضية، إلا أنها حكمت عليه بأقصى
عقوبة في القانون الأردني لجرائم القتل العمد، مما دعا مسؤولين صهاينة للإشادة
بالقضاء الأردني! ! ..
ثم جاء الهجوم التفجيري المزدوج في القدس، الذي أدار المرآة في وجه نجوم
التمثيلية السلمية المملة، ليُرى وجه نتنياهو فزعاً، رافضاً اعتذار (عرفات)
وتعازيه، مع توبيخه على عملية لم تحدث في نطاق سلطته بالوكالة، ولم تنطلق
منها.. وسرعان ما أصدر أوامره للقبض على المئات من المنتمين إلى التيار
الإسلامي أو المتعاطفين مع فصائله ممن لم تثبت بعدُ علاقتهم بالعملية، ولم يقوموا
بأي أعمال عنف (أصحاب رأي وتوجه) ، ليشملهم بضيافته الكريمة في المعتقلات
الفتية للسلطة الناشئة التي تحبو بين يدي المحتل الغاصب؛ وذلك حتى يثبت
لمخرج المسلسل ومنتجه أنه مندمج في دوره، متناغم مع جوقته..
فماذا تعني هذه الأحداث؟ !
لا شك أنها تعني أن التكالب والتداعي المفعم بالتعالي والصلف، والتنمر على
القصعة الإسلامية، من قِبَل أعداء الأمة وصل حدّاً من الجرأة قَلّ أن بلغه في تاريخ
مواجهاتهم التاريخية، وأن هذا التداعي والتعالي يستند إلى اطمئنان مبعثه مسلسل
من التجارب السابقة بأنّ أقصى ما يفعله من بيدهم أزمة الأمور هو إطلاق عيار
(الاستنكار والتنديد والاحتجاج) ! يسكتون به شعوبهم المغلوبة على أمرها! !
فـ (حرية) سلمان رشدي، وتسليمة نسرين، ونصر أبو زيد الفكرية،
وتصديق (جنون) محرِق المسجد الأقصى، و (ناعوم فريدمان) الذي أطلق النار
على المتسوقين في الخليل، و (جولد شتاين) الذي قتل المصلين في (المسجد
الإبراهيمي) ، والتجاوز عن (الأخطاء غير المقصودة) في المذابح الجماعية التي لم
يكن أولها (دير ياسين) ولا آخرها (صبرا وشاتيلا) ولا (قانا) ..
والسكوت (بواقعية) عن فتح نفق المسجد الأقصى، وعن التصريح لمتطرف
يهودي بأداء طقوسه الدينية داخله، وبناء مستعمرة جبل (أبو غنيم) .. والتهديد
ببناء مستعمرة (باب العمود) و (احترام) الشرعية الدولية في حصار الشعوب في
الشرق والغرب.. ومن قبل ذلك ومعه: فرض القوانين الوضعية الكفرية وتنحية
شريعة الله، ومد الأيادي إلى الغرب النصراني والشرق الملحد؛ مع مد الأرجل
على الشعوب الإسلامية المستكينة ... كلها نماذج تدعم هذا التصور الراسخ لديهم
وتغري قياداتهم وأفرادهم بممارسة المزيد من الحوادث والأفعال التي لا تستحق
سوى المزيد من الأسف ذرّاً للرماد في العيون! ! ..
وتعني أيضاً أن النخبة العلمانية (التي ما زالت تصر على إلصاق نفسها
بالإسلام) تزداد تعانقاً مع الغرب و (إسرائيل) كلما ازدادت توغلاً في علمانيتها،
حتى وصل الأمر بقومي علماني يساري معروف هو الكاتب.. (لطفي الخولي) إلى
أن يصرح لجريدة صهيونية قائلاً: (إنه لا يوجد صراع بين مصر وإسرائيل، بل
إن الصراع هو بين البلدين من جهة وبين الأصولية الدينية الإسلامية واليهودية من
جهة أخرى! ! ، وقال: إن صلاح إسرائيل هو صلاح لنا يقصد العرب! ! وإن
إسرائيل ليست جزءاً في الشرق الأوسط مثل تركيا وإيران، بل هي في قلب
المنطقة، وأمنها وسلامتها ومستقبلها واقتصادها مرتبط باستقرار المنطقة العربية!!) [١] .
ولا غرابة في هذا الموقف من منظّر (قومي) علماني، فزعيمهم الأوحد أيام
المد القومي من الخليج الثائر إلى المحيط الهادر.. كان قد قبل (إسرائيل) رافداً من
روافد البِرْكة العربية الآسنة بقبوله قرار مجلس الأمن رقم ٢٤٢، بل وإلحاحه عليه
وهو القرار الذي يعترف صراحة! بشرعية وجود (إسرائيل) في المنطقة، بل إنه
كان يمد يده بـ (السلام) إليها عبر مشروع ومبادرة (روجرز) ، وبالطبع لم يكن
يتباحث حينها لإلقاء إسرائيل في البحر ولا حتى في النهر.
وتعني هذه الأحداث أيضاً أن روح المقاومة والتململ من الواقع المرير لم
تخمد في الأمة، وأنه كلما ظن أعداؤها أنهم أوشكوا على القضاء عليها خرج لهم
شبيبة لفظوا الدجل العلماني، ولم يتشربوا الذل الاستسلامي، ليسطروا على جبين
الأمة: أن (لا) ، لن نرضى بالدنيّة، وسنقطع الأيدي التي تمتد إلى قرآننا ونبينا ...
فيا أيها الحاكمون بأمرهم ويا رعاة السلام الموهوم.. نؤكد لكم أن هؤلاء
الشبيبة لم يقصدوا أن يعكروا عليكم صفاء مسيرتكم التباحثية التي آلت إلى التداول
حول فتح شارع أو إغلاق نفق أو إيقاف بناء عمارات، كما نؤكد لكم أن هؤلاء
الشبيبة مجانين! ! ، وهل يمزق ستار الوهن العربي اليوم إلا المجانين، لا سيما
أن الدماء التي أريقت في القدس سببها المباشر اليهود أنفسهم حينما نشروا على
جدران الخليل تلك الإساءات لنبينا محمد.
غير أن ما يُؤسف له بل هو المتوقع والذي سبق أن أكدناه كثيراً أن التداعي
على عملية السلام لم تؤتِ ثمارها المتوهمة، ولم تزد اليهود سوى غطرسة
وعنجهية وإذلالاً مستمراً لعرب السلام، وما زالوا مستمرين على نهجهم هذا، ولا
نرى في نظرنا من أمل إلا الوقوف بصلابة أمام العدو، وإفهامه اللغة التي يعرفها،
وذلك بإطلاق الاتجاهات الإسلامية لتحقيق الموقف الصحيح، ليس رد فعل لما
يحصل، بل تقريراً لحقائق شرعية ومنطلقات أساسية تمس حياة الأمة؛ وهذا ما
فطن له اليهود أنفسهم بترشيحهم (الليكود) ليحكم، وها هو ذا يماطل فيما يسمى
بعمليات السلام الموهوم بشكل مستمر وكأن شيئاً من الاتفاقيات السلمية المعقودة
معهم لم يكن.
إننا نثق تماماً أن الملحمة بين المسلمين واليهود ستتم، وحينها سينطق الشجر
والحجر: يا عبد الله! يا مسلم! هذا يهودي ورائي، تعالَ فاقتله، [وَاللَّهُ غَالِبٌ
عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ] [يوسف: ٢١] .
(١) مجلة الشراع اللبنانية في ١٠/٣/١٤١٨هـ الموافق ١٤/٧/١٩٩٧م، ص ١٥.